طبول الحرب "تُقرَع" بين روسيا وبولندا.. مثلث مشتعل وكراهية واستفزازات
بوتيرة تصاعدية وحادة، تتزايد في الآونة الأخيرة التصريحات الروسية حول "عسكرة بولندا"، والتي تكاد تصل لحدّ قرع طبول الحرب.
فلطالما اعتُبِرت بولندا جبهة حلف الناتو الأمامية في مواجهة روسيا، لكنّها لطالما عُدّت كذلك خاصرته الرخوة. ومع أنّ العلاقات بين روسيا وبولندا لم تكن على ما يرام يومًا، إلا أنّها لم تصل يومًا أيضًا إلى هذا الحدّ من العدائية.
لا يقف قرع حدود الحرب، عند هذه الحدود، فعلى البوابات الحدودية الأوكرانية، يتزاحم آلاف الناس والأطفال الفارين. وفي موسكو، أصبحت صورة الحرب مشهدًا يوميًا، حيث لا صوت يعلو على صوت الرئيس فلاديمير بوتين الغاضب.
وفي تصريح له دلالاته، ذكّر بوتين بتجربة عام 1939، حين تخلى حلفاء بولندا الغربيون عنها، "لتلتهمها آلة الحرب الألمانية"، مشيرًا إلى أنّها "فقدت عمليًا استقلالها وسيادتها قبل أن تستعيدها إلى حد كبير بفضل الاتحاد السوفيتي"، قبل أن يضيف: "نعم، بفضل الاتحاد السوفيتي".
"جيران أعداء"
وليكتمل المشهد، لا بدّ من ملاحظة أنّ الحدود مع بولندا تتشاركها أيضًا بيلاروسيا لوكاشينكو، حليف بوتين المخلص، وهنا مفارقة أخرى، إذ باتت مجموعة فاغنر الروسية، بحكم الأمر الواقع، ضمن حدودها العسكرية.
ووصلت حالة الذعر، إن جاز التعبير، إلى جار آخر، هو ليتوانيا، عدو روسيا اللدود، وعضو حلف الناتو القديم، وهو ما تجلّى في تصريح قائد حرس الحدود الليتواني رستماس، حين تحدّث عن "إجراءات أمنية إضافية"، على قوع "تهديد نظام لوكاشينكو باستخدام الأسلحة النووية ضد العالم أجمع".
أما حلف الناتو، فعلى الرغم من كل الدعم الذي يقدّمه لأوكرانيا، إلا أنّه لا يريد حربًا مباشرة مع روسيا، بل إنّ قادته حذروا كييف مرارًا من استخدام ذخيرته في أي عمل عسكري فوق الأراضي الروسية. لكن بولندا التي ما تزال مرارة سنوات الحكم السوفيتي ماثلة في أذهان قادتها، فتريد حماية حدودها في مواجهة المدّ الروسي المحتمل.
إزاء ذلك، يصبح السؤال مشروعًا، فهل يمكن أن تجرّ وارسو الناتو إلى حرب مباشرة مع روسيا؟ وهل تريد بولندا حقًا كما يقول بوتين إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ورسم حدود جديدة بين الجيران الأعداء؟
موقف بولندا المتشدّد نحو روسيا
لفهم موقف بولندا المتشدّد نحو روسيا، لا بدّ من العودة إلى الوراء قليلاً، وتحديدًا إلى العام 1940، حين صفّى السوفييت الضباط البولنديين ضمن ما عُرِف لاحقًا باسم مذبحة غابة كاتين.
يومها، أعدِم جلّ هؤلاء الضباط بإطلاق النار عليهم من الخلف، ودُفِنوا في مقابر جماعية اكتشفها النازيون بعد ثلاثة أعوام.
كانت موسكو آنذاك قد اقتسمت أوروبا الشرقية مع هتلر سرًا، ضمن اتفاقية عدم الاعتداء التي صمدت أقلّ من عامَين، اجتاحَ خلالهما الجيش الأحمر إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وأجزاء من فنلندا.
وبعدما اجتاح هتلر غرب بولندا، اقتحمَت موسكو شرقها ثمّ أجبرت قادة بولندا على التحالف معها لمحاربة النازيّين. وقد مارس السوفييت أشدّ درجات التعسّف ضدّ البولنديين خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، واستخدموهم في الجهد الحربي القائم.
في هذا السياق، يقول الأكاديمي والمؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث إنّ "صورة الجندي السوفييتي ستبقى مرعبة بالنسبة إلى بولندا لأنّ الإنزال الروسي في دول أوروبا الشرقية كان بالقوة". ويشير إلى أنّ "شعوب أوروبا الشرقية وشعوب أوروبا الوسطى ستبقى تتذكر عنجهية الجندي السوفييتي إلى يوم القيامة".
بولندا وروسيا وبيلاروسيا
عندما انهار الاتحاد السوفييتي عام 1991، نالت بولندا استقلالها عن التكتل الأحمر ضمن حدودها القائمة.
