كانت البرتغال واحدة من أقوى الممالك التي حكمت العالم في القرون الوسطى، إذ امتلكت أراضي في إفريقيا، وآسيا، وأوروبا، وأميركا، كما استطاعت أن تحصد ذهب تلك الممالك، وأن تفتح مناطق لم تكن معروفة للعالم من قبل مثل البرازيل.
وتبنّت البرتغال مفهومًا مهمًا عن القوة وهو مفهوم الثروة من المعادن الذهبية والمعادن النادرة، حيث سخّرت قوتها العسكرية للحصول على المعادن الثمينة التي كانت تجبى من بقاع الأرض بفضل بحارة كبار مثل ماجلان، وفاسكو داجما، وبارتوليموا دا ياس[1]، وقوة عسكرية ترافق وتحمي هذه القوافل في المحيطات والبحار.
وبالفعل، تشغل فكرة القوة اهتمام الباحثين، ويتهافت عليها السياسيون، ورغم أن القوة مفهوم وصفي أكثر من كونه كمّيًا، وبالتالي قابلاً للقياس، إلا أن لها أدوات ووسائل وحسابات يمكن تحصيلها، مما يجعل القوة كمفهوم متعلق بالدولة يمكن تحديده في المدى البعيد من خلال مقومات ومعالم متنوعة.
تاريخيًا تأتي قوة الدولة من قدرتها على التفوق على أعدائها، وهذا التفوق أساسًا إنما يكون بالسلاح، فالحروب هي ميدان يحسم قوة الدولة، فيثبت هذه القوة أو يلغيها، وقد تصارعت الدول بشكل كبير، فبعضها احتلت أراضيها، وبعضها الآخر أصبح لديه مستعمرات كبيرة، وبعضها يمتلك قواعد عسكرية في مناطق العالم، ليستمر هذا المفهوم بشكل مشابه في واقع اليوم، وقد تمثل في القرن العشرين بشكل واضح عبر تطوير القنابل النووية والأسلحة الإستراتيجية، وامتلاك القواعد العسكرية.
لكن مع خوض بعض الدول مثل روسيا والولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى حروبًا في مناطق مختلفة من العالم، ظهر أن السلاح وحده لا يكفي للتفوق على العدو، ففي الحرب الروسية الأوكرانية مثلاً لم تنفع قدرات روسيا العسكرية في مواجهة الدفاع الأوكراني المستميت والمدعوم بأسلحة ومعلومات غربية، حيث استخدم في هذه الحرب سلاح العقوبات الاقتصادية وتجميد الأصول ومنع الأفراد من السفر والاستثمار وغيرها من العقوبات التي ساهمت بشكل كبير في إضعاف قدرات روسيا.
من هنا، فإنّ القوة اليوم لم تعد القدرة على إرغام الطرف الآخر على القيام بتصرفات أو أفعال تصب في صالح الطرف القوي، بل أصبحت محصلة لمجموعة عوامل ترغم الطرف الآخر على تقديم مصالح أكبر للطرف القوي. وفي عالم اليوم لا يمكن فهم القوة الاقتصادية بمعزل عن بقية المعالم والأدوات[2]، فمجموع هذه القوة يأتي من عدة عناصر، بعضها يتعلق بالسلاح، والبعض الآخر بالتكنولوجيا، وغيرها.
أولاً: العناصر السياسية والعسكرية المساهمة في قوة الدولة
يمكن الحديث عن عدّة عناصر تساهم في قوة الدولة، من بينها القوة السياسية، والقوة العسكرية أو السلاح. فما المقصود بكلّ من هذه العناصر؟
1. القوة السياسية
المقصود بالقوة السياسية ما تمتلكه الدولة من أوراق قوة وملفات يمكن العمل عليها، فضلاً عن مدى انخراطها في بعضها الملفات الساخنة في المنطقة أو العالم، وما إذا كانت تمتلك آراء تجاه القضايا الدولية والإقليمية، وما هو مستوى انخراطها في هذه القضايا.
