كان سقراط أحد أكثر فلاسفة اليونان القديمة تأثيرًا. بطبيعته الاستفهامية، يُضاهي أفلاطون وأرسطو وإبيقور كأحد أعظم عقول العالم القديم.
لكنّه في الوقت نفسه، كان شخصية مثيرة للجدل. فعلى الرغم من كثرة أتباعه، سخر كُتّاب الدراما الكوميدية من تعاليم سقراط. كما كان ببطنه المنتفخ وشعره الأشعث وعينيه الجاحظتين، شخصيةً فذّة في أثينا المهووسة بالجمال.
بالإضافة إلى ذلك، شكّلت وفاة سقراط حادثة استثنائية ايضًا، إذ قُدّم في سن السبعين، للمحاكمة ووُجِّهت إليه تهمة الكفر، أو عدم تبجيل الآلهة اليونانية، وإفساد الشباب الأثيني.
وفي النهاية، حكمت عليه هيئة محلفين من زملائه الأثينيين بالإعدام.
وبعد وفاة الفيلسوف، كتب أفلاطون "دفاع سقراط" (Apología Sokrátous) الذي زُعم أنّه الخطاب الذي ألقاه سقراط في محاكمته (كلمة "apologia" في اليونانية تعني "الدفاع"). وأصبح هذا الخطاب وثيقة أساسية، ورسّخ مكانة سقراط كواحدٍ من أعظم فلاسفة التاريخ.
كيف مات سقراط ولماذا؟
وُلد سقراط عام 480 قبل الميلاد في أثينا باليونان. وكان أحد أكثر المفكّرين الثلاثة تأثيرًا في العصور الكلاسيكية القديمة، إلى جانب أفلاطون (تلميذ سقراط المتحمّس) وأرسطو.
ورغم تعرّضه وأفكاره للسخرية خلال حياته وبالأخص في مسرحية "السحب" (clouds) للمؤلف المسرحي الكوميدي "أرسطوفانس" (Aristophanes)، إلا أنّ فلسفات سقراط صمدت لآلاف السنين.
وعلى الرغم من تبجيله كمفكّر عظيم، ادعى سقراط أنّه لم يسعَ قط لتعليم أي شيء، لأنّه لم يكن يعلم شيئًا. بل عُرف بما أُطلق عليه منذ ذلك الحين "المنهج السقراطي" المتمثّل في الانخراط في حوارات عامة قائمة على الأسئلة حول طيف واسع من المواضيع مثل طبيعة العدالة، والفضيلة، والحكمة.

باختصار، يُمكن تلخيص فلسفته في اقتباس واحد: "في أثينا المهووسة بالجمال والمكانة الاجتماعية، برز سقراط بقبحه الجسدي وعدم رغبته في حشد السلطة. كما عارض العديد من الأفكار الأثينية مثل الديمقراطية اليونانية؛ والأسوأ من ذلك كله، أنّه غالبًا ما جعل مواطني أثينا يبدون حمقى متغطرسين".
وبناء على ذلك، وُجّهت للفيلسوف اتهامات أكثر خطورة في نهاية حياته، وهي التي أدت إلى إعدامه.
جدل و"جرائم" سقراط
إلى جانب إحراج زملائه الأثينيين في المناقشة، اتخذ الفيلسوف أيضًا عددًا من القرارات التي ربما أدت في النهاية إلى وفاته عام 399 قبل الميلاد.
فبعد الحرب البيلوبونيسية، وأثناء خدمته في مجلس أثينا أو الإكلازيا (Ecclesia) عام 406 قبل الميلاد، عارض سقراط وحده محاكمة القادة الأثينيين الذين فشلوا في استعادة جثث قتلاهم من ساحة المعركة.
وعام 409 قبل الميلاد، رفض سقراط وحده، المشاركة في اعتقال وإعدام رجل يُدعى ليون السلامي، على الرغم من أنّ الأخير لم يرتكب أي جريمة.
ومع تراجع قوتها، أصبحت أثينا أقل تسامحًا مع الفيلسوف الغريب بمظهره الأشعث وسيل أسئلته المتواصلة. وفجأة، بدأ العديد من الأثينيين ينظرون إلى أفكار سقراط عن الفردية، على أنّها ذات طابع شرير.
وأشار بعض المؤرخين إلى أنّ جزءًا كبيرًا من الازدراء الشعبي لسقراط، نابع من مقاومة التأمل الذاتي، من منطلق أنّه من الأسهل طرح أسئلة عميقة في الأوقات الجيدة، بينما في الأوقات الأكثر تقلبًا، قد تكون هذه التساؤلات خطيرة.
