في يوم واحد، برزت الانقسامات الحادة بين المرجعيتين الكبيرتين لدروز المشرق العربي، كما لم تظهر من قبل على الإطلاق.
فبينما كان وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، يلتقي في دمشق الرئيس السوري أحمد الشرع الجمعة الماضي، كان الشيخ موفق طريف، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل، يتلقى في اليوم نفسه اتصالًا من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ووفق ما ورد في بيان رسمي، شكر طريف نتنياهو على "توجيهاته التي قضت بالتحرك لحماية دروز سوريا"، مشيرًا بشكل خاص إلى قرار استهداف مجمع القصر الرئاسي في دمشق، والذي نُفّذ في إطار "رسالة ردع واضحة للنظام السوري"، على حد تعبيره.

كلاهما (جنبلاط وطريف) كانا يسعيان لهدف واحد وإن تناقض مضمونه لدى كل منهما، وهو الحفاظ على المكوّن الدرزي السوري من نفسه أو من الآخرين. فالأول جنبلاط لا يرى سبيلًا لذلك سوى بوحدة سوريا و"مواطنية" دروزها، والثاني بحمايتهم حتى لو بتدخل عسكري إسرائيلي.
الهجري يدعو لتدخل دولي
وجاء تحرك جنبلاط وطريف بعد دعوة غير مسبوقة في وضوحها لتدخل دولي في سوريا أطلقها الزعيم الدرزي السوري حكمت الهجري الذي أصدر بيانًا الخميس الماضي 1 مايو/ أيار، دعا فيه إلى تدخل دولي، قائلًا: "يلزم وبشكل فوري أن تتدخل القوات الدولية لحفظ السلم، ولمنع استمرار هذه الجرائم ووقفها بشكل فوري، ونطلق هذا النداء العاجل للإسراع بحماية شعب بريء أعزل".
وأشار الهجري إلى أن أعمال العنف التي اندلعت أخيرًا في منطقتي جرمانا وصحنايا بريف دمشق "جاءت فقط للقتل والترويع، للإرهاب وفرض السطوة، دون تبرير ودونما أي حاجة لها".
وقُتل أكثر من 12 شخصًا في بلدة جرمانا (جنوبي شرق دمشق) الثلاثاء الماضي في اشتباكات اندلعت بسبب تسجيل منسوب لرجل درزي يسبّ فيه النبي محمد (ص)، وامتدت الاشتباكات في اليوم التالي إلى صحنايا المجاورة.
وفي اليوم نفسه، قال الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل موفق طريف، لمجموعة من أنصاره في تسجيل مصوّر (الثلاثاء) إن رئيس الوزراء الإسرائيلي أصدر تعليمات تتعلق بالوضع في سوريا، مضيفًا أن "تغييرًا قريبًا" سيحدث، ومشدّدًا على أن "دولة إسرائيل، والجيش، والعالم يقفون إلى جانبنا".

موفق طريف يهدّد بنتنياهو
وقال طريف في بيان، إنه يتابع "على مدار السّاعة، ما يرد من الأنباء المتعلقة بالأحداث في مدينة جرمانا"، إثر ما سمّاه الهجوم الإرهابي الغاشم الذي "أدّى إلى ارتقاء ستّةٍ من شباب الطّائفة وأبنائها الأشاوس، خلال دفاعهم عن الأرض والعرض والدين".
وأوضح أنه أجرى اتصالاتٍ مع وزير الأمن الإسرائيلي، وقائد المنطقة الشماليّة في الجيش الإسرائيلي الذي عقد مع طريف اجتماعًا أمنيًا طارئًا لبحث المستجدّات الأخيرة، وحذّر طريف من استهداف الطائفة وأبنائها في سوريا، مؤكدًا أن أي اعتداء سيؤدي إلى عواقب وخيمة.
وفي اليوم التالي لتحذير طريف، أعلن نتنياهو ووزير أمنه يسرائيل كاتس إن الجيش نفّذ "عملية تحذيرية وقصف مجموعة متطرفة" بينما كانت تستعد لمواصلة الهجوم على الدروز في صحنايا، وأضافا: "في الوقت نفسه، وُجّهت رسالة إلى النظام السوري مفادها أن إسرائيل تتوقع منه التحرك لمنع إلحاق الأذى بالدروز".