ويندرج ضمن القوة السياسية أيضًا مستوى الانضباط والاستقرار السياسي الذي يسود في هذه الدولة، فلا نستطيع أن نقول عن دولة إنها قوية ما لم يكن لديها حالة عامة شعبية من الرضا على حكومتها، وأن تكون المعارضة منضبطة في إطار الحفاظ على الدولة، وأن لا يكون هناك تهديدات حقيقية للقوة الحاكمة في الدولة.
ويمكن تلخيص القوة السياسية البحتة من خلال النقاط الآتية:
- الاستقرار السياسي الداخلي: وهو مستوى الرضا العام عن الأوضاع في البلاد، وعدم وجود تهديدات تجاه الدولة، إضافة إلى وجود دستور وآليات واضحة للانتقال السياسي وتسلم السلطة والانتخابات والمشاكل التي تنشأ عنها. وخير دليل على ذلك الصراعات السياسية التي شهدتها العديد من دول الشرق الأوسط، فسوريا والعرق تراجعت قوتهما بشكل كبير بسبب الصراعات الداخلية والأزمات التي أصابت بنية الدولة، وكذلك الحال في لبنان الذي أفرزت الحرب الأهلية التي شهدها، تهجيرًا للكفاءات، واستنزافًا للموارد والبنى التحتية، والفرز الديني والمناطقي، إضافة لتدمير قطاعات مثل الكهرباء والصحة وضرب نظام التعليم، مما أخّر لبنان بشكل كبير عن بقية دول المنطقة.
- معارضة وطنية تقدم مصالح الدولة على مصالحها الخاصة، وتقدم مصالح الشعب على أي مصلحة أخرى، حيث تساهم هذه المعارضة في دعم الدولة التي تستفيد مما تقدمه المعارضة من انتقادات وتحوّلها إلى فرصة. مثال على ذلك ما قامت به المعارضة التركية خلال محاولة الانقلاب الفاشلة على الحكومة عام 2016[3]، حيث "حظي تصدي الأغلبية الفاعلة من المجتمع التركي لمحاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، ورفضها عودة حكم العسكر، ومعها الأحزاب التركية إعجاب الكثير من حكومات وشعوب العالم، ومن بينها شعوب المنطقة العربية التواقة للديمقراطية."[4]، وقد مثّل هذا الموقف قوة لجمهورية تركيا التي استطاعت تخطي الانقلاب وأعادت بناء جيشها ومؤسساتها بعيدًا عن الانقلابيين، ممّا مكّن تركيا من الانخراط في كثير من الملفات الإقليمية بشكل أكثر عمقاً بعد هذه الحادثة.
- الملفات التي تمتلكها الدولة، مثل قدرتها على التفاوض في ملفات معينة تتعلق بها أو بأطراف أخرى. وخير مثال على ذلك هو دولة قطر وقدرتها على تطويع الملفات الموجودة في المنطقة لخدمتها، فقطر تمتلك علاقات مهمة مع قوى إقليمية مثل إيران، وحماس، والسلطات السورية الجديدة، وحكومة طالبان، والحكومة السودانية، وغيرها من القوى التي استطاعت أن تمثل لهم وسيطًا في حل قضايا مختلفة[5].
- طبيعة انخراطها في الشؤون الدولية، والمقصود بذلك هو الانخراط الإيجابي الذي يخدم مصالحها وليس الذي يورطها في قضايا وخلافات مع دول الجوار أو العالم. على سبيل المثال استطاعت لوكسمبورغ (وهي دولة صغيرة من حيث الحجم) أن تنأى بنفسها عن الحرب العالمية الثانية ثم عن كثير من القضايا السياسية والحروب والمعارك والسجالات، وبنت بيئة حرة صارت ملاذًا للاستثمارات الدولية، مما ساهم بالحفاظ عليها رغم صغر حجمها، وعدم وجود منافذ بحرية لها؛ وتعد لوكسمبورغ اليوم واحدة من أغنى دول العالم وأكثرها جذبًا للاستثمارات.
- قدرتها على عقد تحالفات تضمن تعزيز قوتها، فلا تجعلها ضعيفة ولا مستغلة أو تابعة، بل قادرة على التنقل بحسب المصلحة، من دون إزعاج القوى الدولية أو الإقليمية، بما يضمن مصالحها، وخير مثال على ذلك دولة مثل المغرب تمتلك علاقات متوازنة مع القوى الدولية مما يجعلها تكسب مزيدًا من القوة في معركتها للسيطرة على الصحراء الغربية.

