السبت 20 أبريل / أبريل 2024

"عرس الدم".. ذكريات لا تُمحى عن سنوات الحرب الأهلية اللبنانية "الثقيلة"

"عرس الدم".. ذكريات لا تُمحى عن سنوات الحرب الأهلية اللبنانية "الثقيلة"

Changed

تبقى الصورة الكاملة للحرب الأهلية اللبنانية حبيسة الرواية المفقودة، فكلّ طرف حمل السلاح يحتفي بأبطاله وشهدائه الذين لا تعترف بهم الأطراف الأخرى.

ضمن دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية، وصفت الباحثة اللبنانية دلال البزري مشهدًا مؤلمًا: "عرس الدم" الذي استمرّ أكثر من 15 عامًا، ذلك النزاع الأهلي الذي أوقع ما يقرب من 150 ألف قتيل لبناني من كل الطوائف.

في "دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية"، المذكّرات التي صدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، شهادة بطعم خاص تقدّمها دلال البزري، توثّق من خلالها ما شاهدته بأمّ العين خلال يوميات الحرب الطاحنة والثقيلة.

في ثنايا تلك الشهادة، تفاصيل كثيرة ليوميات الحرب الطاحنة والتي أتت على كل شيء في بيروت، قبل أن تختم صاحبة سنوات السعادة الثورية كتابها، بالإشارة إلى الحنين للحرب، "هو حنين إلى ذلك الشعور الرائع بأنني كنت شابة"، كما تقول البزري.

وتقول البزري في مذكراتها، إنها ستجد دائمًا سببًا للكتابة عن الحرب، التي تحمل معها سيلًا من الذكريات عن سنوات تركت ندبة لا تُمحى، وظلّت ماثلة في الوجدان اللبناني، محذرة من الانزلاق إليها مجددًا، لأن مسبباتها، كما تقول، ما زالت كامنة تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار.

محيط نضالي نخره الفساد

انتمت دلال البزري إلى اليسار اللبناني، حيث كانت منضوية تحت راية منظمة العمل الشيوعي، وعبر دفاتر مذكراتها، قدّمت صورة لمحيطها النضالي القديم، أي منظمة العمل الشيوعي، التي كانت منخرطة في الحرب الأهلية، بعد أن تحالفت مع عدة أحزاب وحركات قومية ويسارية أخرى.

لكنّها تطرّقت أيضًا إلى ما أسمته الفساد الذي نخر عميقًا في منظمات العمل الشيوعي، والذي كان سببًا في خروجها منها في نهاية المطاف. فمن خلال 31 فصلًا في المذكّرات، تنقّلت البزري في روايتها عن تفاصيل الحرب الأهلية والعديد من القصص التي دارت وراء الأبواب وخلف خطوط النار، مُظهِرة جانبًا آخر لتلك الحرب التي أتت على جزء كبير من لبنان.

لكنّ الشهادة الأبرز جاءت فيما يتعلق بتجربتها مع منظمة العمل الشيوعي التي انتسبت إليها، مقتنعة بأنهم سينتصرون على اليمين اللبناني ويحوّلون بلادهم إلى قاعدة صلبة للانطلاق منها إلى تحرير فلسطين.

"الرصاصات الأولى"

ومن خلال الفصل الأول الذي حمل عنوان "الرصاصات الأولى"، استعادت البزري أول أيام انقسام بيروت بين شرقية تحت السلطة اليمينية، وغربية تحت السلطة الوطنية اليسارية المساندة للمقاومة الفلسطينية.

نقطة الفصل بين البيروتيين كانت منطقة المتحف التي غدت محورًا مشتعلًا، وكانت هي النقطة ذاتها التي كان على دلال أن تعبرها، فعلى الطريق من حارة حريك، قلب الضاحية الجنوبية وخزان القوى التقدمية، ومنطقة الجعيتاوي في الأشرفية، قلب المنطقة المناهضة لكل ما آمنت به البزري.

