تبدأ حركة طالبان الحاكمة في أفغانستان بتطوير علاقاتها الدبلوماسية مع الهند، فتزداد العلاقة بين إسلام أباد وحركة طالبان باكستان سوءًا.
وكان يوم الجمعة الماضي تاريخيًا في علاقات نيودلهي بكابل، إذ أعلنت الهند إعادة فتح سفارتها في أفغانستان التي أُغلقت بعد عودة الحركة إلى السلطة عام 2021.
جاء ذلك بعد زيارة غير مسبوقة منذ أربعة أعوام لوزير الخارجية في حكومة طالبان، أمير خان متقي، إلى نيودلهي، قال خلالها إنّ الهند "سترفع مستوى بعثتها الفنية إلى بعثة دبلوماسية في كابول، وسيأتي دبلوماسيونا إلى هنا أيضًا".
وكان مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية الهندية قد التقى متقي في دبي مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، وقالت الخارجية الهندية في حينه إنّ نيودلهي مصمّمة على "تعزيز علاقتها الطويلة الأمد مع الشعب الأفغاني".
يُذكر أنّ الهند أغلقت سفارتها في كابل بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان في أغسطس/ آب 2021، وافتتحت لاحقًا بعثة صغيرة هناك عام 2022 لتسهيل التجارة والدعم الطبي والمساعدات الإنسانية.
تقارب مع الهند وصراع مع باكستان
ترتبط الهند وأفغانستان تاريخيًا بعلاقات ودّية، ويندرج تقاربهما الأخير في سياق تغيّرات جيوسياسية كبرى في منطقة جنوب آسيا أعقبت الانسحاب الأميركي من أفغانستان، فضلًا عن توتر علاقاتهما مع باكستان. فمنذ عودة طالبان إلى السلطة عام 2021، والعلاقات مع إسلام أباد في تدهور مستمر، إذ تتّهم باكستان جارتها أفغانستان بإيواء متشدّدين يشنّون هجمات عليها بتسهيلات من كابول ونيودلهي معًا.
ورغم أنّ حركة طالبان تمثل نموذجًا يتناقض مع التوجّه القومي الهندوسي المتشدّد لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، فإنّ حكومته وجدت في العلاقات بين طالبان وباكستان فرصة لا تُفوّت لإبعاد الحركة أكثر عن إسلام أباد، وقطع الطريق أمام النفوذ الصيني الآخذ في التوسع في المنطقة.
في المقابل، وجدت إسلام أباد في الإطاحة برئيسة الوزراء السابقة في بنغلادش الشيخة حسينة وهروبها إلى الهند العام الماضي فرصة للتقارب مع دكا، التي اتسمت علاقاتها بالسوء مع باكستان منذ استقلالها عنها عام 1971 بعد حرب مدمّرة.
وتزامنت زيارة وزير خارجية طالبان إلى نيودلهي مع أسوأ توتر في علاقات الحركة مع جارتها الباكستانية، إذ تحوّل هذا التوتر إلى اشتباكات عنيفة بين قوات طالبان الحكومية والجيش الباكستاني على طول الحدود بين البلدين يوم السبت الماضي.
إسلام أباد تقصف كابل
وسبق ذلك قيام طائرات حربية باكستانية يوم الخميس الماضي بشنّ غارات على العاصمة الأفغانية كابل استهدفت قيادات بارزة في حركة طالبان باكستان، من بينهم زعيمها المفتي نور ولي محسود، الذي نجا من الاستهداف. وأكد مسؤول أمني باكستاني أنّ إحدى الغارات الجوية استهدفت سيارة يستخدمها محسود.
ووصفت وزارة الدفاع الأفغانية الهجوم الباكستاني بأنه عمل عنيف واستفزازي و"غير مسبوق في تاريخ أفغانستان وباكستان"، فيما برّرت إسلام أباد تحركها العسكري بالقول إنّ صبرها على كابول بدأ ينفد.
وشدّد الفريق أحمد شريف تشودري، المتحدث باسم الجيش الباكستاني، على أنّ بلاده تبذل كل ما هو ضروري "لحماية أرواح الشعب الباكستاني"، مؤكدًا أنّ مطلبها لأفغانستان هو "ألا تُستخدم أراضيكم للإرهاب ضد باكستان".
