عزمي بشارة: ما يشغل أميركا هو ترتيبات تستعيد مسار التطبيع
رأى المفكّر العربي عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أنّ المطروح حاليًا في إطار المفاوضات الجارية حول الحرب على غزة، هو مقترح إطاري لتبادل الأسرى على مراحل عدّة، مع هدنٍ إنسانية.
ونفى في حديث إلى "العربي"، في إطار التغطية المفتوحة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أن يكون قد تمّ التوصّل إلى اتفاق، لافتًا إلى عدم وجود ضمانات واضحة بأن تتحول التهدئة المقترحة في غزة إلى وقف دائم لإطلاق النار.
وفيما أعرب عن اعتقاده بأنّ حركة حماس تعدّ حاليًا ردًا تفصيليًا على المقترح الإطاري لتبادل الأسرى، وأنّ جوابها لن يكون "بنعم أو لا"، شدّد على أنّ الأولوية بالنسبة للمقاومة حاليًا التهدئة الشاملة والتخفيف من معاناة الفلسطينيين قبل مناقشة قضية تبادل الأسرى.
وانتقد بشارة مجدّدًا وقف دول غربية تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، واصفًا ذلك بأنّه "سلوك استعماري وعقاب جماعي للفلسطينيين"، ومشيرًا إلى أنّ تمويل الأونروا مسؤولية المجتمع الدولي الذي أقر قيام دولة إسرائيل.
وفيما رأى أنّ الإعلام الإسرائيلي تحول إلى آلة دعاية لاستمرار الحرب ومزيد من العقاب للفلسطينيين، لاحظ أنّه لا يوجد تحضير للرأي العام الإسرائيلي لوقف إطلاق النار، وأنّ الإعلام مستمر في التحريض على استمرار الحرب.
وعلى صعيد الموقف الأميركي، أشار بشارة إلى أنّ الولايات المتحدة ترى أن السلوك الإسرائيلي بات يمثل خطرًا على مسار التطبيع مع الدول العربية، وهي لذلك تحاول أن تقنع إسرائيل بقبول هدن طويلة المدى في غزة، لكنّها لم تصل بعد لمستوى الضغط.
وإذ رأى أنّه لا توجد قيادات إسرائيلية وفلسطينية جاهزة لتطبيق حل الدولتين، شدّد على وجوب ترجمة تضحيات الشعب الفلسطيني وصمود المقاومة إلى إنجاز سياسي.
مقترح إطاري حول تبادل الأسرى
من التسريبات الصحفية حول مفاوضات تبادل الأسرى، انطلق بشارة في حديثه إلى "العربي"، حيث لفت إلى أنّ الشائعات أكثر من الحقائق على هذا الصعيد، مشيرًا إلى أنّ الإعلام الإسرائيلي تحديدًا يكثر من الشائعات ليظهر أنّ الحكومة الإسرائيلية تقوم بجهد لإطلاق سراح الأسرى.
وتحدّث بشارة عن ضغط شديد تسبّبه قضية الأسرى والمحتجزين في إسرائيل، ولذلك فهناك أمور تشاع بشكل مقصود، إلا أنه نفى التوصّل إلى اتفاق فعليّ، مشيرًا إلى أنّ ما هو مطروح حاليًا هو مقترح إطاري لتبادل الأسرى من القطريين، وتمّ بحثه وتعديله في باريس بمشاركة مصر وإسرائيل والولايات المتحدة.
ولفت إلى أنّ الاقتراح الذي يتألف من ثلاث مراحل، يقوم في مرحلته الأولى التي تمتدّ على 45 يومًا، على تبادل للمحتجزين على أساس البدء بالحالات الإنسانية، أي كبار السنّ والمرضى، على أن تشمل المرحلة الثانية الأسيرات من الجنديات مقابل عدد معيّن من الأسرى، على أن يتمّ إدخال أكبر قدر من المساعدات الإنسانية في الحالتين.
أما المرحلة الثالثة، فترتبط بحسب بشارة بالجنود المحتجزين، وما تبقّى من الرجال، أي من غير المرضى ومن غير المسنّين، على أن يبدأ خلال هذه المرحلة الحديث حول "ما يسمّونه تهدئة وليس وقف إطلاق نار لأنّ ذلك يثير حساسيات داخل حكومة إسرائيل".