2. القوة العسكرية
إن قدرة الدولة على إنتاج سلاحها تعد مسألة مهمة في موازين القوة، خصوصًا على مستوى السلاح النوعي القادر على ردع العدوان، ويندرج ضمن ذلك أيضًا امتلاكها لأسلحة استراتيجية مرعبة للعدو، بحيث تجعله يفكر مرات عديدة قبل أن يعتدي عليها.
ولا تشمل القوة العسكرية بهذا المعنى السلاح فقط، بل الجنود المدربين والقادرين على استخدامه وصيانته والتحكم به أيضًا. ويمكن تلخيص النقاط المتعلقة بالقوة العسكرية فيما يأتي:
- امتلاك سلاح الردع القادر على ردع العدوان، والتصدي لأي هجمات عسكرية محتملة، والتي تجعل العدو يفكر مرات ومرات قبل أن يهدد أمن الدولة. فعلى سبيل المثال تمتلك إيران قدرات صاروخية كبيرة، حيث تصل بعض صواريخها عمق اسرائيل؛ مما يجعل الأخيرة تتردد كثيرًا قبل توجيه أي ضربة مباشرة لإيران.
- القدرة على التحكم الكامل بالسلاح، بمعنى قدرة الدولة على التحكم الكامل بهذا السلاح، فعلى سبيل المثال يحتاج الطيران المسير النوعي لأقمار صناعية تسيره، كما أنّ الأسلحة الاستراتيجية تحتاج لنظام تشغيل خاص بها. وعلى سبيل المثال، استطاعت أوكرانيا أن تستخدم الطيران المسير كسلاح فعال تجاه هجوم القوات الروسية، وعبر أقمار صناعية استطاعت أوكرانيا توجيه هذه الطائرات والصواريخ، ويتوقع أن أوكرانيا مربوطة بخمسين قمرًا صناعيًا تستخدم في الحرب[6]، رغم أنه في الأيام الأولى للحرب كانت بعض التحليلات تشير إلى أن سقوط كييف بيد روسيا قد يحصل خلال أيام[7].
- الكفاءة الفنية للجنود، القادرين على استخدام السلاح والقتال في سبيل أمن وسلامة الدولة، أي أن يكون لديهم قناعة تامة بما يقاتلون من أجله، وأن تكون لديهم مهارات العمل في أرض الميدان، وهذه النقطة يمكن أن يتم ضرب مثال عليها من القتال في فلسطين، حيث أن كفاءة المقاتلين تجعل قوة المقاومة أعلى بكثير مما يتوقع من الناحية النظرية، فالإمكانات العسكرية ضعيفة، والأراضي التي يتم القتال بها صغيرة، ولكن الكفاءة العالية والتدريب وكذلك العقيدة القتالية مهمة جدًا.
- التصنيع الحربي: لا شك أن القدرة على التصنيع تعد مسألة فائقة الأهمية في ميزان القوى، خاصة لو تحدثنا عن تصنيع ما هو استراتيجي، فبعض الدول تنتج طلقات الرصاص الحي، وبعضها الآخر تنتج الطائرات، وهناك فرق كبير بين السلاحين، وعلى سبيل المثال نجد أن روسيا تصنع سلاحها وجزءًا كبير من أسلحة العالم، مما يعطيها تفوقًا وقوة كبيرة على بقية الدول، كذلك نجد أن الصين بدأت بالدخول في ميدان التصنيع والتصدير بقوة، وهو ما يعظم من قوتها كذلك الأمر.
ثانياً: العناصر المتعلقة بالموارد اللامادية
إلى جانب العناصر الأساسية التي تساهم في قوة الدولة، بشقّيها السياسي والعسكري، ثمّة عناصر أخرى لا بدّ من الإشارة إليها، ومنها تلك المتعلقة بالموارد اللامادية. فما هي؟
1. اللغة
تُعَدّ اللغة عاملاً من عوامل قوة الدولة، فاللغة عنصر أساسي في التواصل داخل الدولة وخارجها، علمًا أن اللغة هي أحد أهم عناصر التنمية[8] فهي تنمي رأس المال البشري، وتدعم التواصل، وتعطي السمة العامة للعلاقات وتقسمها إلى رسمي وغير رسمي، كذلك فإن التجارة الدولية تتأثر بشكل كبير باللغة.