من جهته، أكد وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف أنّ الجهود العديدة لإقناع طالبان بالتوقف عن دعم حركة طالبان باكستان باءت بالفشل، مشددًا على أنّ بلاده لن تتسامح "مع هذا الأمر بعد الآن"، وأضاف: "كفى، لقد نفد صبر الحكومة والجيش الباكستانيّين".
أما رئيس الوزراء شهباز شريف فتوعد بأنّه "لن تكون هناك أي مساومة على الدفاع عن باكستان، وسيقابَل كل استفزاز بردٍّ قوي وفعّال"، فيما قال وزير الداخلية محسن نقفي إنّ "أفغانستان تلعب بالنار والدم"، وستتلقى "ردًا قويًا لن تجرؤ بعده على النظر بعدائية إلى باكستان".
وجاءت الغارات الباكستانية على كابل بعد يوم واحد فقط من اشتباكات عنيفة مع حركة طالبان باكستان في إقليم خيبر بختونخوا، أعقبت نصب الحركة كمينًا لرتل عسكري باكستاني قرب الحدود مع أفغانستان في الثامن من الشهر الجاري، أسفر عن مقتل عدد من الجنود الباكستانيين.
طالبان باكستان.. هجمات تتزايد
كثّفت حركة طالبان باكستان في الشهور الأخيرة هجماتها داخل الأراضي الباكستانية. وهي جماعة منفصلة عن حركة طالبان الأفغانية لكنها تشترك معها في العقيدة نفسها. وتقول إسلام أباد إنّ مسلّحي الحركة يستخدمون الأراضي الأفغانية للتدريب والتخطيط للهجمات، بينما يتلقون التمويل والدعم من الهند.
وبحسب مصادر عسكرية في إسلام أباد، قُتل أكثر من 500 شخص، بينهم 311 جنديًا و73 شرطيًا، في هجمات نفذتها الحركة منذ يناير/ كانون الثاني حتى 15 سبتمبر/ أيلول الماضيين.
وكان عام 2024 الأسوأ من حيث الخسائر البشرية في باكستان منذ نحو عقد، مع مقتل أكثر من 1600 شخص، معظمهم جنود.
أُنشئت طالبان باكستان على أيدي جهاديين باكستانيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة، كانوا قد قاتلوا في صفوف طالبان الأفغانية في تسعينيات القرن الماضي، قبل أن يعترضوا على الدعم الذي قدّمته إسلام أباد للولايات المتحدة بعد غزو أفغانستان عام 2001.
وتأسست الحركة رسميًا عام 2007 على يد بيت الله محسود في وزيرستان جنوب غرب باكستان، وبعد مقتله تولى قيادتها حكيم الله محسود حتى عام 2013، وتلاه الملا فضل الله، وأخيرًا نور ولي محسود.
البشتون على جانبي الحدود
ينتمي أعضاء الحركة أساسًا إلى إثنية "البشتون" التي ينتمي إليها أيضًا عناصر طالبان الأفغانية. وتشكل المناطق القبلية في شمال غرب باكستان على الحدود مع أفغانستان مهد طالبان باكستان، التي بلغ نفوذها ذروته بين عامي 2007 و2009 حين كانت تسيطر على وادي سوات على مسافة 140 كلم شمال إسلام أباد، فارضة فيه تفسيرها المتشدد للشريعة الإسلامية.
وشنّت طالبان باكستان هجمات دامية هزّت البلاد بين عامَي 2007 و2014، لكن بعد ذلك أضعفتها عمليات مكثفة شنّها الجيش، وأُرغمت على الانسحاب إلى الجهة الأخرى من الحدود شرق أفغانستان وتقليص هجماتها داخل باكستان.
وتراجعت الحركة أكثر اعتبارًا من عام 2015، وقُتل قائدها الملا فضل الله بطائرة أميركية مسيّرة، إلا أنّها بدأت تستعيد قوتها منذ عام 2020 بفضل قيادة نور ولي محسود، كما اكتسبت هجماتها زخمًا أكبر بعد عودة طالبان إلى الحكم في كابول في أغسطس/ آب 2021.