حماس تعدّ ردًا تفصيليًا
وشدّد بشارة على أنّ الأمر الرئيسي هو تخفيف معاناة المدنيين وإطلاق سراح الأسرى، لكنه لفت إلى أنّه لا يوجد ضمانات واضحة أن هذه التهدئة سيتمّ التوصل إليها وتعني وقفًا دائمًا لإطلاق النار.
وأشار إلى أنّ الأميركيين يحاولون إقناع الأطراف الأخرى بانّ 120 يومًا من وقف إطلاق النار يصعب بعدها أن تعود الحرب من جديد، لكنه لفت إلى أنّ هذا ليس مضمونًا، ولا سيما أنّ الولايات المتحدة نفسها لم تُعطِ ضمانات لكي تعتمد عليها مصر وقطر لإقناع الفلسطينيين.
وإذ لفت إلى أنّ حركة حماس لم تُجِب على الاقتراح حتى الآن، جزم بأنّه ليس لديها أيّ شكوك بنوايا وأهداف الوسطاء العرب، معربًا عن اعتقاده بأنّها تُعِدّ ردًا تفصيليًا بالتشاور بين الداخل والخارج، وبأنّ ردّها لن يكون بـ"نعم أو لا".
وأوضح أنّ حماس ستدخل في ردّها بالتفاصيل حتى حول مسائل كإدخال مساكن، وبدء إعادة الإعمار، وإدخال مساعدات ميدانية، وإخراج الجرحى، والحديث عن التهدئة الشاملة، لكن أن تكون هناك ضمانات لذلك.
وقال: "أعتقد أنهم يحاولون كتابة ردّ مفصّل حول ذلك، لكن الثابت أنّه لا يوجد اتفاق حتى الآن".
ترتيبات إسرائيلية لـ"اليوم التالي"
وتعليقًا على السلوك العسكري الإسرائيلي واستمرار العدوان بالتوازي مع الحديث عن التهدئة، أشار بشارة إلى أنّ ما يسمّونه هم "تطهير أو كشف أو تجريف المساحات"، والذي يشبه عملية الضم والاستيطان، لجهة التحكّم بأراضٍ ليست لهم، يندرج ضمن "ترتيباتهم لما يسمّونه اليوم التالي".
وأوضح أنّ هذه الترتيبات تشمل أن يكون هناك نوع من الجدار وخلفه منطقة مفتوحة تمامًا بهدم آلاف الوحدات السكنية، مضيفًا: "هذا جزء من خطتهم للتحكم بقطاع غزة لتكون لديهم نقاط مراقبة دائمة وليكون عندهم إشراف أمني".
وفي حين لفت إلى أنّ المقاومة الفلسطينية في ردّها على مقترحات التهدئة، ستشدّد على وجوب ألا يكون هناك وجود إسرائيلي في قطاع غزة، أكد أنّ الاستراتيجية الإسرائيلية لما يسمّونه اليوم التالي مغايرة، حيث "هناك وجود للرقابة على غزة، وحتى القيام بعمليات كما يحصل في الضفة".
وفي ما يتعلق برفح، أعرب بشارة عن اعتقاده بأنّ الإسرائيليين سيذهبون بالفعل إلى رفح، "لكنهم لن يستطيعوا دخول رفح من دون تهجير لاجئي رفح من جديد إلى الشمال، ما يعني أنّهم يجب أن يقوموا بعملية كهذه قبل أي اجتياح لرفح".
وقال: "إذا دخلوا رفح بهذا العدد من السكان، هذه ستكون مجزرة بمقاييس كونية"، ملمّحًا إلى إمكانية تأجيل مثل هذه الخطوة لما بعد وقف إطلاق النار".
عمليات الجيش الإسرائيلي في خانيونس
ولاحظ المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أنّ عمليات الجيش الإسرائيلي في خانيونس، أعنف بدرجات من التي قام بها في شمال ووسط القطاع.
وأشار إلى أنّهم يقومون بعملية مكثفة جدًا في خانيونس، وهو ما يتجلى بوتيرة القصف وتدمير المنازل والمرافق العامة والقتل، معتبرًا أنّ المقاومة في المقابل تبدو "شرسة جدًا" في المواجهة.
