في سجلّ أعماله السينمائية التي بلغت 126 فيلمًا، تبدو علاقة الفنان المصري عادل إمام مع واحد منها بالغة الغرابة، خاصة أن الفيلم صُنّف من بين أفضل مئة فيلم مصري في القرن العشرين، وما زال كثير من النقّاد يعتبرونه الأفضل إلى اليوم في مسيرة الفنان الذي احتفل معجبوه عبر العالم قبل أيام (17 مايو/ أيار) بعيد ميلاده الخامس والثمانين.
أُنتج فيلم "الحرّيف" عام 1983، وكان في طليعة ما سُمي بسينما الموجة الجديدة في السينما المصرية التي ضمت أبرز مخرجي تلك الحقبة من محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبد السيد.

وتتشابه هذه الموجة مع أخرى سُميّت بهوليوود الجديدة في الولايات المتحدة، وظهرت في نهاية ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وكان من رموزها فرانسيس فورد كوبولا وستانلي كوبريك ومارتن سكوسيزي وبراين دي بالما وستيفن سبيلبيرغ وآخرون.
وتمثلت بالالتفات إلى التفاصيل الواقعية في الأفلام على نحو أكبر، حتى لو اتسمت هذه الواقعية بالخشونة، وكسر مسار السرد الخطي للأحداث والعناية أكثر بالتناقضات الداخلية للشخصيات.
وكما قام من وُصِفوا لاحقًا بأهم مخرجي السينما الأميركية في تاريخها بتأسيس شركات إنتاج خاصة لتنفيذ أفكارهم التي قد لا تكون مغرية لشركات الإنتاج الكبرى، أنشأ محمد خان وعاطف الطيب وبشير الديك شركة "أفلام الصحبة" للغرض ذاته، وأنتجت الشركة فيلم "الحرّيف" الذي تسبّب بقطيعة استمرت لنحو ثلاثة عقود بين مخرجه محمد خان وبطله عادل إمام.
لم يكن عادل إمام الخيار الأول لخان عندما فكّر بإنتاج أول وآخر أفلام شركة "أفلام الصحبة" بل أحمد زكي، لكنّ خلافًا يتعلق بقصّة الشعر بين الأخير وخان دفع المخرج لعرض السيناريو على إمام الذي رحّب بالفكرة، فقد قام أحمد زكي بقص شعره تمامًا ما استفز المخرج الذي كان يرغب بقصّة شعر قصيرة لبطل فيلمه.
الحرّيف والقطيعة مع محمد خان
تدور أحداث الفيلم حول بطله "فارس"، لاعب كرة القدم الشعبية المعروفة بـ"كرة الشراب"، وعلاقته بطليقته وربّ عمله في مصنع الأحذية، وسماسرة المراهنات الصغار الذين يديرون شبكة علاقات معقدة تقتات على نتائج مباريات هذا النوع الشعبي من كرة القدم في الحارات والملاعب الصغيرة على أطراف الأحياء.

كانت مقاربة خان لبطله مختلفة عن المعالجات التقليدية لأبطال السينما المصرية غالبًا، وهو ما انعكس في زوايا التصوير ومونتاج المشاهد، وكان لافتًا تركير المخرج الكبير على صوت لهاث البطل بما ينسجم وتمارينه على الركض أو خلال تجوّله، ما يعكس الضغوط الحياتية التي كان يرزح تحت ثقلها.
وكان من سوء حظ المخرج أن الفيلم فشل تجاريًا، ما أدى إلى غضب إمام الذي شهدت ثمانينات القرن الماضي وتسعينياته ذروة صعوده الفني في السينما والمسرح معًا، فقد حمّل المخرج مسؤولية ذلك، ولم يشكّل مستوى الفيلم ورأي النقاد في الفيلم فارقًا حاسمًا لديه، وهو ما يعكس رؤية إمام للسينما التي عليها أن ترفّه في المقام الأول، وأن تجني أرباحًا في نهاية المطاف، وأن تساهم في بناء صورته ومكانته نجمًا أوحد في الفيلم، وعنصرًا حاسمًا في تسويقه وفي شبّاك التذاكر.
وكان من اللافت احتفاء احمد زكي بالفيلم واعتباره أفضل من فيلم "النمر الأسود" الذي قام ببطولته في العام نفسه، وحصد نجاحًا جماهيريًا كبيرًا بالمقارنة مع "الحرّيف" الذي يُعتبر واحدًا من أفضل أفلام عادل إمام لو عُزل عن دوره الوظيفي الآني، في مسيرة مخرج استثنائي قدّم للسينما المصرية العديد من أفلامها الكبيرة التي تتخطى أهميتها الجمالية ومشاغلها زمن إنتاجها، من مثل "طائر على الطريق" و"موعد على العشاء" و"ضد الحكومة" و"أحلام هند وكاميليا" و"خرج ولم يعد" و"زوجة رجل مهم" وسواها.
عادل إمام.. اللا بطل الذي أصبح نجمًا
يُنسب لمحمد خان وصفه عادل إمام باللا بطل الذي أصبح نجمًا، ما يعني إذا صح الوصف أن إمام صنع أو كرّس نموذجه المضاد لمفهوم النجم في السينما المصرية، القائم على الوسامة بالدرجة الأولى، وتمثيل طبقة دون أخرى، وخصوصًا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مع استثناءات كانت تؤكد القاعدة ولا تفكّكها، مثل نجومية إسماعيل ياسين.

