الأربعاء 23 نيسان / أبريل 2025
Close

عودة الميركانتيلية: كيف تؤثر سياسات ترمب الاقتصادية على العالم.. وهل هي الحرب؟

عودة الميركانتيلية: كيف تؤثر سياسات ترمب الاقتصادية على العالم.. وهل هي الحرب؟ محدث 17 آذار 2025

شارك القصة

سياسة ترمب الاقتصادية تُدخل العالم في ظروف "الحرب" بكل ما للكلمة من معنى ولكن بأدوات اقتصادية وتجارية - رويترز
سياسة ترمب الاقتصادية تُدخل العالم في ظروف "الحرب" بكل ما للكلمة من معنى ولكن بأدوات اقتصادية وتجارية - رويترز
الخط
الميركنتيلية هي مدرسة اقتصادية سادت في القرون الوسطى، والتي اشتقت من كلمة التاجر (Merchant) الذي اعتبر عمادًا لهذه المدرسة المتبناة من قبل حكومات الدول الغربية.

في عام 2016 لم يكن كثير من الأشخاص يصدقون أن دونالد ترمب سيصبح رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، إذ كانت استطلاعات الرأي تميل للمرشحة المنافسة هيلاري كلينتون. ولكن مع بدء فرز صناديق الاقتراع تغيّر كل شيء، ووصل ترمب إلى الحكم مدفوعًا بخطاب شعبوي، حيث قدّم نفسه على أنه نموذج للميلونير الأميركي الذي حقق انتصارات واسعة في عالم المال والأعمال ويستطيع نقل تجربته إلى عالم السياسة.

بالفعل لم يخيّب الرئيس دونالد ترمب ظنون المحللين، فبدأ يتصرف كتاجر، وانسحب من عدد من الاتفاقات التي كانت الولايات المتحدة قد وقعتها ودافعت عنها، مثل اتفاق باريس للمناخ، والاتفاق النووي مع إيران، ومنظمات دولية تابعة للأمم المتحدة بحجة أنها غير مجدية للولايات المتحدة. كما عمل على تقوية علاقاته بروسيا، العدو التقليدي للولايات المتحدة، وزار كوريا الشمالية والتقى برئيسها المحارب من الشرق والغرب، واستخدم لغة وصفت بأنها خشنة وغير دبلوماسية في معظم لقاءته، كما كان يعمل على استغلال كثير من الدول للدفع للولايات المتحدة الأميركية أو الاستثمار فيها.

واشتهر ترمب أيضًا بتغريداته المثيرة للجدل والتي كانت متكررة مقابل الهجوم على الإعلاميين الذين ينتقدون سياسته. باختصار، عمل ترمب بعقلية التاجر الذي يقدم المصالح المادية على أي مصلحة أخرى، ويتصرف بجرأة وشجاعة اتجاه الاستثمارات الخطرة مثلما فعل مع تقدمه للقاء رئيس كوريا الشمالية وتقوية علاقته بنظيره الروسي فلاديمير بوتين.

لكن لم تكد تنتهي ولاية ترامب الأولى حتى واجه تهديدات بالعزل والسجن على خلفية هجوم الكابيتول الذي اعتبر مدفوعًا بتصريحاته الرافضة لنتائج الانتخابات الرئاسية[1]، ثم واجه دعاوى قضائية واحتمالات بدفع غرامات وسجن محتمل، ولكنه قاوم وتخطى كل ذلك، واعتبره محاولة لمنعه من الترشح، ليعود من جديد في 2024 كرئيس للولايات المتحدة الأميركية.

في النتيجة، عاد ترمب إلى السلطة من جديد، وبثقة وقوة أكبر من الوقت السابق، مدفوعًا بخبرته السابقة، والظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها الأميركيون، والظروف الصحية للرئيس السابق جو بايدن والتي أجبرته على الانسحاب من سباق الرئاسة لصالح نائبته كامالا هاريس، إضافة إلى سلسلة الحروب التي اندلعت في العالم في عهد الرئيس بايدن، والتي جعلت الأميركيين يتخوفون من امتدادها إلى أماكن أخرى.