وعمليًا، يمكن القول إن اللغات تنقسم إلى أربعة أقسام، هي:
- اللغات المليارية: وتشمل الإنكليزية، والصينية، والهندية، حيث تعد الإنكليزية لغة تواصل العالم الفعلية، وتعتبر لغة رسمية في عشرات الدول، وتأتي الصينية والهندية كلغات تواصل لشعوب كبيرة من حيث العدد، لذا نستطيع أن نقول إنّ هذه اللغات هي لغة يتحدث بها مليار شخص أو يزيد، وهذا يساعد على التجارة الدولية وتسهيل التواصل والتفاعل، والتعامل التقني وتسوية العلاقات وغيرها من المسائل التي تعطي حافزًا كبيرًا للدولة.
- اللغات واسعة الانتشار: وتشمل الفرنسية، والعربية، والألمانية، والإسبانية، والروسية، والبرتغالية، حيث يتحدث بها مئات الملايين من البشر، فالعربية يتحدث بها قرابة 400 مليون عربي، كما أن الفرنسية تعد لغة لعدد واسع من الشعوب، ومثلها الألمانية والاسبانية، والروسية، وفي هذا الجانب نجد أن اللغات تساعد بشكل كبير على التواصل وتقوية العلاقات بين الدول التي تتحدث اللغة ذاتها، فهناك علاقة كبيرة بين فرنسا ومستعمراتها الناطقة بالفرنسية، كما أن هناك روابط رسمية في هذا المجال، وينعكس موضوع اللغة أيضًا على المساعدة الإدارية والهيكلية الحكومية التي تحصل عليها الدول من تبادل المعرفة فيما بينها.
- اللغات ذات الحضور: هناك لغات منتشرة بشكل كبير في إطار محلي أو محيط بهذا المحل، مثل اللغة التركية التي يتحدث بها 85 مليون شخص في تركيا ومثلهم في محيط تركيا، وتسعى تركيا لتوسيع تعلم اللغة التركية من خلال البعثات الثقافية والمنح التعليمية وذلك لتوسيع نفوذها وقوتها. كذلك نجد لغات مثل الفارسية محكية على نطاق في إيران ويتعلمها عدد آخر ممن هم خارج البلاد لأغراض ثقافية وعلمية وتجارية.
- اللغات الضيقة: وهي لغات ضعيفة الانتشار وأحيانًا يتم التحدث بها داخل دول لا تعترف بها أو تعترف بها كلغة ثانية، مثل اللغة الأمازيغية والكردية وعدد آخر من اللغات التي تعد ضيقة الانتشار، وأحيانًا فإن بعض هذه اللغات غير مكتوبة، أو أنها تختلف من منطقة إلى أخرى ليس من حيث اللهجة ولكن حتى من حيث المعاني والتراكيب.
2. الرياضة
تُعَدّ الرياضة رسالة ونقطة قوة من الدولة للدول الأخرى، فهي مؤشر مهم على ما تمتلكه من قدرات بشرية ومادية، فمثلاً بلد مثل الولايات المتحدة يمتلك العدد الأكبر من الميداليات الذهبية والفضية في الأولمبياد بأكثر من 2000 ميدالية، كما تمتلك بريطانيا حوالي 1000 ميدالية، في حين أنّ أفغانستان مثلاً تمتلك ميدالتين فقط، وبوركينا فاسو ميدالية واحدة.
ولعلّ بطولات كأس العالم لكرة القدم تشكّل نقطة أساسية في تحديد قوة الدولة، فالدول الحائزة على البطولة تكتسب تلقائيًا قوة لا يمكن تجاهلها، مثل البرازيل والأرجنتين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، كما أنّ الدول التي تستضيف بطولات كأس العالم تكتسب أيضًا أهمية جوهرية.
وفي الرياضة، يمكن الإشارة إلى مجموعة من النقاط الأساسية:
- عدد مرات الفوز في البطولات الدولية، مثل الأولمبياد وكأس العالم لكرة القدم وغيرها من البطولات، والتي تساهم بوضع الدولة على قائمة الحضور الدولي، ويشاهدها مئات ملايين الناس.