وقامت نجومية إمام لا على موهبته وحسب بل على اجتهاده ومثابرته أيضًا، والأهم حرصه على نمط بعينه من الشخصيات تتصف بمنظومة أخلاقية مضادة للسائد والمتحكّم، فهو في أفلامه ابن الطبقة العاملة، أو الفقراء ساكني الأحياء الشعبية الذي ينتقم من "السلطة" قبل أن يتصالح معها ويصحّح مسارها في إحقاق العدالة، ومن الطبقة الثرية التي تستغل الآخرين فيسفّهها ويوجّه إليها اللكمات، ما كان يجعل جمهور السينما يقابل حركاته هذه بالكثير من التصفيق.
وكانت علاقة شخوصه في السينما مع السلطة من مصادر شعبيته من جهة، ومن عوامل استمراره في العمل السينمائي من جهة أخرى، فالمشاغب المُستهدف من المخبر أو ضابط القسم هو نفسه من أصبح "حاجة" للنظام، وخصوصًا في تسعينيات القرن الماضي التي شهدت صدامًا بين السلطات والتيارات الدينية، وبعضها متطرف، ما منح عادل إمام هامش نقد أكبر في أفلامه وحرية تعبير لم تتوفر لأقرانه، وخصوصًا في سلسلة أفلامه مع وحيد حامد كاتبًا وشريف عرفة مخرجًا.
الزعيم والنجم الأوحد
أضيف إلى ذلك ذكاء في استغلال الفرصة إذا سنحت، والإلحاح على استثمار المواهب الكبيرة أو الصاعدة أو التي تتمتّع بشهرة في أفلامه، بما يخدم نجوميته لا مواهبهم بالدرجة الأولى، وإذا حدث فلا بأس لديه ما داموا يوفرون له المنصة ليكرّس صورته "زعيمًا" أو نجمًا أوحد في وجودهم بالذات، وهو ما فعله مع عدد من أصدقائه النجوم مثل سعيد صالح ويسرا وشيرين وسواهم، ونجح فيه حتى مع ممثلة في حجم سعاد حسني التي تتمتّع بموهبة نادرة في تاريخ السينما المصرية.

اشترك عادل إمام مع سعاد حسني في خمسة أفلام، اثنان منها عندما أصبح نجمًا وثلاثة عندما كان ممثلًا مساندًا، ما يوضّح القفزة الكبيرة التي حققها إمام خلال نحو خمسة عشرة عامًا، ففي عام 1968 شارك إمام سعاد حسني في فيلمي "حلوة وشقية" من إخراج عيسى كرامة، و"حكاية ثلاث بنات" إخراج محمود ذو الفقار الذي قدّمهما مجدّدًا في "فتاة الاستعراض" عام 1969، وفي الأفلام الثلاثة كانت أسماء محمد عوض وحسن يوسف وسواهما تتقدّم على اسم إمام في البطولة أمام حسني.
لكن الوضع تغيّر جذريًا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حيث انفرد إمام بدور البطولة أمام حسني في فيلمي "المشبوه" عام 1981 (إخراج سمير سيف) و"حب في الزنزانة" من إخراج محمد فاضل، والفيلمان من العلامات البارزة في مسيرة عادل إمام السينمائية، وفيهما تكرّست صورة ابن البلد المُستهدف سواء من السلطات أو الطبقة المتنفذة، والذي يتمتّع بنبل أخلاق تجعل من انتصاره أو حتى لجوئه إلى العنف لإحقاق العدالة عنصرًا جاذبًا لجمهور يرى نفسه فيه ويتماهى معه.
أدوار صغيرة مع فؤاد المهندس
ولد عادل إمام عام 1940 في حي السيدة عائشة بالقاهرة، لأب كان يعمل "شاويشًا" في الشرطة، وتخرج من كلية الزراعة في جامعة القاهرة التي شهد مسرحها بداياته الفنية.