مع وصوله للإدارة من جديد؛ عمل ترمب على إصدار 100 أمر تنفيذي[2]، دعم من خلالها شركات الطاقة عبر إعلان حالة الطوارئ في مجال الطاقة، وعلّق المساعدات الأميركية، وفرض قيودًا على حركة التجارة، كما بدأت بوضع قيود على الهجرة للولايات المتحدة الأميركية. وفي خطابه أمام الكونغرس هاجم الرئيس السابق بايدن بعنف، ووعد بإنهاء الحروب في العالم، كما وعد بتوفير مليارات الدولارات التي تدفعها الولايات المتحدة، وتحصيل المزيد منها من الدول الحليفة والعدوة، ومن كبار المستثمرين في مختلف دول العالم[3].

أولاً: ما هي الميركانتيلية؟

الميركانتيلية هي إحدى المدارس الاقتصادية التي سادت في القرون الوسطى، والتي اشتقت من كلمة التاجر (Merchant) الذي اعتبر عمادًا لهذه المدرسة المتبناة من قبل حكومات الدول الغربية في ذلك الوقت[4]، وقد حكمت هذه المدرسة التعاملات السائدة في كل من فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا والبرتغال قبل أن تمتد لبقية الدول الغربية.

وترى هذه المدرسة أنّ ثروة الدولة تتكون من المعادن والأموال التي تدخل إليها، وتنخفض هذه الثروة بخروج المعادن والأموال من أراضيها، وبالتالي فإن ما ينطبق على الفرد ينطبق على الدولة في قضية الثروة، أي لو أن لدى فردًا من الناس نصف كيلو من الذهب فهذه ثروته ولو أصبح كيلو من الذهب فقد ازدادت ثروته.

وترافقت الميركانتيلية مع ظهور الدولة القومية وتمكين دورها، ويعد الميركانتيليون قوميّين بالفطرة؛ حيث يدافعون عن الدولة بشكل كبير، ويرون أن فرض الرسوم الجمركية على المستوردات يجب أن يتم كون هذه المستوردات تجعل الأموال تخرج إلى خارج البلاد، ويدعمون الصادرات ويرون أن التجار والمصنعين هم الأحق بالاستفادة من أموال الدولة والدول الأخرى.

وعلى الرغم من أن الميركانتيلية هي نسبة للتاجر، إلا أنّها في الحقيقة قامت على تعاون بين التجار والأمراء وطبقة النبلاء الذين دعموا تجار ما وراء البحار لجلب الذهب، حيث تم دعم المكتشفين والبحارة والتجار في ذلك الوقت من قبل طبقة النبلاء والأمراء؛ في سبيل الحصول على الذهب والمعادن النفيسة، وساعد ذلك تطور الملاحة البحرية واتصال العالم ببعضه عبر علاقات بنيت بين الدول وكذلك اكتشاف الأراضي الجديدة (الأميركيتان)، وكذلك اكتشاف رأس الرجاء الصالح وطرق بحرية أخرى.

ولعلّ شخصية جان باتيست كولبير (Jean-Baptiste Colbert)[5] الذي كان وزيرًا لمالية فرنسا في عهد الملك لويس الرابع عشر وأحد منظري هذه المدرسة يمكن أن تلخص الكثير حول الأفكار الميركانتيلية، حيث كان باتيست كولبير ابن تاجر صوف يدير مزرعة مهمة في فرنسا ونجح في مهمته بشكل كبير لينتقل لوزارة المالية ويطبق نهج فرض الرسوم على الواردات وتقديم الدعم للتجار خاصة في مجال الملاحة لجلب الذهب، كما منع العمال من مغادرة البلاد من أجل تأمين العمالة الرخيصة، وشجع الشركات الكبيرة التي تحتكر الصناعات ومتن علاقتها مع الدولة. وهكذا، ظلّ كولبير تاجرًا ومديرًا، ولكن على مستوى أكبر، وتعامل بالعقلية نفسها مع الشؤون المالية في الدولة.