- عدد الألعاب الرياضية التي يمارسها لاعبو الدولة، فكلما زاد التنوع زادت القوة الرياضية للدولة، مثلا الصين شاركت بـ777 لاعباً في بطولات طوكيو للأولمبياد، كما شاركت في أولمبياد باريس بـ711 لاعباً بينهم لاعبون لم يتجاوزا عامهم الحادي عشر، بينما تشارك دول أخرى بثلاثة أو أربعة لاعبين فقط.
- عدد المنشآت الرياضية والمساحات التي تمارس فيها الرياضة، حيث تعكس هذه المنشآت ثقافة الدولة، وقدرة المواطنين على ممارسة الرياضة، وتراجع الأمراض وارتفاع النظام الصحي الوطني، كذلك تحسن المزاج العام وارتفاع روح التضامن بين المواطنين في الدولة. وتحكي قصة فيلم (Invictus) المأخوذة عن كتاب اللعبة التي وحدت أمة، أن نيكسون مانديلا استخدم الفريق الرياضي الوطني لتعزيز الروح الرياضية العامة، وتعزيز شعور الانتماء المشترك بين المواطنين، مما ساهم بتقليل التوترات بين البيض والسود في جنوب إفريقيا.

ثالثًا: عناصر القوة المتعلقة بالاقتصاد
يشكّل الاقتصاد عاملاً مهمًا من العوامل التي تحدّد قوة الدولة، ويندرج في هذا السياق الموارد الطبيعية التي تمتلكها الدولة، ولكن أيضًا عناصر الإنتاج.
1. الموارد الطبيعية
المقصود بالموارد الطبيعية جغرافية الدولة؛ أي تموضع هذه الدولة، وحدودها، بما في ذلك المنافذ البحرية والحدود، فضلاً عن الطبيعة الجغرافية الداخلية والمحيطة بها، من جبال ووديان.
وبشكل عام، يمكن الحديث عن مجموعة عناصر تتكامل عند الحديث عن الموارد الطبيعية، وفقًا لما يلي:
- مساحة الدولة: تتناسب قوة الدولة مع مساحتها، حيث نجد أن دولة مثل مصر لها قوة وأهمية دولية أكبر بكثير من دول أخرى في جوارها مثل ليبيا أو تونس على سبيل المثال.
- المنافذ البحرية والبرية: تتناسب قوة الدولة مع عدد المنافذ التي تمتلكها، وعدد البحار التي تشرف عليها، ومع أهمية هذه البحار والمضائق تزيد أهمية الدولة، ففي مثال مصر السابق، نجد أن وجود قناة السويس في الأراضي المصرية يجعل لمصر أهمية عالية حيث يمر بها 9% من تجارة العالم على أقل تقدير[9]، هذا يعطي قوة اقتصادية وسياسية كبيرة لمصر، ورغم الأزمات والمشاكل في البحر الأحمر إلا أن قناة السويس بقيت ذات أهمية كبيرة، ولم يستطِع العالم التخلي عنها[10].
- الموقع الجغرافي للدولة: يُعَدّ الموقع مهمًا للغاية، فبعض الدول تتموضع على أكثر من قارة، ودول أخرى تقع في أقصى الأرض، وبالتالي كلما كان الموقع مهمًا وحسّاسًا ستكون قوة الدولة أكبر. وفي هذا السياق يبرز بلد مثل تركيا الذي يمتد على قارتين مما يعزز من قدرته في التواصل والتحكم بحركة المرور للسفن والحركة البرية وخطوط الطاقة.
- الجغرافية الداخلية للدولة: كمعدل الأمطار، وعدد الأنهار، وحجم الموارد الطبيعية التي تحتويها البلاد، وغير ذلك من قضايا؛ كلها ترفع وتزيد من قوة الدولة، فمعظم دول الخليج تأخذ قوتها من مواردها الطبيعية، وبعض الدول مثل رومانيا تأخذ قوتها من مساحتها الزراعية الواسعة ومعدل هطول الأمطار في هذه الدولة، وحجم المراعي الكبير الذي يسمح لها بتربية الحيوان بأعداد ضخمة.
