في خضم الحرب الإسرائيلية الحالية الأكثر دموية على الفلسطينيين منذ نكبة 1948، صدر كتاب "ضد المحو" في مدريد للمصوّرة الإسبانية ساندرا باريلارو، والصحفية تيريزا أرانجورين، كمثال ودليل على تاريخ فلسطين التي يُريد الكثيرون في إسرائيل التظاهر بأنّها لم تكن موجودة على الإطلاق.
وقامت الخبيرتان في الصراع العربي - الإسرائيلي، بالردّ على النسخة الإسرائيلية من التاريخ التي لم تمحو المجتمع الفلسطيني فحسب، بل تعمل على مسح ذاكرته.
يُترجم العنوان الأصلي باللغة الإسبانية إلى "ضد النسيان"، وهو اسم كتاب للشعر، لكنّ الناشرين الناطقين باللغة الإنكليزية استقرّوا على عنوان "ضد المحو" بدلًا منه.
رأت صحيفة "الغارديان" البريطانية أنّ عنوان الكتاب يبدو أكثر وضوحًا ليس فقط بسبب الحرب الحالية في غزة، ولكن بعد سنوات مما تصفه جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية بأنّه نظام "التفوّق اليهودي في الضفة الغربية الذي يهدف إلى محو أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة".
وأضافت أنّ هذا هو "النظام نفسه الذي بذل قصارى جهده لجعل الفلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال، محصورين خلف حاجز الضفة الغربية الضخم أو محبوسين في غزة".
شهادة مرئية لغنى المجتمع الفلسطيني
والكتاب هو شهادة مرئية لما وُجد في المجتمع الفلسطيني. وتكمن قوة هذا الكتاب في الصور التي تمثّل اتساع المجتمع الفلسطيني وغناه قبل النكبة. إنّها تُظهر مجتمعًا كاملًا، مجتمعًا غنيًا وأرضًا وفيرة. كما تُظهر تنوّع المجتمع الذي يقطع شوطًا طويلًا في مواجهة الرواية الصهيونية القائلة إنّها "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
وتظهر في احدى صور الكتاب عشرون فردًا من عائلة الفرا مجتمعين بهدوء لالتقاط الصورة، حول طاولة خشبية تحت أشجار دير ستيلا ماريس على جبل الكرمل، أعلى ميناء حيفا. التقطت الصورة في أبريل/ نيسان 1948. لكن خلف ذلك الهدوء، تعاني المدينة من حصار وقصف منظمة "الهاغانا" الصهيونية الرئيسية التي أصبحت فيما بعد نواة جيش الاحتلال.
وفرّ الكثير من سكان حيفا العرب، لكن عائلة الفرا بقيت في الدير. وبعد احتلال المدينة وأصبحت جزءًا من إسرائيل المنشأة حديثًا، عادت العائلة إلى منزلها لتجد أنّ عائلة يهودية استولت عليه.
وتضمّ صفحات الكتاب صورًا لتلاميذ مدرسة الخليل للمكفوفين في أوائل الأربعينيات، وموظفي المستشفى المحلي، وفرق كرة القدم والمسرحيات المدرسية والكشافة في أنواع مختلفة من أغطية الرأس من القبعات ذات الحواف العريضة إلى الكوفية.
ويسلط الكتاب الضوء على أعمال كريمة عبود، أول مصوّرة فلسطينية محترفة أدارت استوديوهات في القدس وحيفا. ومن بينها صورة لفتاتين من الناصرة تقفان أمامها عام 1928 بنظرات حذرة من الكاميرا.
"صور تُعيد وطننا"
وجمع المؤرخ جوني منصور الذي يعيش في حيفا وقضى سنوات في جمع التاريخ الشفهي والصور الفوتوغرافية للتجربة الفلسطينية، العديد من صور الكتاب من أرشيف عائلة الفرا.
عام 1948، فرّت عائلة منصور من حيفا، وأمضى حياته منذ ذلك الحين في جمع الأدلة عما كان موجودًا في السابق.
وكتب منصور في الكتاب: "لدي اعتقاد راسخ أنّه بينما فقد شعب فلسطين أرضه، فإنه يرفض أن يخسر تاريخه. وباعتباري أحد الأطفال والناجين من هذا الشعب، أعرف مدى صدق علاقتنا بالأرض وماضيها وتاريخها وصورها ووثائقها".
وأضاف: "الصور مجتمعة تُعيد إلينا ما نحتاج إليه بشدة: وطننا".
انغماس في العقاب الجماعي للفلسطينيين
إلى جانب ذلك، يُذكّر كتاب "ضد المحو" أنّ فلسطين لم تكن حرة أبدًا، حيث احتلتها إمبراطوريتان قبل النكبة، في دليل على أنّ جيش الاحتلال لم يكن أول من انغمس في العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين.
وتظهر إحدى الصور رجلين أمام لافتة الخطوط الجوية الإمبراطورية في مطار غزة عام 1935، إضافة إلى مهندسي الجيش البريطاني وسط أنقاض المنازل المدمرة في يافا لمعاقبة عائلات الذين شاركوا في الثورة العربية عام 1936.
كما يضم الكتاب صورًا للأعلام السوداء التي كُتب عليها "تحيا فلسطين" وهي معلقة في سوق القدس في يوم إعلان بلفور عام 1917.
وتظهر الصور التي التقطت بعد عقدين من الزمن، الثورة الكبرى بسبب الارتفاع الحاد في الهجرة اليهودية وملكية الأراضي، والمخاوف من أن يفي البريطانيون بوعد بلفور.
ويسرد كتاب "ضد المحو" أسماء 418 قرية فلسطينية تمّ تهجير سكانها خلال النكبة وتدميرها أو الاستيلاء عليها من قبل اليهود وأطلقوا عليها أسماء عبرية، في خطوة يسمّيها الكتاب "الإبادة الاجتماعية".
وفي بعض الأماكن، قُتل السكان الفلسطينيون. وقد تكون مجزرة دير ياسين الأكثر شهرة.
وينقل الكتاب عن جاك دي رينييه رئيس وفد اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بعد زيارة إلى دير ياسين، وصفه لمذبحة العرب: "دون أي سبب عسكري أو استفزاز من أي نوع؛ لقد تم قتل كبار السن والنساء والأطفال والمواليد الجدد بوحشية بالقنابل اليدوية والسكاكين على يد القوات اليهودية التابعة لمنظمة الإرغون".
نجت عائلة الفرا من هذا المصير، إلا أنّ الحياة التي عاشها أفرادها قبل النكبة، والتي ظهرت في صفحات الكتاب، انتهت. لكن إلى جانب صورهم في بيروت بعد فرارهم أثناء النكبة، توجد نسخة من جواز سفر لأحد أفراد الأسرة، تقف كشهادة خاصة ضد المحو، إذ تنصّ الوثيقة باللغات الإنكليزية والعربية والعبرية على أنّه جواز سفر فلسطيني، وأنّ حامله مواطن فلسطيني.