حُلّ على الفور بعدها حلف وارسو، وبدأت البلاد اتخاذ خطوات متسارعة نحو الانضمام إلى الاتحادِ الأوروبي، وأصبحت عضوًا في حلف الناتو قبل بداية الألفية الثانية ببضعة أشهر.
يقول الدبلوماسي البولندي السابق فيتولد يوراش: "إثر قبولنا في حلف شمال الأطلسي وفي الاتحاد الأوروبي، بدأنا نشعر بالأمان. ولكن بعد ذلك، بدأت الحرب، ورأينا روسيا بالطريقة التي نعرفها للأسف".
يسري الأمر نفسه على العلاقات مع بيلاروسيا، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، شهدت العلاقات بين بيلاروسيا وبولندا مرحلة من التقارب، لكن سرعان ما انتهت مع وصول لوكاشينكو إلى الحكم عام 1994.
ففي الوقت الذي كانت تمضي به وراسو نحو الغرب الأوروبيّ بخطوات متسارعة، عادت بيلاروسيا أدراجها نحو الشرق الروسي.
جيب كالينينغراد "خط أحمر" لموسكو
ومن التاريخ إلى الحاضر، اتجهت الأنظار أخيرًا إلى جيب كالينينغراد، الحدود البرية المباشرة الوحيدة بين روسيا وبولندا، وهي عبارة عن إقليم روسي عسكري ورصيف بحري شديد الأهمية، يعرف الغرب بوضوح أنّ المساس به خط أحمر بالنسبة إلى موسكو.
لكنّ ما فعلَته وارسو أخيرًا، يُنظَرُ إليه في موسكو على أنه استفزاز واضح. فقد أعادت بولندا رسميًا استخدام اسم كاروليفيتسك، وهو الاسم الألمانيّ القديم بدلاً من الاسم الروسي، ومنعت كذلك البضائع من المرور عبر سكك حديد ممر "سوفالكي غاب" ذي الموقع الحساس.
ويبدو أنّ ليتوانيا التي تبادل روسيا تاريخًا طويلاً من العداء، لا تقلّ توجّسًا عن بولندا أيضًا بعد تطورات الحدود. فلعقود طويلة، كانت العلاقات بين هذه الدول محكومة بلعنة الجغرافيا.
الحرب الأوكرانية تقلب الموازين
وعلى الأرض، قلبت الحرب الأوكرانية الموازين ودفعَت إلى السطح تلك الكراهية المُبطَّنة بين الجيران، مع ما رافقها من استفزازات روسية على الحدود البولندية كتحليق الطائرات على علو منخفض واستنفار الناتو ومناوراته في بحر البلطيق.
من جهتها، صارت بيلاروسيا التي منحت موسكو إمكانية استخدام أراضيها من دون مشاركة مباشرة بالحرب، أحد اللاعبين المؤثرين في المنطقة المشتعلة، خصوصًا بعد احتضانها مجموعة فاغنر المتمرِّدة، ونشرِها جزءًا من هذه القوات في المناطق الحدودية.
ويبدو أنّ دفء العلاقة بين موسكو ومينسك، يجعل إمكانية جرّ بيلاروسيا إلى حرب مباشرة خِيارًا قائِمًا، لو أراد بوتين تنفيذه، فالعلاقات العسكرية والاقتصادية في أوجِ قوتها بينه وبين لوكاشينكو.
بدورِها، تلعب بولندا دورًا حيويًا بالنسبة إلى أوكرانيا في حربِها مع روسيا. فمعظم المساعدات العسكرية والمالية واللوجستية التي تذهب إلى كييف تمرّ عبر وارسو.
لكنّ بوتين يتهم بولندا بأنها تتحرك عبر بوابة دعم أوكرانيا نحو استرداد أراضيها السابقة وإعادة رسم حدودها.
احتمالات الحرب بين روسيا وبولندا
وفي الواقع، دفعت موسكو بحربها على كييف دول البلطيق إلى تجاوز خلافاتها الحدودية السابقة وتشكيل تحالف قويّ مدعوم من الناتو، يضمّ أوكرانيا وبولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا.
يضاف إلى ذلك انضمام دول وقفت طويلاً على الحياد للناتو كفنلندا والسويد التي ما زالت تنتظر الموافقة النهائية.
يعني ما تقدّم أنّ احتمالات انزلاق الحرب بالوكالة مع أوكرانيا إلى حرب مباشرة قائمة بالفعل، لكن لا يبدو، على الأقل حتى الآن، انّ أحدًا لديه الرغبة بالفعل في إشعال فتيلها.
وفيما تتصاعد حرب المسيّرات، ومعها حرب التصريحات، يبقى السؤال الملحّ بلا إجابة مباشرة: فهل تبدأ المرحلة التالية من حرب بوتين من ذلك المثلث الحدودي المشتعل بين الجيران الأعداء؟