2. عناصر الإنتاج
المقصود بعناصر الإنتاج هو الاقتصاد الطبيعي للدولة، وما بني عليه، فعناصر الإنتاج الرئيسية هي الأرض وما تحتويه من موارد طبيعية وما يمكن الاستفادة منه من خلالها، وكذلك العمال الذين يمثلهم السكان، ومدى وجود خبراء وفنيين، ورأس المال، وهو الأموال والماكينات والتقنيات التي تمتلكها هذه الدولة، ويمكن إضافة التكنولوجيا كعنصر منفصل.
ويمكن قياس التفاصيل المتعلقة بهذا العنصر من خلال النقاط الآتية:
- عدد الشركات المؤسسة والعاملة داخل الدولة ورأس مالها، فكلما كان عدد هذه الشركات أكبر ستكون قوة الدولة أكبر، فالدول الغربية تجعل مؤشر إنشاء الشركات الجديدة معيارًا مهمًا لتقدمها، فعلى سبيل المثال حققت ألمانيا ما يزيد عن 100 ألف شركة جديدة في 2024.[11]
- الشركات عابرة القومية التي تنطلق من أرض الدولة، أي ما هي الشركات والمؤسسات الكبيرة والضخمة التي تنتمي لهذه الدولة، فمثلاً تنتمي شركات مايكروسوفت وأبل ونيفيديا وجنرال موترز وغيرها للولايات المتحدة، وتنتمي شركة إيكيا وشركة سكانيا للسيارات وشركة فولفو للسيارات كذلك، وشركة H&M المتخصصة في بيع الملابس، للسويد وإن كانت تغزو العالم.
- التقنيات التي تمتلكها الشركات والأفراد، وهنا لا نتحدث عن الإنترنت أو الكمبيوتر كأصل يمتلكه الفرد أو المؤسسة، بل كأداة يتم تصنيعها، فتايوان مثلاً تصنع أشباه الموصلات، مما يجعل الدول الغربية يدافعون عنها أمام قوة عظيمة هي الصين، مما يعطي تايوان قوة من خلال هذه الصناعات.
- السياحة: تمثل السياحة قوة للدولة، فهي وإن كانت مرتبطة بالجغرافية بشكل رئيسي، إلا أنها على جانب آخر تمثل أسلوب استقبال وضيافة من فنادق ومطاعم ومتاحف وأصول وخدمات ومطارات وشوارع وغير ذلك من مرافق وأصول لامادية كالآثار والفنون والثقافة كلها تجذب السياح، لذا نجد أن السياحة الأكبر تكون في دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول التي تتسم بالقوة أساساً.
- العملة: تعد العملة عنصرًا من عناصر القوة، وكلما كانت العملة مستقرة فهذا يعني أن الدولة أقوى، نلاحظ أن هوامش تحرك عملات مثل اليورو والدولار هي هوامش بسيطة، بينما نجد أن عملات مثل الليرة التركية والجنيه المصري تتحرك بشكل كبير للأعلى أو الأسفل.
- الصادرات والواردات: التجارة الخارجية مهمة للغاية، فكلما كانت تشابكات الدولة مع الخارج أكبر كلما زادت قوتها، فأنت لك مصلحة ولك شريك تجاري تدافع عنه وتتعاقد معه، وكلما زادت تشابكاتك وشراكاتك الدولية كدولة فهذا يعني مزيدًا من القوة للدولة. في هذا السياق تأتي ألمانيا كمثال جيد، حيث تعد رابع اقتصاد عالمي وأكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وتمتلك ألمانيا قائمة من شركاء اقتصاديين كبار مثل فرنسا، وبريطانيا، والصين، والهند، والولايات المتحدة، وتركيا، وتصدر منتجاتها إلى معظم دول العالم، حيث تمتلك ألمانيا شركة (DHL) العالمية التي تصل إلى كل مدينة من مدن العالم تقريباً، بل إلى كل قرية عبر خدمة تقديم الطرود، كما تمتلك شركة (بووش) التي دخلت منتجاتها معظم مطابخ وبيوت العالم، إضافة لامتلاكها ماركة سيارات مرسيدس وفلوجس فاجن وأدوي، أي أنه من السهل أن ترى منتجات ألمانيا حولك، في الشوارع والمنازل أو عبر خدمات الطرود التي تصلك من أي مكان في العالم. هذه التشابكات الألمانية مع اقتصادات العالم، تجعل من ألمانيا قوة اقتصادية عظمى لا يمكن تجاهلها لا في الوقت الراهن ولا في المستقبل.