ورأى أنّ "الأمر الرئيسي هو أنهم لا ينظرون إلى غزة كقضية شعب مناضل يستحق الاستقلال وعانى ما يكفيه بل ينظرون إليها فقط من نظر زاوية أمن المستعمر"، مضيفًا: "المقلق بالنسبة إلى المستقبل أنهم ينظرون إلى هذا البلد أنه يشكل تهديدًا وبالتالي يجب وضعه تحت الرقابة، وهو نفس المنظور الذي نُظِر فيه إلى الشعب الفلسطيني من أوسلو".
وأوضح أنّهم "ينظرون إلى القضية كقضية تهديد أمني ومن ثمّ يتم التعامل معهم على هذا الأساس"، مشيرًا إلى أنّهم "يعتقدون أنه يجب أن تكون هناك قوة شرطية برقابة إسرائيلية وتدريب شرطة محلية تقوم بقمع السكان".
وقال: "هذا منظورهم الذي يفترض أن يكون مرفوضًا تمامًا".
سلوك استعماري وعقاب جماعي للفلسطينيين
في موضوع أزمة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ذكّر بشارة بأنّ إسرائيل سعت كثيرًا إلى وقف تمويل الأونروا من أجل تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين.
ولفت إلى أنّ هذه الوكالة التي وُجدت من العام 1949 بناء على القرار 194 بحق العودة، هي التي ترعى شؤون اللاجئين، وهو ما وافقت عليه الولايات المتحدة أولاً، "لكن إسرائيل منذ ذلك الوقت لم تعترف بها ولم تسمح لها بالعمل داخل حدودها".
وإذ أشار إلى فضل كبير للوكالة ومدارسها على الفلسطينيين، خصوصًا على مستوى التعليم، شدّد على أنّ إسرائيل كانت طوال الوقت تحاول أن تقنع الدول الغربية التي تموّل الوكالة أن يتوقف عملها والدافع لذلك كان تصفية قضية اللاجئين وأنه يجب احتواؤهم واستيعابهم في العالم العربي.
ورأى أنّ المشكلة هي في كيفية محاولة تصفية الوكالة، عبر ادعاء تورط 12 موظفًا في عملية 7 أكتوبر في غلاف غزة، واصفًا سلوك الولايات المتحدة والدول التي تبعتها كالببغاء بأنّه "سلوك استعماري عنصري وعقاب جماعي للفلسطينيين".
وقال: "التعامل معنا ليس كأفراد، ولكن كجماعات وقبائل وطوائف تُعاقَب جماعيًا، إذ يفترض أن هناك آليات للمحاسبة، لكنّهم لم ينتظروا نتائج التحقيق وعاقبوا كل موظفي الوكالة، ونحو 2 مليون شخص يتلقون خدمات"، مضيفًا: "هكذا كان الاستعمار يتعامل مع شعوب العالم الثالث".
تمويل الأونروا مسؤولية المجتمع الدولي
وفيما رأى بشارة أنّ تمويل الأونروا هو مسؤولية المجتمع الدولي الذي أقرّ بناء دولة إسرائيل، ما أدّى إلى نكبة شعب، طرح على الهامش سؤالاً عن حصّة بعض الدول من التمويل.
وسأل بشارة تحديدًا عن سبب غياب الصين مثلاً عن تمويل الأونروا، وكذلك روسيا، كما سأل عن حصّة الدول العربية من التمويل، والتي ليست كافية على الإطلاق.
ومع تسجيل هذه الملاحظة، أكد أنه يجب لوم الدول الغربية التي تعهّدت منذ البداية بالتمويل، مضيفًا: "يجب ألا نتوانى إطلاقًا عن مواصلة المطالبة بأن يعود تمويل الأونروا ويتوقف هذا التعامل العنصري والمتعالي مع شعوبنا".
وشدّد على أنّ الشعب الفلسطيني لا يتسوّل الدعم في هذا السياق، مذكّرًا بأنّ المجتمع الدولي هو الذي أقرّ بناء دولة إسرائيل في الأمم المتحدة، ونتج عن ذلك تشريد الشعب الفلسطيني.
وقال: "بالتالي، هذه مسؤولية المجتمع الدولي إلى حين التوصل لحل عادل لقضية فلسطين، وهناك حد أدنى من المسؤولية يجب أن يكون متوافرًا".
آلة دعاية لاستمرار الحرب
وفي سياق حديثه لـ"العربي"، توقف المفكر العربي عزمي بشارة عند طريقة تعامل الإعلام الإسرائيلي مع تطورات حرب غزة ومع صفقة التبادل المحتملة، حيث اعتبر أنّه تحول إلى آلة دعاية لاستمرار الحرب ومزيد من العقاب للفلسطينيين.