ثانيًا: كيف تجسّد سياسة ترمب العودة إلى الميركانتيلية؟

بناءً على ما تقدّم، تتمثّل أوجه العودة إلى الميركانتيلية تتمثل في خطابات ترمب بشكل كبير، وذلك عبر التقاطعات الآتية:

  1. تغيير مفهوم ثروة الدولة باعتبارها تشبه ثروة الفرد: يتبنى ترمب وإدارته فكرة وجوب تحصيل مزيد من الإيرادات وتقليل النفقات، فهو يذكر عبارة: "ليدفعوا لنا" مرات متعددة في كل خطاب أو تصريح، فعلى سبيل المثال قال عن دول الناتو التي تعتبر الولايات المتحدة أحد أهم أركانها: "إذا لم يدفعوا فلن ندافع عنهم"[6]، وكذلك يتوقع أن يطلب من السعودية مبلغ قدره ترليون دولار أميركي[7]، ويريد أن يحصل من كل دولة مبالغ مالية، ويسعى للتوفير من أموال الموازنة الأميركية.
  2. تبني منهج الرسوم الجمركية على المستوردات: يشبه ترمب التجاريين في نظرتهم للصادرات والتجارة الخارجية، حيث يعتبر هؤلاء أن الدولة يجب أن تقوم بإدارة التجارة الخارجية، وأن تفرض حماية على السلع المحلية عن طريق فرض رسوم جمركية عالية، وهو ما يفعله ترمب، ففي نظره فإن التجارة الخارجية والرسوم الجمركية هي أبرز سلاح يمكن استخدامه ضد الدول الأخرى، وهذا ما كان يراه الميركانتيليون بالضبط.
  3. البحث عن المعادن الثمينة: في أساسها تسعى الميركانتيلية للحصول على الذهب والمعادن الثمينة، وهو ما يراه ترمب ثمنًا للمساعدات التي قدمها لأوكرانيا، حيث يريد أن يحصل على معادن أوكرانيا الثمنية، ويقترح الحصول على نصف هذه المعادن على الأقل، والتي قد تصل قيمتها بين 3 إلى 11 ترليون دولار أميركي[8]، كما يريد أن يسيطر على غرينلاند التي تمتلك ثروات طبيعية كبيرة.  
    يريد ترمب أن يحصل على المعادن النادرة ثمنًا للمساعدات التي قدمتها بلاده لأوكرانيا - رويترز
    يريد ترمب أن يحصل على المعادن النادرة ثمنًا للمساعدات التي قدمتها بلاده لأوكرانيا - رويترز
  4. تقريب التجار والصناعيين: كانت الميركانتيلية تقوم على الفكر التجاري، وهو ما قامت عليه إدارة ترمب، حيث كان أبرز المعينين في إدارته الملياردير إيلون ماسك الذي ارتبط اسمه بشركة تسلا لصناعة السيارات، وشركة ستار لينك للإنترنت، وكذلك موقع التواصل الاجتماعي تويتر الذي غير اسمه ليصبح (X) بعد شرائه، وقد عيّنه ترمب مسؤولاً عن الكفاءة الحكومية، وكان ماسك قد أرسل رسالة لكل موظف حكومي أميركي ليعطي تقريرًا عن إنجازاته وإلا فإن الموظف سيفقد عمله[9]، وهي عقلية أشبه بعقلية إدارة الشركات وليس إدارة الدولة.
  5. قوانين في خدمة الطبقة التجارية: من المعروف أن ترمب يميل لدعم الصناعات المحلية، والمؤسسات التجارية الأميركية، فقد أعلن حالة الطوارئ في مجال التنقيب عن النفط والذي تعمل فيه شركات عملاقة كشيفرون وإيكسون موبيل، وكونوكو فليبس وغيرها من الشركات التي تبلغ قيمة كل منها عشرات مليارات الدولارات إلى مئات ملايين الدولارات، ولا يتوقع أن يقتصر الدعم على الشركات النفطية ولكن سيمتد لقطاعات أخرى مثل صناعة الأخشاب التي رفع الرسوم الجمركية على وارداتها من كندا، والصناعات التقنية التي رفع رسومها الجمركية مع الصين، وغيرها من الصناعات المهمة.
  6. توفير في الميزانية الحكومية: من المعروف أن إيلون ماسك في إدارة ترمب هو مسؤول الكفاءة الحكومية، وهو اسم محسّن لمسألة تعزيز الإنتاجية وتخفيض التكاليف، وهو ما كانت الميركانتيلية ترى فيه أمرًا مهمً يحافظ على ثروة الدولة.