جنبلاط: طريف يورّط بني معروف
ما حدث من اصطفافات بين قسم من دروز سوريا، أو من زعاماتهم الدينية على الأقل، مع الزعامة الدينية للطائفة في إسرائيل التي تدين بالولاء للدولة هناك، استدعى ردًا فوريًا وحازمًا من الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، الذي حذّر الأربعاء، من محاولات إسرائيل توريط أبناء الطائفة الدرزية في سوريا في صراع مفتوح ضد المسلمين.
وفي كلمة ألقاها خلال اجتماع لرجال دين وسياسيين دروز في لبنان، قال جنبلاط إن “حفظ الإخوان يكون برفض التدخل الإسرائيلي”، معتبرًا أن “ما يجري اليوم من خلال الشيخ موفق طريف وأتباعه يهدف إلى توريط بني معروف في حرب لن تنتهي ضد المسلمين”.

وأضاف: “إذا كان أحد يظنّ أن المشروع الإسرائيلي مختلف عما أقول، فهو واهم. يُراد من أقلية صغيرة أن تحارب كل المسلمين، وفي ظل العجز العربي سيُتَّهم الدروز بأنهم جنود في جيش الاحتلال”.
ويتوزع الدروز على سوريا ولبنان وإسرائيل والأردن وبلدان المهجر، ولا يُعرف عددهم بشكل دقيق، لكنّ إحصائيات بعضها يعود إلى أكثر من عقد تقدّرهم بنحو مليون ونصف إلى مليوني نسمة في العالم، تسكن الكتلة الأكبر منهم في سوريا.
وقدّر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى عام 2010 عددهم في سوريا بنحو 700 ألف نسمة أو يزيد قليلًا، بينما تقدّرهم تقارير صحافية ما بين 800 ألف إلى مليون نسمة، يعيش أغلبهم في محافظة السويداء (على بعد 100 كم جنوب مدينة دمشق).
ويعيش في لبنان ما بين 350 ألفًا و 400 ألف درزي، يقطنون 136 قرية في حاصبيا وراشيا والشوف وعاليه ومرجعيون وبيروت، ويشكّلون الأغلبية في مدن عاليه وبعقلين وحاصبيا وراشيا.
أما في إسرائيل فتقدّر أعدادهم ما بين 141 ألفًا إلى نحو 150 ألفًا، من بينهم نحو 24 ألفًا في مرتفعات الجولان المحتلة.
ويتواجد معظم الدروز الإسرائيليين في مدينة الجليل وجبل الكرمل، ومرجعيتهم الدينية هو الشيخ موفق طريف رئيس المجلس الديني الدرزي الأعلى وقاضي المذهب ورئيس محكمة الاستئناف الدرزية العليا في إسرائيل.

طريف.. وأسرلة الدروز
ولد طريف عام 1963 في قرية جولس في الجليل شمالي فلسطين، لعائلة من رجال الدين الموحّدين، ودرس في المدرسة الدينية الدرزية العليا في خلوات البياضة.
وتقع خلوات البياضة في قضاء حاصبيا بمحافظة النبطية في لبنان، وهي معقل الطائفية الدرزية وتعتبر من أكثر الأماكن المقدّسة لديهم، وتوصف بأنها "المحل الأزهر الشريف"، وتضم خلوات عبادة لدروز المنطقة بأسرها.
ودرس طريف القانون في الكلية الأكاديمية "أونو" التي يؤمها غالبًا أبناء الطائفة الدرزية في إسرائيل، واُنتخب عام 1993 خلفًا لجدة من جهة الأم الشيخ أمين طريف.