"الجنة الضائعة"

وتحت عنوان "كلية التربية: الجنة الضائعة"، تحدّثت البزري عن أيامها النضالية في الجامعة وعن ذلك الزخم الهائل الذي حظي به الفدائيون الفلسطينيون في لبنان.

وتروي أيضًا قصة احتلال منظمة العمل الشيوعي لمدرسة الشياح وتحويلها إلى مقرّ حزبي، بعد أن صدر قرار الحركة الوطنية اللبنانية باحتلال المدارس الخالية من الطلاب بسبب المعارك وتحويلها إلى مقار حزبية.

تقول دلال إنّ احتلال المدرسة كان يعني الانتقال إلى العيش فيها، "وكلّنا إيمان أننا إذا قمنا بالمهمات الحزبية الموكلة إلينا، فمن المؤكد أننا سننتصر على اليمين اللبناني، ونحول بلادنا إلى قاعدة صلبة للانطلاق منها إلى تحرير فلسطين".

حياة حزبية "غاية في التشويق"

وفرضت الحرب تحديات صعبة على اللبنانيين كما جاء في شهادة دلال البزري، إذ شاع الاحتكار وعمّ الغلاء، فاتخذت منظمة العمل الشيوعي وحلفاؤها قرارًا بتشكيل الأمن الشعبي كإطار تتوزّع من خلاله الأحزاب المختلفة داخل الحركة الوطنية.

وتحكي دلال في مذكّراتها عن المهمّات الموكلة للرفيقات خلال الحرب واللاتي كان لهنّ دور بارز، وتلفت في أحد الفصول إلى أنه لم يكن هناك "رفيقات" في القيادة خلافًا لادعاءات قادة التنظيم أمام الصحافة، غير أنّ تفاصيل الحرب وتداعياتها المتلاحقة تهيمن على المشهد الذي لم يكن ممكنًا إخضاعه للمساءلة.

أكثر من ذلك، تبدو الحياة الحزبية غاية في التشويق في مذكرات البزري، حيث تكلمت عن مهمة جديدة أوكلت إليها خلال الحرب كانت من صميم نضالها الحزبي كما أشارت، إذ كان الرفاق مشغولين في المهمات العسكرية، فخاضت دلال واحدة من أجرأ المغامرات بعد أن أوكلت لها مهمة تهريب السلاح والذخيرة إلى بيروت الشرقية.

كانت لحظات خطيرة من الخوف والترقب قبل أن تعبر الحواجز في دقيقتين بصحبة رفيقاتها. ساعدها في ذلك تمكّنها من الفرنسية. تقول إنّها ابتسمت للقنّاص الذي ظنّها مواطنة بسيطة.

محسوبيات وأغراض غير نزيهة

في دفاتر الحرب الأهلية، وجّهت البزري سهام النقد الحاد إلى منظومة الفساد في الوسط اليساري وما ساده من محسوبيات وأغراض غير نزيهة تتعارض تمامًا مع سردية النضال التي آمنت بها، خصوصًا مع حصول أعضاء المكتب السياسي للمنظمة الشيوعية على امتيازات حصرية، فظهرت عليها أمارات الغنى والثراء.

كما انتقدت البزري الطريقة العشوائية في اتخاذ القرارات، خصوصًا في ما يرتبط بالأحزاب اليسارية وعدم دقتها في عمليات تجنيد الأعضاء الجدد الذين صاروا شيوعيين بعد ندوتين فقط، لكنهم مثّلوا عبئًا كبيرًا على جبهة المقاومة بسبب عدم انضباطهم وميلهم إلى "التشبيح".