- البنى التحتية: إن امتلاك الدولة لمنظومة اتصالات جيدة، ومنظومة طرقات وتنقل، وكذلك مشافي وجامعات ومؤسسات خدمية أخرى، هذا كله يزيد من قوتها، وقد رأينا دولاً تنهار أمام أزمات مثل أزمة كورونا أو أزمات وكوارث طبيعية، بينما نجد أن دولاً تضربها الأعاصير بشكل دوري تبقى صامدة لما لديها من قدرات وبنى تحتية قادرة من خلالها على استيعاب الصدمات وتقليل الخسائر[12].
- أسواق المال والشركات المساهمة، وهي أسلوب لتوظيف الأموال من داخل وخارج الدولة، حيث أن البورصات الكبيرة مثل بورصة طوكيو ونيويورك ولندن وغيرها تعد من أبرز أماكن جذب الأموال في العالم، مما يجعل المستثمرين العالمين يهتمون بهذه الدول وبورصاتها، ويحرصون على أن تكون اقتصادات هذه الدول آمنة[13].

رابعاً: عناصر القوة الاجتماعية
إلى جانب كلّ ما تقدّم من عناصر تحدّد قوة الدولة، يمكن إضافة بعض عناصر القوة الاجتماعية، ويشمل ذلك السكان والمجتمع المدني.
1. السكان
السكان هم عنصر القوة الرئيسي، إنهم القوة البشرية للدولة، رأس مالها البشري، وتتناسب قوة الدولة مع عدد السكان بشكل طردي، ولكن ليس فقط العدد هو المهم، فهناك دول تشكل فيها أعداد السكان مشكلة لهذه الدولة وتسبب بحالة من الضعف كما هو الحال مثلاً في بنغلادش التي لديها مايزيد عن 170 مليون نسمة، وكذلك الفلبين التي تمتلك حوالي 115 مليوناً، ومثلهما نيجريا بأكثر من 225 مليون نسمة، وهذه الدول الثلاث تعد من الدول متوسطة الدخل وترتفع فيها نسب الفقر. ولكن على جانب آخر تعد الصين ثاني أكبر دولة من حيث العدد بعد الهند ولكنها تحول عدد السكان إلى قوة عمل تنتج ما يمكن العالم من الاستيراد من الصين بأرقام ضخمة تكاد تصل إلى 5 ترليونات دولار أميركي سنوياً[14].
إذاً ليس فقط العدد بل القدرات والتأهيل والتدريب الذي يمتلكه السكان، ونستطيع أن نلخص هذا العنصر في النقاط الآتية:
- عدد السكان، يتناسب طردًا مع قوة الدولة في الغالب، فكلما زاد عدد السكان ارتفعت أهمية الدولة.
- خصائص السكان، من حب العمل والعلم ودرجة التأهيل والقيم التي تحكمهم تتناسب طرداً مع قوة الدولة.
- الأعراق والمذاهب والإثنيات، تتناسب عكساً مع قوة الدولة، فكلما قل التجانس بين السكان تضعف الدولة من الداخل، وإن وحدة السكان وتماسكهم يجعل من الدولة أقوى.
2. المجتمع المدني
يُعَد المجتمع المدني نشاطًا إنسانيًا أكثر من كونه نشاطًا سياسيًا، يهدف لتنظيم المواطنين والعمل المستقل في سبيل خدمة المجتمع، وكلما زادت قوة المجتمع المدني فإن الدولة تكون أكثر متانة وقوة، فالمجتمع المدني يستطيع أن يفعّل الطاقات والموارد، ويمكن أن يوظف الشباب في الشأن العام ويؤهلهم لمهام كبيرة.
ولعل تجربة فرنسا في هذا السياق تستحق الذكر، حيث إن المجتمع المدني في فرنسا يعد قويًا من حيث العدد والتأثير والأهمية الاجتماعية والسياسية[15].