لكن بشكل عام، تعرّض سقراط للمشاكل، بسبب ميله إلى التشكيك في المعتقدات الراسخة لمواطني أثينا.
كان يتحدث كثيرًا مع شباب أثينا، الذين غالبًا ما أخذوا أفكاره واستخدموها ضد الأجيال الأكبر سنًا. وهكذا، اتُهم سقراط في النهاية بـ"إفساد الشباب".
وأدت هذه التهمة بالإضافة إلى تهمة الكفر، إلى موت سقراط.
تفاصيل انتحاره القسري
تمّ تقديم سقراط للمحاكمة بتهمة الكفر وإفساد الشباب.
ورغم أنّ سقراط قدّم دفاعًا قويًا، كما وثّق أفلاطون، إلا أنّه لم يتمكّن من إقناع هيئة المحلفين المكوّنة من 500 عضو ببراءته. وصوّتوا على إدانته بأغلبية 280 صوتًا في مقابل 221 صوتًا.
وكان النظام الأثيني القديم يسمح للمتّهمين باقتراح عقوباتهم الخاصة. في البداية، قال سقراط مازحًا إنّه يستحق المكافأة. ولم يجد المحلفون الأمر مضحكًا. ثمّ اقترح غرامة زهيدة جدًا.
لم يُغيّر اقتراح سقراط رأي هيئة المحلفين، بل على العكس تمامًا. صوّت عددٌ أكبر من المحلفين لصالح عقوبة الإعدام، مُقارنةً بمن اعتبروه مُذنبًا.

ومُنح الفيلسوف خيار النفي من المدينة، لكنّه اختار البقاء وقبول الحكم. وقال إنّه "مدينٌ باحترام قوانين المدينة التي نشأ فيها".
في النهاية، أُعطي سقراط كأسًا من السم، على الأرجح "الشوكران" وهو نبات شديد السمية قريب من البقدونس، منهيًا حياته في سن السبعين، مكروهًا من قبل العديد من مواطني أثينا.
لكن هذا لم يُزعج الفيلسوف الشهير، الذي يُقال إنّه لقي حتفه بشجاعة.
كما كتب تلميذه أفلاطون: "لقد بدا سعيدًا في سلوكه وكلماته، لأنّه مات بنبل ومن دون خوف".
هل استحق سقراط عقوبته؟
منذ وفاته عام 399 قبل الميلاد، كانت التهم الموجّهة إلى سقراط محلّ تدقيق من قِبل العلماء.
وجادل مؤرخ الفن ديفيد بولز: "تُعتبر تهمة الكفر تهمة غامضة، ومن غير المرجّح أن تُسفر عن إدانة بمفردها. وبالمثل، فإن التهمة الثانية بإفساد الشباب غامضة وتفتقر إلى أي دليل ملموس يدعمها".
وأوضحت لائحة اتهام سقراط أنّ تهمة الكفر وُجهت إليه لأنّه "مذنب بتجاهل الآلهة التي تعترف بها المدينة، وبإدخال آلهة جديدة".
ومع ذلك، أشار بولز إلى أنّ العديد من الأجانب وغير المواطنين والعبيد كانوا يعتنقون ديانات مختلفة.
وعُرف عن سقراط أنّه كان يُشير إلى "الله" بدلًا من "الآلهة".
أما بالنسبة لتهمة "إفساد الشباب"، فقد تناولها سقراط نفسه، معترفًا بأنّ محادثاته مع المواطنين الأصغر سنًا، ربما أوجدت عن غير قصد خطابًا بين الأجيال، لكنّه لم يكن على نطاق ثوري.
ولكنّ دراسة مثيرة للجدل أجراها عالم الكلاسيكيات بجامعة كامبريدج بول كارتليدج عام 2009 زعمت العكس: أنّ سقراط كان بالفعل "مذنبًا كما اتهم".
وقال كارتليدج: "يعلم الجميع أنّ الإغريق هم من ابتكروا الديمقراطية، لكنّها لم تكن الديمقراطية التي نعرفها اليوم، ونتيجةً لذلك، أخطأنا في فهم التاريخ".
وأضاف: "تبدو التهم التي واجهها سقراط سخيفة لنا، ولكن في أثينا القديمة، كان يُعتقد أنّها تخدم المصلحة العامة حقًا".
كان هذا صحيحًا بشكل خاص في أجواء تلك الفترة، حيث كانت أثينا تمرّ بأوقات عصيبة. وكان من السهل استغلال شخصيات غير مرغوب فيها، مثل سقراط، ممن عارضوا الوضع الراهن.
وفي حالة سقراط، أدت طبيعته الاستفهامية ورفضه الالتزام بالأعراف الاجتماعية، إلى وفاته.