اغتيال كمال جنبلاط

أما في فصل الاغتيال والاحتلال، فتطرقت الشهادة إلى اغتيال كمال جنبلاط عام 1977. تقول البزري: "على الرغم من أنني علمانية، وفي حزب لا يعتد بموازين الطوائف، فإنني أقول في نفسي إن هذا النوع من الاغتيال يعني إلغاء كل من كان قويًا في لبنان. جنبلاط بالنسبة إلينا هو الواجهة الوطنية التي تحمينا، نحن الأحزاب اليسارية من حسابات البيادر الطائفية، وخسارته تدخل في الخانة العقلانية أكثر من دخولها في الخانة العاطفية".

وتمرّدًا على سير الأمور داخل منظمة العمل الشيوعي، وعلى ضوء التدهور الرهيب الذي آلت إليه الأمور، قررت دلال البزري ترك منظمة العمل الشيوعي عام 1981 بعد أن رأت التناقضات بين ما كانت تؤمن به وما رأته وشهادته، حتى إنّ القيادي الدرزي البارز وليد جنبلاط قرّر أن يخالف سيرة والده كما تقول دلال، بعد أن اختار سياسة تقاربية مع النظام السوري.

أما الحادثة التي أنهت علاقة دلال البزري بالمنظمة الشيوعية، فكانت حينما أيّدت المنظمة حصار مدينة زحلة الكاثوليكية في البقاع عام 1981، والذي فرضته أرتال ومدرعات جيش النظام السوري. كانت منظمة العمل الشيوعي قد أصدرت بيانًا مشتركًا مع الحركة الوطنية تدين من خلاله أهل زحلة، ويستخدم في ثناياه عبارات طائفية للتغطية على الحصار والقصف، لتكون تلك نقطة التحول لدى دلال البزري.

اجتياح إسرائيل للبنان

محطة فاصلة في تاريخ لبنان جاءت صيف عام 1982 بعد أن اجتاحت إسرائيل لبنان. كان لاجتياح بيروت توثيقه في دفاتر الحرب، فشهدت البزري وصول الإسرائيليين إلى بيروت واحتلالها.

تقول إنّها سمعت الخبر من خلال الراديو، وجاءت الدعوات بعده إلى رجال لبنان من أجل حمل السلاح دفاعًا عن لبنان كله، سلاح يكون تنظيمًا للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال.

تحت غطاء من نيران القاذفات المقاتلة والزوارق البحرية، وصلت القوات الإسرائيلية إلى بيروت، وكان الهدف طرد التنظيمات الفلسطينية من لبنان، تصفية للوجود الفدائي القريب من فلسطين.

حوصرت بيروت 90 يومًا، وصمد المقاتلون على مختلف الجبهات. تلاحم اللبنانيون والفلسطينيون خلال الحصار، وكان على دلال وأسرتها الاحتماء من قصف الطائرات الإسرائيلية المتواصل، لتمضي أيام حصار بيروت ثقيلة وشاقة.

"أبطال وشهداء"

كانت أيام الحرب الأهلية قاسية وثقيلة. ذروة انكساراتها كانت في تصفية العمل الفدائي من لبنان بعد أن تقرر خروج المقاتلين الفلسطينيين، ذلك المشهد التراجيدي الذي رسم صورة جديدة لرحلة اللجوء الفلسطينية.

كان شرط إسرائيل لإنهاء الحصار أن تخرج منظمة التحرير الفلسطينية من الأراضي اللبنانية، فعمّ الخبر شوارع بيروت وأزقّتها وتلقّت دلال الخبر وراحت تشاهد جموع الفدائيين في آخر لحظاتهم. كانوا في الطريق لمرفأ بيروت استعدادًا للرحيل.

في النتيجة، مؤلفات عديدة قاربت الحرب الأهلية اللبنانية بالبحث والرواية وكتابة المذكّرات، شهادات أو اعترافات فردية، لكن الصورة الكاملة تبقى حبيسة الرواية المفقودة، فكلّ طرف حمل السلاح يحتفي بأبطاله وشهدائه الذين لا تعترف بهم الأطراف الأخرى.

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close