ووصف هذا الإعلام بأنّه "شمولي موجّه كأنه آلة دعاية واحدة باتجاه التحريض على الحرب"، متحدّثًا في هذا السياق عن أنواع من "الهستيريا والغباء والتطرف" تتجلى في الإعلام الإسرائيلي، وتأخذ خصوصًا شكل "مزايدات"، بغياب أيّ رأي آخر يقول بوقف الحرب أو يتحدّث عن ظلم أو يصوّر معاناة الفلسطينيين.
وشدّد على أنه لا يوجد موقف معارض فعلي في الإعلام الإسرائيلي، سواء في التغطية أو في مقالات الرأي أو حتى في مواقف المذيعين "الذين يحرّضون أكثر من غيرهم"، متحدّثًا عن "موقف عنصري شامل ضد العرب وضد الفلسطينيين".
إلا أنّ ما هو أخطر من ذلك، بحسب بشارة، أنّ هذا الأمر لم يعد يقتصر على الإعلام وإنما ينتقل إلى المؤسسات الثقافية والأكاديمية والجامعات.
وقال: "هناك شعور أن جزءًا اساسيًا ممّا يبثّ وينشر يأتي من آلات الدعاية التابعة للجيش، وكأننا أمام ماكينة حرب نفسيّة تزوّد بمعلومات وشائعات وأكاذيب وصور أحيانًا مختلقة بشكل بدائي، كما أنّهم لا يتوقفون عن نشر نظريات مؤامرة كاذبة وتافهة".
وإذ اعتبر أنّ "الشمولية والتجييش وانعدام التعددية وانعدام حرية الرأي" هي ما يطبع الإعلام الإسرائيلي، لاحظ أيضًا أنه لا يوجد تحضير للرأي العام الإسرائيلي لوقف إطلاق النار، مشيرًا إلى أنّ الإعلام مستمر في التحريض على استمرار الحرب.
وقال: "يوجد تحضير لتجييش أكثر، حتى إنّ النقاش حاليًا ليس حول التهدئة، إنما عما إذا كان يجب شنّ حرب على لبنان أيضًا أم لا، والجو هو جو تجييش وليس جو تهدئة"، مضيفًا: "لا أعتقد أنّ أحدًا يجرؤ على القول إنه يجب أن نوقف هذه الحرب".
المجتمع الإسرائيلي في حالة "صدمة"
بالانتقال إلى الحديث عن خارطة السياسة الداخلية الإسرائيلية، وما يُحكى عن خلافات وتباينات، وصلت حدّ الصراخ، قلّل بشارة مرّة أخرى من شأن كلّ ما يُثار في هذا الإطار، وصولاً لحدّ تصوير الأمر وكأنّه "انهيار لدولة إسرائيل".
وذكّر في هذا السياق بوجود "تعددية حزبية" داخل إسرائيل، ما يبرّر "حدة النقاش السياسي" في كثير من الأحيان، لافتًا إلى أنّ الحياة السياسية في إسرائيل تكاد تكون "موتورة"، حيث تتقلب فيها الائتلافات، كما أنّ "المزايدات الصهيونية فيما بينهم عنيفة جدًا".
وأشار بشارة إلى أنّ الأمر يصل في بعض الأحيان إلى حدّ "التخوين المتبادل"، ولكنّه شدّد على أنّ كلّ ذلك يحصل "تحت سقف مبادئ إجماع أساسية بالنسبة للقضية الفلسطينية وبالنسبة لكيان الدولة اليهودية".
وفيما لفت إلى وجود خلافات حول نمط الحياة في إسرائيل قد يؤدي إلى شرخ في المستقبل، أكد وجود إجماع حول القضايا الرئيسية، ومن بينها أنّه "لا عودة لحدود 67 ولا عودة للاجئين ولا تقسيم للقدس"، مشيرًا إلى أنّ الخلاف حول غزة محصور بموضوع الأسرى وطول الحرب ربما.
وإذ شدّد بشارة على أنّ "التعددية ليست دليل ضعف أو انهيار أو نهاية"، لفت إلى أنّ "الدولة التي تسمح لنفسها في زمن حرب أن تتحدث عن انتخابات ليست ضعيفة"، معتبرًا أنّ من لا يعرف ذلك لا يعرف تاريخ الحركة الصهيونية ومدى استفادتها من ضعف العرب.
