تترقب النخب السياسية في تركيا والمنطقة يوم الخامس عشر من فبراير/ شباط الجاري، لمعرفة مصير زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان الذي اعتقلته المخابرات التركية في التاريخ نفسه عام 1999 في كينيا.
سعى أوجلان لاستعادة ما يقول إنها بلاده الأصلية، التي لم تسقطها المعاهدات الدولية سهوًا بعد انهيار الدولة العثمانية، بل نتيجة إصرار حكّام تركيا الجدد بعد الحرب العالمية الأولى على الحفاظ على ما تبقى لهم من الإمبراطورية العثمانية التي وصلت إلى حدود أوروبا.
بهذا المعنى، يُعتبر أوجلان رمزًا كرديًا عابرًا للحدود، وأقرب إلى دون كيشوت معاصر، فلا المعاهدات تسعفه للانتصار لقضيته، ولا المعادلات السياسية الدولية والإقليمية، ووحدها البندقية ما كانت رهانه فخذلته بعد أن خذله من كان يعتبرهم حلفاءه، فهل سيعلن الزعيم التاريخي لأكراد المنطقة لا تركيا وحسب إلقاء السلاح أخيرًا؟
ماذا يحدث في سجن إمرالي؟
خلال شهري ديسمبر/ كانون الأول ويناير/ كانون الثاني الماضيين، كان سجن جزيرة إمرالي الذي يقع قبالة سواحل اسطنبول، شديد الحراسة، مسرحًا للقاءين عقدهما ممثلون لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب (ديم) مع الزعيم التاريخي لحزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان.
وبحسب مصادر من الحزب، فإن أوجلان يعتزم الإعلان عن مبادرة غير مسبوقة تقضي بحل حزب العمال مقابل صدور عفو رئاسي تركي عنه.

وتفيد المصادر أن إعلان أوجلان المرتقب بإلقاء السلاح سيشمل جميع التنظيمات ذات الصلة بالعمال الكردستاني في المنطقة، في تركيا وخارجها وفي قنديل وسوريا وأوروبا، كما سيركّز أوجلان في إعلانه على الأوضاع في سوريا التي تنشط بها وحدات الحماية الكردية.
وتعود بدايات التطورات الأخيرة الدراماتيكية في كل المقاييس إلى أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما قام زعيم حزب الحركة القومية (التركي) دولت بهجلي، وهو حليف للرئيس رجب طيب أردوغان، بمصافحة نواب من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (كردي) في البرلمان، وبدأ حوارًا معهم انتهى بدعوته زعيم حزب العمّال الكردستاني لإعلان حل الحزب وإلقاء السلاح مقابل العفو عنه، وهو ما كان محور مباحثات أجراها حزب المساواة بعلم السلطات التركية وتنسيق معها، مع أوجلان الذي قالت مصادر في الحزب إنه رحّب بالمقترح، ويعتزم الإعلان عنه رسميًا في خطاب مصوّر في الذكرى السادسة والعشرين لاعتقاله.
وحظي تصريح أوجلان بترحيب من الرئيس أروغان الذي وصفه في منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي، بالتقدم الكبير وبأنه "نافذة على فرصة تاريخية"، بعد أن دعا مواطنيه الأكراد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى الاستجابة لدعوة بهجلي، والانضمام إلى الجهود الرامية لبناء ما سماه "قرن تركيا".
عبد الله أوجلان زعيمًا عابرًا للحدود
ولد عبد الله أوجلان عام 1948 لعائلة فقيرة في قرية عمرلي التي تقع في منطقة أورفه جنوبي شرق تركيا بالقرب من الحدود مع سوريا. التحق بكلية الحقوق في جامعة اسطنبول عام 1971، قبل أن يتركها في العام نفسه إلى كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة.

بدأ نشاطه السياسي عضوًا في شعبة جمعية ثوار الثقافة الشرقية في اسطنبول سنة 1970، واعتقل لنحو أسبوع في أبريل 1972.
وفي سنة 1975 أسس جمعية التعلم الديمقراطي العالي في أنقرة التي انتقلت لاحقًا إلى جنوب شرق الأناضول، وكان مؤسسو تلك الجمعية النواة المؤسسة الأولى لحزب العمال الكردستاني.
عاصمة مغدورة
تأسس الحزب في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1978 في إحدى قرى مدينة ديار بكر، وهي أكبر المدن ذات الأغلبية الكردية في تركيا، وكان من المقرر أن تكون عاصمة دولة كردستان المقترحة في معاهد سيفر بعد انهيار الدولة العثمانية، لكنها ألحقت بتركيا وفقًا لمعاهدة لوزان.
وقّعت الدولة العثمانية على معاهدة سيفر (فرنسا) عام 1920، وكانت المسمار الأخير في نعش تفكك إمبراطوريتها وانهيارها، وتضمنت تخلي تركيا عن جميع الأراضي التي كانت تحت سيطرتها والتي يقطنها غير الناطقين باللغة التركية، إضافة إلى انها منحت الحلفاء الذين انتصروا في الحرب العالمية الأولى السيطرة على أراض تركية، وقسّمت بلدان المشرق العربي التي كانت خاضعة للدولة العثمانية، بين بريطانيا وفرنسا.
ونصت المعاهدة أيضًا على حصول منطقة كردستان على الاستقلال حسب البندين 62 و63 من الاتفاقية، والسماح لولاية الموصل بالانضمام إلى كردستان استنادًا للمعاهدة نفسها، وهو ما تجاهلته معاهدة لوزان عام 1923 التي ألغت معاهدة سيفر.
بهذا المعنى كان اختيار ديار بكر للإعلان عن تأسيس حزب العمال الكردستاني ذي دلالة رمزية لأوجلان ورفاقه، ويهدف الحزب الذي اعتمد مبادئ الماركسة اللينينية، لإقامة دولة كردستان على جزء من أراضي تركيا وإيران والعراق وسوريا.
من كنعان إيفرين إلى حافظ الأسد
بعد تأسيس الحزب بعامين، وقع الانقلاب العسكري في تركيا الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين عام 1980، حيث قُتل 60 من قادة الحزب وألقي القبض على عدد آخر منهم، ما أدى إلى انسحاب الحزب إلى سوريا.
أتاح رئيس النظام السوري السابق حافظ الأسد لحزب العمال الكردستاني حرية العمل داخل الأراضي السورية، وبدرجة أكبر في الأراضي اللبنانية، حيث نشط الحزب في منطقة البقاع وسواها، حيث كان مقاتلوه يتلقون تدريبات عسكرية على أيدي تنظيمات يسارية فلسطينية.