ويتحدّر نور ولي محسود من عشيرة محسود في جنوب وزيرستان، وتحت قيادته ضمّت الحركة نحو عشرة فصائل مقربة من القاعدة أو مجموعات سابقة فيها، كما غيّرت أهدافها بالتركيز على استهداف قوات الأمن والجيش بدلاً من المدنيين.
ولا يُعرف عدد المنضوين تحت لواء طالبان باكستان على وجه الدقة، لكن تقريرًا صادرًا عن الأمم المتحدة قدّرهم ما بين 2500 و6 آلاف مقاتل.
تداخل ديمغرافي وإثني
تتسم العلاقة بين باكستان وأفغانستان بالتعقيد الشديد والتداخل الديمغرافي والإثني. وبسبب تدهور العلاقات وتصاعد الهجمات عبر الحدود، أمرت السلطات في إسلام أباد عام 2023 نحو 1.7 مليون مهاجر أفغاني بمغادرة البلاد.
ويعيش معظم هؤلاء في إقليم خيبر بختونخوا الحدودي. وتشير أرقام الأمم المتحدة إلى أنّ هناك نحو 1.3 مليون أفغاني في باكستان مسجلين رسميًا كلاجئين، بينما تقدّر إسلام أباد أنّ 1.7 مليون آخرين يعيشون على أراضيها بشكل غير قانوني.
ومنذ عودة طالبان إلى الحكم، وصل ما لا يقل عن 600 ألف أفغاني إلى باكستان، التي لم توقّع على أي معاهدات دولية تتعلق بحماية اللاجئين، ولا تملك تشريعات محلية تضمن حقوقهم.
وقد أُجبر أكثر من 1.2 مليون أفغاني على العودة من باكستان، بينهم أكثر من 443 ألفًا في العام الحالي، وفق الأمم المتحدة.
باكستان ورعاية طالبان
وكانت حركة طالبان تحظى بدعم كبير من باكستان عندما ظهرت أول مرة عام 1994، بعد حرب طاحنة خاضتها أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي بين عامي 1979 و1989، تلتها حرب داخلية بين فصائل المجاهدين بعد انهيار النظام الشيوعي في كابل عام 1992.
نشأت الحركة في مدارس دينية داخل باكستان، التي وفّرت لها ملاذًا آمنًا خلال النزاع مع القوات السوفياتية، وكان يقودها آنذاك الملا محمد عمر.
وشهدت طالبان، بدعم باكستاني وموافقة أميركية ضمنية، صعودًا صاروخيًا، إذ سيطرت في أكتوبر/ تشرين الأول 1994 على قندهار بسهولة، وراكمت بعد ذلك انتصاراتها السريعة حتى دخلت العاصمة كابول في 27 سبتمبر/ أيلول 1996.
حينها طردت الحركة الرئيس برهان الدين رباني، وأعدمت علنًا الرئيس الشيوعي السابق محمد نجيب الله، فيما انسحب القائد أحمد شاه مسعود إلى وادي بانشير شمال كابول، حيث نظّم صفوف المقاومة المسلحة، قبل أن يُغتاله تنظيم القاعدة في سبتمبر/ أيلول 2001.
وردًا على هجمات 11 سبتمبر التي نفّذها تنظيم القاعدة في الولايات المتحدة، شنّت واشنطن وشركاؤها في حلف شمال الأطلسي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2001 عملية عسكرية واسعة ضد أفغانستان بعد رفض نظام طالبان تسليم أسامة بن لادن.
وفي 6 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، استسلمت طالبان وفرّ قادتها مع قادة القاعدة إلى جنوب البلاد وشرقها وإلى باكستان.
وبعد مقتل أكثر من 2400 عسكري أميركي وإنفاق نحو 2.3 تريليون دولار، عادت الحركة إلى السلطة عام 2021 مع انسحاب واشنطن من البلاد.
ودافع الرئيس الأميركي جو بايدن آنذاك عن قراره بالانسحاب قائلاً في خطاب وجّهه إلى مواطنيه: "أقول لكم من صميم قلبي، أنا مقتنع بأنه القرار الصحيح، القرار الحكيم، والقرار الأفضل للولايات المتحدة".