ومع ذلك، أكّد بشارة أنّ المجتمع الإسرائيلي في حالة "صدمة" من حجم جهله بغزة ومقاومة غزة وصمودها وبسالتها ومن قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود، مشيرًا إلى أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو يدرك أنّه سيخسر في أيّ انتخابات تجري حاليًا، ولذلك يسعى لمنعها.
هل تغيّر الموقف الأميركي من الحرب؟
وتوقف المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عند الموقف الأميركي من الحرب على غزة، حيث تمسّك بحديثه عن تغيّر "طفيف" في الموقف، ولو أنّه ليس "جوهريًا"، طالما أنّه لا يزال محصورًا في خانة "محاولات الإقناع" لإسرائيل، من دون أي ضغط فعليّ.
وذكّر بشارة بأنّ الولايات المتحدة تصرفت بشكل غير مسبوق لناحية احتضان إسرائيل وتشجيعها على هذا النهج الانتقامي الشرس الذي أدى إلى إبادة، معتبرًا أنّها تتحمّل بهذا المعنى مسؤولية تاريخية عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتُكِبت في غزة.
وأعرب عن اعتقاده بأنّ جزءًا من الغضب الأميركي بعد عملية 7 أكتوبر لم يكن فقط بسبب اللاهوت الصهيوني المتجذر في عقول النخبة الأميركية الحاكمة، وإنما أيضًا بسبب الاعتقاد أنّ الإرث الرئيسي في السياسة الخارجية للرئيس جو بايدن نُسِف عمليًا.
وأوضح أنّ هذا الإرث يتمثّل بمحاولة إقامة تحالف واسع يضمّ إسرائيل ودولاً عربية والهند وغيرها وصولاً إلى أوروبا في مواجهة طريق الحرير الصيني وإيران، بحيث كان الاعتقاد أن الولايات المتحدة تستطيع أن تتفرغ للشرق الأقصى أكثر إذا كان هناك تحالف إسرائيلي عربي يملأ الفراغ، وهو ما يتطلب تهميش القضية الفلسطينية".
بهذا المعنى، رأى بشارة أنّ ما حدث عبّر عن "انتقام أميركي" وليس فقط "ثأر إسرائيلي"، إلا أنه اعتبر أنّ "هذا الموقف بدأ يلين الآن"، متحدّثًا عن مجموعة عوامل أسهمت في ذلك، من بينها حركة الاحتجاج القوية والمؤثرة داخل الولايات المتحدة نفسها، وكذلك حركات الاحتجاج في أوروبا والعالم العربي أيضًا، مع أنه لم يحصل احتجاج عربي كما يجب، برأي بشارة.
خطر على مسار التطبيع مع الدول العربية
وفي سياق متصل، تحدّث بشارة عن "خطر معاكس" ترى الولايات المتحدة أنّ السلوك الإسرائيلي يمثّله على مسار التطبيع مع الدول العربية، وهو ما يدفع البعض في الإدارة الأميركية إلى الاعتقاد بضرورة "لجم إسرائيل".
وأشار إلى أنّ الولايات المتحدة حاولت لذلك إقناع إسرائيل بالانتقال إلى شكل جديد من أشكال الحرب، وهو ما بات يُعرَف بالعمليات الخاصة، في إشارة إلى عمليات محدّدة تستهدف قيادات حركة حماس.
ورأى بشارة أنّ ما يشغل الإدارة الأميركية فعليًا ليس الحلّ ولا وقف إطلاق النار ولا معاناة المدنيين التي تفوق التصور، وإنما ترتيبات قد تسمح باستعادة مسار التطبيع الذي انقطع، ولا تزال الحلقة المفقودة منها هي التطبيع مع السعودية تحديدًا.
وقال إنّ الولايات المتحدة تحاول إعادة مسار التطبيع بين إسرائيل والدول العربية عبر وعود بإنشاء دولة فلسطينية، من دون تغيير فعلي على الأرض، مضيفًا: "يتحدّثون شكليًا عن اعتراف بالسلطة القائمة وممثليتها في الأمم المتحدة كممثلية دولة من دون أن يتغيّر شيء على الأرض".
ورأى أنّ "توقيت طرح هذه القضايا يدفع باتجاه إعطاء أمور للدول العربية لتعود إلى مسار التطبيع من دون أي تغيير حقيقي في الواقع".