ولم يكن "كرم الضيافة" الأسدي تجاه أوجلان إيمانًا منه بحق الأكراد بإقامة دولة مستقلة لهم بل مواصلة نهجه في استخدام الأحزاب والمنظمات أوراقًا في علاقاته الإقليمية والدولية، وللتفاوض من خلالهم على ما لا تستطيع القيام به سوريا رسميًا، ففي مارس/ آذار 1986، سيّر أكراد سوريون مظاهرة شارك فيها الآلاف منهم نحو القصر الجمهوري، احتجاجًا على منع الاحتفال بعيد النوروز، فما كان من الأمن السّوري إلا ان أطلق عليهم الرّصاص لتفريقهم ما أدى إلى مقتل أحد المتظاهرين.
الأسد يتراجع ويطرد أوجلان
غير أن شهر العسل السوري الذي استمر منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي اصطدم بعد نحو عقد ونصف العقد، بجدار الإصرار التركي على وضع حد لنشاطات حزب العمال الكردستاني من داخل سوريا.
وفي عهد الرئيس سليمان دميريل ورئيس وزرائه مسعود يلماز، وجهت أنقرة عام 1996 تحذيرات خشنة لنظام حافظ الأسد بالتوقف المباشر عن دعم حزب العمال الكردستاني، وإلا "ستضطر لاتخاذ ما يلزم لحفظ أمنها القومي".
وسرعان ما تأزّم الوضع أكثر عام 1998، عندما حشدت تركيا نحو 10 آلاف جندي على الحدود السورية، وبدأت طائراتها الحربية بالتحليق فوق الحدود، مع تهديد باجتياح المنطقة الحدودية وقصف معسكرات حزب العمال الكردستاني في منطقة البقاع اللبناني، ما لم تبادر دمشق إلى تسليمها عبد الله أوجلان وطرد عناصر الحزب من أراضيها.

كما رفضت تركيا في حينه، إجراء مفاوضات مع دمشق حول اتفاقية لتقاسم المياه، وبدا أن حربًا ستشتعل في المنطقة في أي لحظة بعد تصريح للرئيس التركي سليمان ديميريل قال فيه إنه لا يحذر سوريا وحسب بل العالم، وإن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر"، وقوله: "نحن في وضع الدفاع عن النفس. الوضع خطير. لقد عانت تركيا لسنوات عديدة، ولم تعد تريد أن تعاني".
آنذاك، تدخل الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، وقام برحلات مكوكية بين أنقرة ودمشق انتهت بنزع فتيل الأزمة، وتوقيع اتفاق أضنة بين سوريا وتركيا في أكتوبر/تشرين الأول عام 1998، وطرد مقاتلي حزب العمال الكردستاني وترحيل عبد الله أوجلان إلى روسيا.
بحثًا عن ملاذ فاعتقال في نيروبي
رفضت موسكو منح أوجلان اللجوء السياسي، فغادرها إلى إيطاليا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1998، حيث ألقي القبض عليه في مطار روما بدعوى دخوله البلد بجواز سفر مزور، وبصدور مذكرة توقيف صادرة بحقه عن ألمانيا.

لكن روما رفضت طلبًا من تركيا لتسليمه، كما رفضت منحه اللجوء السياسي أو تسليمه إلى ألمانيا، وأعادته إلى روسيا مجدّدًا التي لم ترحّب به، فاضطر للسفر إلى اليونان، التي عاد إليها ثانية بعد محاولته السفر إلى لاهاي لكن هولندا لم تسمح لطائرته بالهبوط، فتوجه إلى العاصمة الكينية نيروبي، حيث ألقي القبض عليه بعد مغارته السفارة اليونانية هناك إلى المطار في 15 فبراير/ شباط 1999، من قبل فريق من المخابرات التركية، ليصدر لاحقًا حكم بإعدامه تحوّل إلى سجن مدى الحياة.
26 عامًا في سجن إمرالي عزلته عن العالم، وأوهنت حزبه الذي أصبح ملاحقًا في أغلب دول العالم، وديار بكر التي كانت وعده بعاصمة لأكراد المنطقة لم تعد تلك التي كان يعرفها أو حلم بها، ولا التي قُتل من أجلها عشرات آلاف في سعيهم لاستعادة كردستان من المعاهدات المغدورة إلى أرض الواقع، بل إن حرية الرجل نفسه ما كان لها أن تتحقق أو تكون في سبيلها إلى ذلك لولا رغبة تركيا في اصطياد السمكة الذهبية، واستثمارها بعد سقوط الرئيس السوري بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، لتسوية ملف المسلحين الأكراد في سوريا مرة واحدة وإلى الأبد.