ثالثًا: الانتقادات الموجهة لأفكار ترمب الميركانتيلية 

كانت الميركانتيلية مرحلة من مراحل التطور الاقتصادي، ولكن العالم تخلى عنها كليًا، وكان أول من ضرب المذهب الميركانتيلي في مقتل هو الاقتصادي العظيم آدم سميث منظّر الرأسمالية وأبو الاقتصاد الحر الذي تعتبر أفكاره منارة للفكر الليبرالي الحديث، حيث وضع آدم سميث كتابًا عنوانه "ثروة الأمم" أكد فيه أن ثروة الأمة لا تتحدد بما تمتلكه من ذهب أو فضة ولكن بما تستطيع أن تقوم بإنتاجه وتطويره[10]، وركّز سميث على العمل بوصفه قيمة حقيقية للثروة وأعلى بالتالي من شأن العمال والموظفين، ولم ينظر إلى التاجر أو مالك الأرض فقط على أنه مكوّن للثروة بل الجميع يمكن أن يسهم في التكوين وإنشاء القيمة، وهو ما ينقض أساس المدرسة الميركانتيلية، وجعل من هذه المدرسة مجرد مرحلة تاريخية منتهية الصلاحية، تخضع للدراسة في إطار مقررات تاريخ الأفكار الاقتصادية.

ولعل أبرز الانتقادات للأفكار التي أتى به الميركانتيليون، والتي يحاكيها ترمب في هذه المرحلة، هي:

  1. استغلال الدول: أتى الانتقاد الرئيس للميركانتيلية على أنها تقوم على استغلال المستعمرات والدول، وتسعى للاستحواذ على المعادن الثمينة بأي ثمن، وبالتالي من دون أن يكون هناك مصالح مشتركة للأطراف، أو من دون أن يكون هناك مصالح متكافئة، وهذا ما يقوم به ترمب، ففي الوقت الذي دعمت الولايات المتحدة أوكرانيا من أجل مواجهة الروس وتحجيم نفوذهم -وهو المكسب الرئيسي لها- نجد أنها قدمت مساعدات لأوكرانيا في سبيل تحقيق هذه المصلحة، ويأتي ترمب اليوم ليقول للأوكرانيين نريد معادنكم. على جانب آخر، نجد أن ترمب صرح برغبته بشراء أو السيطرة على غرينلاند، وقال إنه ينوي ضم كندا لجعلها الولاية رقم 51 في الولايات المتحدة، إضافة لرغبته بالسيطرة على قناة بنما[11].
  2. القوة هي هدف الاقتصاد: حيث يهدف الاقتصاد بحسب ترمب والميركانتيليين لتعزيز قوة الدولة وسطوتها ونفوذها، ولكن الهدف الحقيقي للاقتصاد هو تحقيق الرفاه الاقتصادي، وتمكين التوازن الذي يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي، وهو ما نجد أن ترمب يعود ليشير إليه، حيث يهدف لجعل أميركا قوية من جديد، ويرفع شعارات مختلفة تتعلق بالقوة، ولكن على جانب آخر فإن مفهوم الرفاه الاقتصادي لم يستخدم في خطابات ترمب أبدًا. 
  3. الحماية الجمركية للصناعات المحلية ليست بالضرورة قوة للاقتصاد المحلي، ولكنها قد تضعف مفهوم الرفاه الاقتصادي، فعلى الرغم من أن الصناعات المحلية تستطيع أن تبيع سلعها بسعر أفضل وهو ما يناسب الصناعي والتاجر، إلا أن هذا يضرّ بدخل الشخص العادي الذي سيضطر لدفع مبلغ أكبر مقابل شراء منتجه. كذلك فإن الحماية الجمركية وإن كانت تضر بالدول الأخرى في دخولها لسوق واسع مثل سوق الولايات المتحدة الأميركية، فإنها على جانب أخر تعتمد على مبدأ التعامل بالمثل، حيث يحق للدولة التي يتم رفع رسوم جمركية على منتجاتها أن تقوم هي أيضًا برفع الرسوم الجمركية على منتجات الدولة الأخرى، أي الولايات المتحدة في هذه الحالة، وهو ما يضعف الاقتصاد الأميركي فعليًا ويضر به. ومن الملاحظ أن هذا بدأ يحصل بالفعل، فقد خسرت الأسواق الأميركية جزءًا من قيمة شركاتها؛ حيث تراجعت أسعار الأسهم بشكل ملحوظ وخسرت سوق الأسهم الأميركية 4 ترليونات من الدولارات بسبب تراجع القيمة[12]، وهو رقم كبير جدًا قد لا تقف الأسواق عنده، وهذه الخسارات التي يحتمل أن ترتفع لا يمكن لدونالد ترمب أن يحققها من خلال خطط حماية الصناعات بل على العكس تمامًا قد يسعى لتدميرها. كما أن فرض الرسوم الجمركية يضرب مفهوم الاقتصاد الليبرالي الحر، وينقلب على أفكار المنظرين الليبراليين ويهدم نظرية التجارة الدولية للأستاذ ريكاردو أحد أكبر منظري الاقتصاد الحر وصاحب التأصيل والاستمرارية لفكر آدم سميث.
  4. التوفير في النفقات: لا يمكن النظر للصرف الحكومي على أنه شبيه بصرف الأفراد، ففي الوقت الذي يعد فيه صرف الحكومة وزيادة ميزانية الصرف لها أمرًا حميدًا تعود فوائده على معظم السكان والشركات في البلاد وكذلك الشركاء الاقتصاديين، فإن صرف الأفراد هو انخفاض للمبالغ التي يملكونها مقابل تملك سلع أو منافع، وبالتالي فعندما تنفق الحكومات يتنشط السوق الداخلي، وترتفع المشاريع المنفذة، ويتحسن الدخل، وتزيد الكفاءة، وفي حالة الولايات المتحدة؛ نحن أمام اقتصاد عالمي فعليًا، أي يشارك فيه معظم الدول الغنية التي تستثمر فيه، وكذلك الأفراد الأغنياء، وهذا يعني أن التوفير في النفقات يضر هؤلاء المستثمرين كون السوق سيتراجع نشاطه.
  5. عقلية التاجر: يحكم ترمب الولايات المتحدة بعقلية التاجر، أي أنه يتخذ قراراته بناءً على مفهوم الربح والخسارة، وهو مفهوم جيد بدون تأكيد، ولكنه لا يمكن أن يكون مقياسًا لمختلف المسائل التي تواجه الدولة. فالدول تمتلك مصالح يجب زيادتها، وتواجه تهديدات يجب تخفيفها، ولكن المصالح لا تقاس دائمًا بالمال، بل على العكس، أحيانًا تضطر الدول لصرف كثير من الأموال لتحقيق مصلحة ما، أي أنه يحاول أن يحول مفهوم المصلحة إلى معيار كمي مرتبط بكمية المال المتدفق من وإلى الولايات المتحدة.