وخلال دراسته الجامعية شارك في أول عمل كبير بدور صغير في مسرحية "أنا وهو وهي" عام 1963 من بطولة فؤاد المهندس وشويكار، ولفتت مشاركته تلك الأنظار إليه وعبّدت الطريق أمامه إلى السينما في أدوار صغيرة أو مساندة في نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، حيث شارك في عدة أفلام منها "مراتي مدير عام" عام 1966، و"كرامة زوجتي" عام 1967، و"عفريت مراتي" 1968، وهي من بطولة صلاح ذو الفقار وشادية.
مدرسة المشاغبين
ويدين إمام بالشهرة المدوية في تلك الحقبة للمسرح وليس السينما، وتحديدًا لمسرحية مدرسة المشاغبين (1973) التي أدى فيها دور الزعيم بهجت الأباصيري، ما أتاح له أدوارًا في السينما أكبر بقليل من الأدوار الثانوية أو المساندة التي قدّمها من قبل.
ومن هذه الأفلام "البحث عن فضيحة" مع ميرفت أمين وسمير صبري، و"عنتر شايل سيفه"، وصولًا إلى "إحنا بتوع الأتوبيس" عام 1979 من إخراج حسين كمال، الذي يتناول القمع السياسي في الحقبة الناصرية، و"رجب على صفيح ساخن" في العام نفسه، وكلاهما نالا نصيبًا كبيرًا من الشهرة والرواج، وطبعا مسيرة إمام السينمائية، من حيث المزاوجة ما بين ملامسة الواقع سياسيًا بدرجة أقل من أفلام سياسية أخرى مثل "الكرنك"، وفي الوقت نفسه التوجه نحو الكوميديا التي كرّسته أحد أهم نجومها في تاريخ السينما المصرية.
وفي كلا التوجهين كان إمام يُعنى وحسب بمشاهده وشبّاك التذاكر، ما يفسّر قطيعته مع محمد خان الذي قدّمه في واحد من أهم أفلامه، بسبب فشل الفيلم تجاريًا.
التوظيف السياسي للأفلام
وشهد عقد التسعينيات ذروة صعود عادل إمام السينمائي، وتوظيفه الفن في قضايا شائكة من بينها محاربة ما يسمى الإرهاب، ما اعتبره كثيرون توظيفًا من السلطات المصرية في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك للسينما في حربه على الإرهاب من جهة، وتدجينه إذا صح الوصف لتيارات الإسلام السياسي المعتدلة داخل المؤسسات المصرية، مع وضع سقوف لها.

وساهمت أفلام أدى عادل إمام بطولتها في تكريس صورة لتيارات الإسلام السياسي لدى الرأي العام المحلي، في معادلة دقيقة منحت هذه التيارات فرصة المشاركة في المشهد السياسي لكن بسقوف محددة لا تستطيع تجاوزها، وبصورة أُنتجت ببراعة في السينما تقترب من شيطنة هذه التيارات أو تكاد في حال خططت لتجاوز الدور السياسي المرسوم لها.
مع وحيد حامد وشريف عرفة
وحدث ذلك في سلسلة أفلام تعاون فيها عادل إمام مع الكاتب وحيد حامد والمخرج شريف عرفة، حيث أنتج الثلاثة خمسة أفلام هي: "اللعب مع الكبار" عام 1991، "الإرهاب والكباب" عام 1992، "المنسي" عام 1993، "طيور الظلام" عام 1995، و"النوم في العسل" عام 1996.
لكنّ تعاون إمام مع الكاتب وحيد حامد شمل أفلامًا أخرى من أهمها على الإطلاق "الغول" عام 1983، وهو من بطولة إمام إضافة إلى فريد شوقي ونيللي، وفيه كرّس إمام صورته وما أصبح نمط الشخصيات التي يقدمها من حيث نزاهتها ورفضها الفساد وتعسف السلطات، واضطراره لتطبيق القانون بنفسه عندما يتعذر تطبيقه ضمن مؤسسات الدولة.
وكما في السينما، استطاع عادل إمام صنع نجومية غير مسبوقة عربيًا على خشبة المسرح التجاري، فبعد أدوار صغيرة على المسرح في الستينيات مع فؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي جاءت انطلاقته الكبرى عام 1973 ببطولته مسرحية "مدرسة المشاغبين" مع سعيد صالح وسهير البابلي وحسن مصطفى ويونس شلبي وأحمد زكي.

وسطع نجمه كذلك في مسرحية "شاهد ما شفش حاجة" عام 1976، كما قدّم عام 1984 مسرحية "الواد سيد الشغال"، فمسرحية "الزعيم" عام 1993، ومسرحية "بودي جارد" عام 1999.
وهي مسرحيات لاقت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا ودرّت دخلًا ماليًا كبيرًا على عادل إمام، الذي كان أحد معايير نجاح الأعمال الفنية بالنسبة إليه مرهونًا بجماهيرتها في المقام الأول منذ بداياته قبل نحو ستين عامًا.