عُرفت عن طريف علاقته الدافئة مع المسؤولين الإسرائيليين، ودفاعه عن إسرائيلية الدروز ومواطنيتهم في الدولة العبرية، وقد منحته جامعة حيفا عام 2010 الدكتوراه الفخرية، وفي 2018، وفي ذكرى إنشاء إسرائيل تم اختياره من بين مشعلي "شعلة الاستقلال" خلال احتفال رسمي أُقيم بهذه المناسبة.
جنبلاط: طريف لا يمثّلنا
وبسبب علاقته الوثيقة مع إسرائيل فقد انتقده الزعيم اللبناني وليد جنبلاط مرارًا، خاصة بسبب محاولات طريف احتكار تمثيل الدروز في المنطقة، والترويج لإسرائيل باعتبارها حامي الأقليات، وتحديدًا الدرزية.
وعندما وقعت أحداث جرمانا الأولى في مطلع مارس/ آذار الماضي، أكد جنبلاط أن الشيخ موفق طريف "لا يمثلنا (الدروز)"، مشدّدًا على أنه "مدعوم من القوى الصهيونية".
كما دعا جنبلاط، خلال اجتماع المجلس المذهبي الدرزي في فردان في بيروت، من وصفهم بـ"الأحرار في جبل العرب" للحذر من المكائد الإسرائيلية في سوريا"، قائلا إن إسرائيل تستخدم الطوائف لمصلحتها ولتفتيت المنطقة:
الصهيونية تستخدم الدروز جنودًا وضباطًا لقمع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، والمخطط اليوم هو الانقضاض على جبل العرب.
أول زيارة لدروز سوريا لإسرائيل
في 14 مارس/ آذار 2025 توجه وفد من 60 رجل دين درزي سوري إلى إسرائيل، عبر خط الهدنة في مرتفعات الجولان المحتل، في أول زيارة من نوعها منذ حوالي 50 عامًا. وزار الوفد مقام النبي شعيب في بلدة جولس بالقرب من طبريا، والتقى موفق طريف.

ووجد طريف في الزيارة مناسبة للرد على جنبلاط قائلًا:
أود أن أُذكّر وليد جنبلاط، أنه عندما كانت هناك محنة في الجبل، كان أبناء الطائفة الدرزية في بلادنا السد المنيع الذي قدّم الإمدادات والمساعدات. نحن دائمًا مستعدون لمساعدة أهلنا في أي مكان، وإذا تعرّضوا لأي اعتداء، سنتصرف بالمثل.
وأضاف طريف أنه لا يتدخل في الشؤون السورية السياسية أو الداخلية مطلقًا، وقال إن أي قرار يتخذه دروز سوريا هو شأنهم الخاص، "ولكن من الواجب علينا أن نقدم الدعم الإنساني لهم فقط، ولن نسمح بأي اعتداء على أبناء الطائفة الدرزية أو، لا سمح الله، حدوث مجازر ضدهم".
وفيما يتعلق بالزيارة التي قام بها الوفد الدرزي السوري، قال طريف إنها زيارة دينية بحتة، و"نأمل أن تتكرر وأن يُسمح لنا كأبناء طائفة درزية بزيارة الأماكن الدينية، كما يحق لإخواننا المسلمين والمسيحيين الحج إلى مكة وزيارة القدس".
نتنياهو يعزّي بقتلاه الدروز
واستقبل طريف في يوليو/ تموز 2024 رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي زاره لتقديم التعازي في الجنود من أبناء الطائفة الدرزية الذين قتلوا خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ولبنان، وآنذاك وجّه جنبلاط رسالة إلى طريف قال فيها:
كان من الأفضل لكرامة الطائفة أن لا يتم استقبال نتنياهو تحديدًا في ظل العدوان القائم على الشعبين الفلسطيني واللبناني، وأن لا تتم إقامة ولائم الغداء له التي تستبيح بالشكل والمضمون مشاعر وكرامات الفلسطينيين القابعين تحت القصف والحصار والجوع.
وأكد جنبلاط في رسالته إلى طريف أن موقفًا واحدًا منه بإدانة العدوان على الشعب الفلسطيني والمدنيين الأبرياء والأسرى، كان كفيلاً بوضع حد لكل الهجمات التي تتعرض لها الطائفة التي أشار إليها طريف في بيانه الخاص بدروز سوريا، وسأل جنبلاط طريف:
لماذا هذا الخوف أو التردد في اتخاذ موقف مناهض لما تقوم به حكومة نتنياهو، وأنت الرئيس الروحي لطائفة عريقة مرموقة عربية إسلامية، واجهت الكثير ولها موقعها الذي يهابه الجميع؟
ولم يتأخر الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل في الرد على جنبلاط بحدّة مع إيحاءات بتناقض مواقف الزعيم اللبناني، قائلًا إن أفراد طائفته "مواطنون في دولة ديمقراطية" على حد وصفه، داعيًا الزعيم اللبناني لاحترام موقفهم:
موقفنا في هذا الشّأن موقفٌ واضح وشريف، نأمل أن تحترمه كما نحترم مواقفكم، حتى عندما نراها تتقلّب وتتغيّر تجاه قضايا لبنان ومركّبات لبنان، حيث اعتدنا دائمًا أن نحترم خصوصياتكم دون تدخل منا. بعد أن تتيسّر الحال أمامكم بحل المشاكل الداخلية في لبنان، باعتبارك أحد زعمائها وقادتها البارزين، سنتحدث حول طرق مساعدتنا للأخوة الفلسطينيين، من أجل نيل حقوقهم وبناء دولتهم.
نحن في هذه البلاد، نعيش بحرية واحترام، ولا نخاف ولا نهاب من أي إنسان كان. لا نتردّد في اتخاذ أي موقف لمصلحة الطائفة، ولن نرضى أن يزاود عليها أحد. وللطائفة الدرزية في البلاد نواب في البرلمان ورؤساء مجالس وبلديات، يقومون بالواجب السياسي المطلوب منهم تجاه الطائفة وحقوقها، دون تردّد أو وجل. وفي أعرافنا، فإننا نستقبل ونحترم من يزورنا من أجل مصلحة الطائفة وحقوقها بغض النظر عن شخصه.