هكذا فإن دونالد ترمب يكرّر أفكارًا لطالما طالها الانتقاد حتى أصبحت مدرسة اقتصادية يتم تدريسها لطلاب الاقتصاد على أنها مرحلة تاريخية ساهمت في تشكيل المرحلة الراهنة، ولكنها تسببت بمشاكل كارثية وحروب بين الدول، حروب عسكرية وسياسية حقيقية أدت إلى مقتل آلاف الأشخاص من أجل الحصول على الثروة والمال.

رابعاً: آثار سياسة ترمب الاقتصادية

لا يمكن أن تمر السياسات الاقتصادية المتبعة من قبل ترمب بدون مجموعة من الآثار السلبية، وبعض الآثار الإيجابية، والتي يمكن تقسيمها إلى عدة أقسام، هي:

الانعكاسات على الولايات المتحدة

 يتوقع أن تساهم سياسة رفع التعرفة الجمركية المتبعة من قبل الرئيس ترمب في حماية بعض الصناعات الأميركية، وستعطيها الأفضلية في السوق الأميركي، وهذا قد يعني زيادة التوظيف، ولكن من جهة أخرى فإن الأسعار ستكون أعلى من أي وقت، وبالتالي قد نجد ارتفاعًا لنسبة التضخم بشكل ملحوظ.

كذلك فإن سياسة "الابتزاز" وكذلك "المزايا" المتبعة من قبل ترمب قد تسهم في زيادة الاستثمارات داخل الولايات المتحدة، حيث أصدر ترمب أمرًا تنفيذيًا لمنح إقامة ذهبية للمستثمرين مقابل 5 مليون دولار أميركي، كما بدأ حملة لجمع استثمارات كبيرة بمليار دولار مقابل تسهيلات متعددة للمستثمرين، وهو ما يعني أن بعض المستثمرين في مختلف دول العالم قد يقومون بالفعل ببدء استثمارات في الولايات المتحدة.