إسرائيل رفضت كل مبادرات السلام
وفيما أشار إلى بذور خلافات حقيقية قد تتصاعد بين واشنطن وتل أبيب، تحدّث عن اعتماد إسرائيلي مطلق على الولايات المتحدة للاستمرار ليس فقط في السلاح بل في الذخيرة.
وقال: "ما فعلته الولايات المتحدة لإسرائيل هو احتضان وتبنّ كامل، لكن هذا يعطي الولايات المتحدة قدرة على الضغط على إسرائيل حينما تريد وهي لم تفعل ذلك بعد"، مضيفًا: "لا أدري متى اللحظة وهل ستحل لحظة كهذه في سنة انتخابات".
وفي سياق متصل، شدّد بشارة على أنّ الادعاء بأنّ الإسرائيليين كانوا يوافقون على مبادرات السلام والعرب يرفضونها هو كذب، موضحًا أنّ العرب وافقوا على كل مشاريع السلام الأميركية منذ عام 1967 وطرحوا مبادرة سلام، في حين أنّ الإسرائيليين لم يوافقوا على مبادرة أميركية واحدة بما فيها خارطة الطريق التي طرحها جورج بوش الابن.
وأشار إلى أنّ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قبل خارطة الطريق كما هي من دون تحفظات في حين أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون هو الذي رفضها، لافتًا إلى أنّ النتيجة كانت أنّ "ياسر عرفات قُتِل وشارون الذي رفضها أعطي عام 2005 رسالة ضمانات أميركية بأن الولايات المتحدة ستتفهم عدم عودة إسرائيل إلى حدود 1967 وستتفهم مصالح إسرائيل الجديدة في القدس الموحّدة".
بمعنى آخر، أوضح بشارة المعادلة التي أفرزها الأمر بقوله: "كوفئ الذي قتل ورفض، والذي وافق على خارطة الطريق اغتيل. هذا هو السلوك الأميركي الذي لم يجد الردّ العربي الشافي، إذ اجتمع العرب مع شارون في شرم الشيخ وتعاملوا معه كأنه زعيم سلام بعد انسحابه من غزة".
وأشار إلى أنّ السلوك الأميركي تدرّج من التحالف والانحياز المطلق لإسرائيل إلى تبنّي خطاب اليمين الصهيوني الديني في فترة الرئيس السابق دونالد ترمب، لافتًا إلى أنّ الرئيس بايدن حاول أن يعود لنهج أوباما الذي دعا إلى دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.
وإذ أشار إلى أنّ أوباما لم يكن مستعدًا لفعل شيء من أجل ذلك ولذلك تجنب الحديث عن قضية فلسطين، اعتبر أنّ بايدن أكمل هذا النهج لناحية أن قضية فلسطين ليست على الأجندة وهذا كان توجّهه، إلا أنّ عملية 7 أكتوبر فرضت القضية الفلسطينية مجددًا على الأجندة الأميركية في المنطقة، وبهذا المعنى يمكن اعتبارها تاريخية.
كيف يجب ترجمة تضحيات الشعب الفلسطيني؟
وفي حين رأى بشارة أنّه لا توجد قيادات إسرائيلية وفلسطينية جاهزة لتطبيق حل الدولتين، جدّد الدعوة إلى وجوب ترجمة تضحيات الشعب الفلسطيني وصمود المقاومة إلى إنجاز سياسي، على مستوى وحدة القيادة الفلسطينية.
وجدّد بشارة في هذا الإطار القول إنّ وثيقة حماس الأخيرة كانت بناءة وعقلانية وفيها لغة جديدة يمكن البناء عليها، وإنّ حماس تريد أن تكون جزءًا من حراك سياسي في المنطقة، خصوصًا بعدما اكتسبت المقاومة شعبيًا شرعية هائلة غير مسبوقة.
لكنه حذر من أنّه "إذا كانت تجري ترتيبات لما بعد الحرب بين الولايات المتحدة وبعض الدول العربية حول كيف ستبدو غزة بعد حماس وهل ستكون هناك إدارة شرطية تمسك بقطاع غزة أمنيًا وتبقى تحت الوصاية والاحتلال، وكان هنالك طرف من القيادة الفلسطينية مشاركًا في ذلك، فالنتيجة العملية لذلك ستكون أن نودي بكل التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني".