حلف الدم بين بن غوريون والدروز
ولا يُتوقع أن يغيّر تدخل جنبلاط في الأزمة الدرزية التي تتصاعد في سوريا من مواقف الشيخ موفق طريف المؤيدة تاريخيًا لإسرائيل ومشاريعها، ولكن من المرجح أن يقيم ما يمكن اعتبارها حواجز أخلاقية وسياسية أمام جزء من المكوّن الدرزي السوري، تحول دون اندفاعته باتجاه إسرائيل والانخراط في مشاريعها، ومنها إقامة كانتون درزي في جنوبي البلاد.
ويعتبر ولاء دروز إسرائيل حالة شاذة في التاريخ الدرزي، حيث لعب دروز المنطقة أدوارًا وطنية وقومية مشهودة في التاريخ المعاصر، وخصوصًا في سوريا ولبنان، بينما ارتبط الدروز وجوديًا بإسرائيل منذ قيامها، وكان أول انخراط فعلي لهم في الصراع خلال حرب النكبة عام 1948، حين قاد فوزي القاوقجي جيش الإنقاذ السوري، وحشد كتيبتي "الحسين" و"القادسية" من الدروز الذين بلغ عددهم 360 جنديًا لمحاربة العصابات الإسرائيلية والدفاع عن فلسطين.
استقرت قوات القاوقجي الدرزية في منطقة "شفا عمرو"، وكانت تهاجم المستوطنات اليهودية، إلا أن قائد الكتيبة الدرزية شكيب وهاب عقد اتفاقًا مع ميليشيا الهاغانا الصهيونية للانسحاب، ففر كثير من جنوده إلى إسرائيل، وشكّلوا نواة الملتحقين من الدروز بالجيش الإسرائيلي.
وفي 1949 تم تأسيس وحدة الأقليات من الدروز والشركس والبدو وتسليحها بأسلحة خفيفة لمنع عودة الفلسطينيين المهجرين من قراهم إلى بلداتهم، استنادًا إلى ما عُرف لاحقًا بـ"حلف الدم" القائم على حقن دماء الدروز مقابل الولاء لإسرائيل، والذي منحه الشرعية ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي.
وفي 1956، تم سنّ قانون يُلزم الدروز بالالتحاق بالجيش، وفي 1974 نشأت الكتيبة الدرزية المسماة "حيرف"، وتعني السيف، وهي قوة برية في عداد القوات النظامية للجيش، معظم جنودها من الدروز.
هذا وتبلغ نسبة الدروز الذين يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي 85%، وهي تفوق نسبة اليهود المنخرطين في صفوف الجيش.