إلا أنّ تراجع التجارة الخارجية للولايات المتحدة أيضًا أمر وارد، حيث إن الرسوم الجمركية المطبقة من قبل الولايات المتحدة وردات الفعل بالرسوم المواجهة لها ستجعل حجم التجارة أقل وسيحجم بعض التجار عن القيام بأعمال التجارة الحرة التي كانت تسهل الحركة والانسياب خاصة مع كندا والمكسيك والصين، ويتوقع أن تكون الصادرات الزراعية من أكبر المتضررين من هذه القرارات، وكذلك نجد أن الشركات الأميركية فقدت جزءًا من قيمتها السوقية بالفعل عقب بدء الحرب الجمركية التي أشعلها ترمب[13].

كذلك فإن سياسة التوفير التي يتبعها ترامب قد تساهم في دخول الاقتصاد الأميركي في حالة من الانكماش أو الميل للانكماش بشكل ما، حيث إن المناقصات الحكومية، والمساعدات الأميركية وبرامج المنح تعتبر أبرز عوامل تنشيط الاقتصاد.

الانعكاسات على الصين والاتحاد الأوروبي

تشعر دول الاتحاد الأوروبي أن وصول ترمب للحكم في الولايات المتحدة قد يمثل عامل تهديد لاقتصاداتها، وهو أمر واضح في كلمات المسؤولين في هذه الدول، حيث ظهرت توترات بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس ترمب في لقائهما في البيت الأبيض[14]، كما قال المستشار الألماني أولاف شولتس "إن التكتل يمكن أن يرد على سياسات التعرفة الجمركية"[15]، ويتوقع أن يتضرّر الاتحاد الأوروبي من الرسوم الجمركية، ومحاولات ترمب لتحميله مزيدًا من الأموال في إطار المساهمة في حلف الناتو وحماية الأمن في العالم.

وتعتبر الصين أبرز المتأثرين حيث إن الحرب الاقتصادية موجهة ضدها بشكل مباشر، فإضافة للرسوم الجمركية على صادراتها للولايات المتحدة، فإن التعامل مع كثير من الشركات وبيعها وشراء منتجاتها يعتبر ممنوعًا من وجهة نظر ترمب، ويأتي قرار حظر تطبيق السوشال ميديا "تك توك" في الولايات المتحدة كأحد الأمثلة البارزة على كيف يمكن أن يتم محاربة الصين بشكل خاص من قبل الولايات المتحدة، وهي خطوة يمكن أن تتكرر في المستقبل مع عدد من الشركات الصينية، وربما نشهد توسعًا للحرب التجارية لتشمل عقوبات مباشرة على بعض الشركات على غرار تلك التي فرضت سابقًا[16] وهو ما يدفع بعض الشركات الصينية لتخفيض عدد العمال أو خسارة جزء من أرباحها، أو حتى الاتجاه للإغلاق.

تعتبر الصين أبرز المتأثرين حيث إن الحرب الاقتصادية موجهة ضدها بشكل مباشر - رويترز
تعتبر الصين أبرز المتأثرين حيث إن الحرب الاقتصادية موجهة ضدها بشكل مباشر - رويترز

ولكن على جانب آخر، فإن الصين والاتحاد الأوروبي تعتبران قوتين كبيرتين في التجارة الدولية، ولا يمكن أن يرضخا بسهولة لما يقوم به ترمب، وهو ما يعني أنهم قد يبحثون عن بدائل أخرى في أماكن مختلفة كالهند والتبادل البيني، وكذلك أسواق مثل الدول العربية، ودول شرق أسيا وتركيا، بدائل قد تؤدي لإنتاج مسار مختلف عن المسار الأميركي في الهيمنة على الأسواق، ويفضي بالنتيجة لتراجع الدور الأميركي كقوة عظمى.

الانعكاسات على بقية دول العالم

من شأن سياسة العقوبات والرسوم الجمركية، أن تقيّد حركة التجارة بشكل كبير، كما أن الاستغلال المتعمد للدول من قبل ترمب سيجعل من قدراتها على التحرك بحرية أقل بكثير من أي وقت سابق، وكذلك فإن إيقاف المساعدات الأميركية الدولية أو تخفيضها سيؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية في بعض الدول المستفيدة؛ فالولايات المتحدة تعتبر أبرز المتبرعين في العالم.