لكنه تساءل في المقابل إن كان هناك قيادة فلسطينية يمكن أن ترفض ذلك، وتعتبر أن ما سجله الشعب الفلسطيني من بطولات وتضحيات هي اللحظة المناسبة لتوحيد الشعب الفلسطيني لأنّ الخطر سيكون على القيادة نفسها لاحقًا، أو جزء منها، مشدّدًا على وجوب التصدّي للمخططات الغربية وترجمة تضحيات الشعب الفلسطيني إلى إنجاز سياسي سيكون واقعيًا.
وقال: "برأيي سنقف قريبًا عند مفترق طرق، فإما أن نذهب للتواطؤ مع تصفية القضية والتفريط بالدماء أو نذهب نحو حل عادل لقضية فلسطين"، أعرب عن اعتقاده بأنّ العالم جاهز لقبوله. وأضاف: "إذا تُركت حماس وحدها وعُزِلت قد يكون ذلك صعبًا لكن حماس كجزء من قيادة فلسطينية موحّدة لا يمكن تجاهلها خاصة إذا كان عنوانها منظمة التحرير وحماس هي التي قدمت كل هذه التضحيات ومنعت تهميش القضية الفلسطينية حقيقة وبهذا المعنى إلى حد بعيد حمت القيادة الفلسطينية الحالية".
هل تشنّ إسرائيل حربًا ضد لبنان؟
وتطرق بشارة في ختام حديثه لـ"العربي"، إلى التطورات في المنطقة، بعد الضربات الأميركية على مواقع في سوريا والعراق، حيث رأى أنّ الأمور لا تزال "ضمن الرد ورد الفعل المحسوب"، معربًا عن اعتقاده بأنّها ستبقى كذلك مع تصعيد لا يوصل إلى حرب شاملة.
وفيما تحدّث عن "مفارقات" قد تؤدّي في بعض الأحيان إلى مضاعفة الردود، كما حصل في استهداف القاعدة الأميركية في الأردن، إذ إنّ ما صعّد الموقف تمثّل بسقوط قتلى، وهو ما يسري أيضًا على حرب تموز 2006 في لبنان، شدّد على أنّه "طالما أنّ الطرفين الأساسيين، أي أميركا وإيران، لا يريدان الحرب، فلا حرب ستندلع".
ولفت إلى أنّ هناك قضايا عالقة بين واشنطن وطهران قبل غزة، من بينها مسألة السيطرة على العراق، مشدّدًا على أن أساس الصراع ليس غزة إنما قضايا تتعلق بالنفوذ أو الهيمنة في المنطقة سواء في العراق أو سوريا أو لبنان، لكن الأمور اختلطت الآن مع ما يجري في غزة.
وقال: "حالة لبنان أقرب إلى فلسطين وإلى التضامن مع فلسطين لكن الصراعات في النهاية متعلقة بهذه الجبهة الرئيسية حول مسألة النفوذ الإيراني ومدى تمدّده أو تقلّصه ومحاولة الولايات المتحدة ردعه أو الوقوف أمامه".
وبالحديث عن الواقع اللبناني، أعرب بشارة عن اعتقاده بأنّ ترسيم الحدود البرية سيكون شبه مستحيل من دون إعادة مزارع شبعا، متسائلاً عن مدى استعداد إسرائيل لذلك إذا ما ضمن حلّ مشكلة القرار الدولي 1701 مثلاً.
لكنه رجّح أن يحتاج الأمر إلى "اشتباك" قبل الوصول إلى ذلك، سواء من طرف لبنان أو من طرف إسرائيل، مستبعدًا في الوقت نفسه الوصول إلى حالة حرب، رغم وجود تحريض هائل في إسرائيل بهذا الاتجاه، قائلاً: "يعرفون مضاعفات مثل هذه الحرب، ولذلك سيفضّلون التفاوض على ذلك".
تجدون في الفيديو المرفق المقابلة الكاملة مع الدكتور عزمي بشارة، التي حاورته فيها الزميلة ريما شلون، وناقشت تطورات مفاوضات صفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل، وخطط إسرائيل العسكرية في رفح ومحور فيلاديلفيا، إضافة إلى تغيرات الموقف الأميركي من الحرب على غزة، وتداعيات الضربات الأميركية على سوريا والعراق واليمن وانعكاساتها على الأمن الإقليمي.