ويأتي أيضًا الانسحاب من المعاهدات الدولية وخصوصًا اتفاقية باريس للمناخ كنوع من التراجع في عملية الصرف المالي والتعاون الدولي بين الولايات المتحدة والعالم، وهذا كله قد يؤدي إلى ركود عالمي، وقد يدخل الاقتصاد العالمي ضمن دائرة الركود في وقت قريب إذا ما استمرت الظروف الحالية، إضافة لارتفاع الأسعار المتوقع، والإحساس بالخطر والترقب في الأسواق المالية.

في الملخص

يتصرف رئيس الولايات المتحدة الأميركية بوصفه جابيًا دوليًا، حيث يسعى لرفع موارده، وتخفيض نفقاته في الإطار الدولي، فيرفع من الرسوم الجمركية على السلع والخدمات المستوردة من قبل الولايات المتحدة، ويعطي مزايا ويفرض عقوبات وتهديدات من أجل جلب الأموال لاقتصاده، كما أنه يوقف برامج منح ودعم ومساعدة، وهو ما يشبه ما تقوم به دولة في إطار تطبيقات تزيد من الموارد وتخفض من النفقات، ما يعني ارتفاعًا في الأسعار وتراجعًا في الاستثمارات الكلية، واحتمالية الدخول في ركود اقتصادي، وتراجع أسهم الشركات وارتفاع أسعار المعادن الثمينة، مقابل ضعف الثقة بالعملات الورقية الدولية.

وفي النتيجة، لن تمرّ سياسة الرئيس ترمب الاقتصادية بشكل سلس على العالم، بل هي تُدخل العالم في ظروف "الحرب" بكل ما للكلمة من معنى، حرب قد لا تستخدم فيها الأسلحة والمتفجرات، ولكنها بأدوات اقتصادية وتجارية، ستؤدي لخسارة جميع الأطراف المنخرطة فيها بالنهاية، ولن تكون الولايات المتحدة الأميركية بمعزل عن هذه الخسائر حتى وإن كانت الطرف الأقوى في هذه الحرب على المدى القصير والمتوسط.


المراجع


[1] ترمب يضغط على نائبه لقلب نتيجة الانتخابات وأنصاره يحتشدون في واشنطن، التلفزيون العربي، يناير 2021، الرابط.
[2] أبرز الأوامر التنفيذية التي وقعها ترمب في اليوم الأول من ولايته، الجزيرة نت، يناير 2025، الرابط.
[3] تحليل لخطاب ترمب، سي إن إن عربية، مارس 2025، الرابط.
[4] للمزيد حول المدرسة الميركانتيلية في الاقتصاد، يمكن مراجعة بحث: المدرسة المركنتيلية الأساس الاقتصادي لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، خميس محمد حسن، المجلة العراقية للعلوم الاقتصادية، المجلد الثاني، العدد السادس، 2018، الرابط.
[5] للمزيد حول حياته، راجع الموسوعة البريطانية، على الرابط.
[6] ترمب عن الدفاع المتبادل بالناتو..إذا لم يدفعوا فلن أدافع عنهم، مارس 2025، الرابط.
[7] لإبرام اتفاق بترليون دولار، CNBC Arabia، مارس 2025، الرابط.
[8] ما هي المعادن التي يريدها ترمب من أوكرانيا، مونت كارلو، فبراير 2025، الرابط.
[9] ماسك يمنح الموظفين فرصة أخرى لشرح إنجازاتهم، سويس إنفو، فبراير 2025، الرابط.
[10] راجع ملخصاً لكتاب ثروة الأمم، موقع ثقافة المال، مارس 2024، الرابط.
[11] أطماع ترمب التوسعية..هل يمكن تحقيقها، فرانس 24، يناير 2025، الرابط.
[12] سوق الأسهم الأميركية تفقد 4 ترليونات دولار من قيمتها، سي إن إن عربية، 11-مارس-2025، الرابط.
[13] اقتصاد ترمب يتصدع، العربي الجديد، مارس 2025، الرابط.
[14] ماكرون يقاطع ترمب، سي إن إن عربية، فبراير 2025، الرابط.
[15] الاتحاد الأوروبي يستعد للمواجهة بعد تأكيد ترمب فرض رسوم جمركية على التكتل، يورو نيوز، مارس 2025، الرابط.
[16] الولايات المتحدة تعاقب ثماني شركات صينية، الوكيل الأخبارية، يناير 2025، الرابط.
تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي