الجمعة 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2025
Close

قوة محتكرة.. كيف تشكل وكالات التصنيف الائتماني مصير الاقتصادات؟

قوة محتكرة.. كيف تشكل وكالات التصنيف الائتماني مصير الاقتصادات؟ محدث 11 تشرين الأول 2025

شارك القصة

تلعب وكالات التصنيف الائتماني دورًا بالغ الأهمية في الأسواق المالية- غيتي
تلعب وكالات التصنيف الائتماني دورًا بالغ الأهمية في الأسواق المالية- غيتي
الخط
سلكت وكالات التصنيف الائتماني مسارًا طويلاً من نشأتها المتواضعة في القرن التاسع عشر إلى أن أصبحت لاعبًا رئيسيًا على مسرح الاقتصاد العالمي. 

في دهاليز الأسواق المالية المعقدة، حيث تتدفق تريليونات الدولارات وتتقاطع المصالح الاقتصادية، تبرز وكالات التصنيف الائتماني كمؤسسات ذات نفوذ صامت لكنه هائل، إذ تُعَدّ قراراتها محركات خفية تُوجّه مسارات الاستثمار الحكومية والخاصة، وتُحدّد كلفة الاقتراض للدول والشركات، وتؤثر بشكل مباشر على استقرار الأنظمة المالية العالمية.

وبحسب موقع "فوريكس"، فإن وكالات التصنيف الائتماني (CRAs) هي شركات مستقلة تُصدر تحليلات دورية بشأن قدرة المؤسسات المالية على خدمة ديونها. وتؤثر هذه التصنيفات بشكل كبير على الأسواق المالية، لا سيما أسواق السندات والعملات الأجنبية والأسهم والمؤشرات.

تُظهر التصنيفات الائتمانية الصادرة عن هذه الوكالات مستوى مخاطر الائتمان المرتبطة بكيانٍ معين، أي مدى احتمالية تخلّفه عن سداد ديونه. وتُستخدم هذه التصنيفات خصوصًا في تقييم السندات التي تُصدرها الشركات والحكومات، لكنها قد تُطبَّق أيضًا على أصول مالية أخرى مثل الأسهم الممتازة أو الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري.

تلعب وكالات التصنيف الائتماني دورًا محوريًا في الأسواق المالية العالمية. فعلى سبيل المثال، تعاني أكبر اقتصادات العالم من ديون ضخمة، وإذا خفّضت إحدى هذه الوكالات تصنيفها الائتماني، سينخفض الطلب على ديونها، ما يعني ارتفاع كلفة خدمتها، وهو ما قد يُلحق ضررًا جسيمًا بالاقتصاد.

كيف نشأت هذه الشركات؟

سلكت وكالات التصنيف الائتماني مسارًا طويلًا منذ نشأتها المتواضعة في القرن التاسع عشر، حتى أصبحت لاعبًا رئيسيًا على مسرح الاقتصاد العالمي.

ورغم الفشل الذي مُنيت به خلال أزمة الرهن العقاري الثانوي بين عامي 2007 و2008، لا تزال وكالات التصنيف الائتماني تُشكّل بوابةً ووسيطًا أساسيًا في الأسواق المالية.

لعب المحامي ورائد الأعمال الأميركي هنري ويليام بور دورًا حاسمًا في نشأة وكالات التصنيف الائتماني، إذ أصبح شخصية رائدة في السوق بفضل استثماراته الناجحة في قطاع السكك الحديدية. لاحقًا، أسّس مع ابنه شركة H.V. and H.W. Poor، وفقًا لبحث أعدّته جامعة لويس الإيطالية. 

تُقسم التصنيفات الائتمانية إلى فئتين، درجة استثمارية ودرجة مضاربة- غيتي
تُقسم التصنيفات الائتمانية إلى فئتين، درجة استثمارية ودرجة مضاربة- غيتي

بدأت الشركة عملها كوكالة لإعداد التقارير الائتمانية، وكانت أيضًا ناشطة في مجال النشر. وبحلول عام 1890، كانت تنشر بشكل دوري دليلًا محدّثًا بعنوان "دليل سكك حديد الولايات المتحدة" يتضمّن معلومات مفصّلة عن شركات السكك الحديدية.

وقد حظي هذا الدليل بشعبية كبيرة بين المديرين وصغار المستثمرين، إذ مكّنهم من متابعة نمو الشركات ومقارنة أدائها بشكل مستقل.

ثم أسّست عائلة بور وكالة التصنيف "شركة بور للنشر" عام 1916. وفي عام 1941، وُلدت وكالة "ستاندرد آند بورز" الشهيرة نتيجة اندماجها مع مكتب الإحصاء للمعايير.

وخلال العقدين التاليين للنشر الأول للدليل، بدأ العديد من المحللين بالتخصّص في هذا المجال، وأصدروا تقارير تتضمّن بيانات مالية وإحصائية عن شركات السكك الحديدية بشكل فردي.

أول مخطط تصنيف للسندات

جمع جون مودي تلك التفاصيل، معتقدًا أن المستثمرين سيدفعون رسومًا مقابل خدمة تُصنّف هذا الكم الهائل من المعلومات في صيغة سهلة الفهم.

استخدم مودي مجموعة من الرموز الأبجدية البديهية لتوضيح جودة السند ومخاطر الإفلاس المرتبطة به، ونشر أول مخطّط تصنيف للسندات عام 1909 في كتابه "تحليل استثمارات السكك الحديدية"، حيث قيّم جودة الائتمان لـ200 شركة سكك حديدية.

في العام نفسه، تأسست شركة "موديز إنفستورز سيرفيس" في نيويورك، وبدأ سوق التصنيف بالازدهار بفضل نجاحها. وأصبحت وكالات التصنيف الطرف الثالث المستقل الذي يُجري تحليلًا موضوعيًا للسندات الصادرة في السوق المالية.

وجد المستثمرون الصغار والمتوسطون أنه من الأجدى الاعتماد على خبراء يمتلكون أدوات تحليلية متقدمة وخبرة مهنية، بدلًا من التخمين الفردي، ما ساهم في تقليص فجوات المعلومات بين المقترضين والمقرضين وسهّل انسياب رأس المال في الأسواق.

وبحلول منتصف عشرينيات القرن الماضي، كانت "موديز" تُصنّف جميع السندات الصادرة في الولايات المتحدة، ما أتاح للمستثمرين مقارنة فرص الاستثمار المختلفة في قطاع السكك الحديدية. لكن بعد انهيار السوق عام 1929، شهدت صناعة التصنيف فترة ركود قبل أن تستعيد نشاطها تدريجيًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

وخلال التسعينيات، توسّع نطاق عمل الوكالات الثلاث الكبرى بشكل ضخم. فبحلول عام 1997، كانت "موديز" تُصنّف أكثر من 20 ألف جهة إصدار عامة وخاصة بقيمة إجمالية تجاوزت 5 تريليونات دولار، بينما صنّفت "ستاندرد آند بورز" أوراقًا مالية بقيمة 2 تريليون دولار. وبلغت القيمة السوقية لشركة "موديز" أكثر من 15 مليار دولار عام 2005، مقابل نحو 85 مليار دولار اليوم، وفقًا لموقع "إنفستنغ".

البنوك وشركات التأمين تعزز دور وكالات التصنيف

في ثلاثينيات القرن الماضي، شجّعت الجهات التنظيمية الأميركية البنوك على الاحتفاظ بالسندات الآمنة فقط، وأصدرت عام 1936 مرسومًا يحظر على البنوك الاستثمار في "الأوراق المالية المضاربة" وفقًا لما تحدده "أدلة التصنيف المعترف بها".

وفي العقود اللاحقة، بدأت الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة تعتمد على هذه التصنيفات لتحديد متطلبات رأس المال في البنوك وشركات التأمين، وأصبح الاعتماد على "ستاندرد آند بورز" و"موديز" و"فيتش" شبه رسمي بحلول عام 1975، عندما أنشأت هيئة الأوراق المالية والبورصات فئة "منظمات التصنيف الإحصائي المعترف بها وطنيًا" (NRSRO).

تستخدم جميع وكالات التصنيف الائتماني الرئيسية مقياسًا أبجديًا في درجاتها الائتمانية- غيتي
تستخدم جميع وكالات التصنيف الائتماني الرئيسية مقياسًا أبجديًا في درجاتها الائتمانية- غيتي

تنظيم وكالات التصنيف الائتماني

تطور تنظيم وكالات التصنيف الائتماني على نحو كبير نتيجة الأزمات المالية المتكررة. ففي عام 1975، صنّفت الولايات المتحدة وكالات محددة ضمن فئة NRSRO، ما أوجد احتكارًا فعليًا للسوق. وبعد الأزمة المالية عام 2008، خضع القطاع لإصلاحات واسعة.

في الاتحاد الأوروبي، صدرت لوائح تنظيمية شاملة أعوام 2009 و2011 و2013، هدفت إلى فرض التسجيل والإشراف، وتقليص تضارب المصالح، وتعزيز الشفافية، والحد من الاعتماد الميكانيكي على التصنيفات. وقد أُوكلت مسؤولية الإشراف إلى هيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية (ESMA).

وفي الولايات المتحدة، عزز قانون دود-فرانك لعام 2010 الرقابة على وكالات التصنيف، وقلّل من الاعتماد على تصنيفاتها في اللوائح الرسمية، وزاد من مستوى المساءلة. كما ساهمت المنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية (IOSCO) في تطوير المبادئ الدولية المنظمة لعمل هذه الوكالات، بما في ذلك "مدونة قواعد السلوك الأساسية لوكالات التصنيف الائتماني" التي أصبحت معيارًا دوليًا يُسترشد به.

كذلك أثّرت اتفاقيات بازل على الطلب على التصنيفات الائتمانية واستخدامها في تقييم كفاية رأس المال لدى البنوك.

فئات التصنيفات الائتمانية

تُقسم التصنيفات الائتمانية إلى فئتين رئيسيتين: درجة استثمارية ودرجة مضاربة.

  • تشير الدرجة الاستثمارية إلى أن الورقة المالية تتمتع بتصنيف مرتفع، ما يجعلها آمنة لكنها منخفضة العائد.
  • أما الدرجة المضاربة، فتشير إلى استثمار عالي المخاطر مقابل احتمال تحقيق عائد مرتفع.

يقوم محللو وكالات التصنيف بتحليل البيانات الاقتصادية والسياسية والمالية لتقييم الجدارة الائتمانية للجهة المصدّرة، ويُعرض التقييم لاحقًا على لجنة مختصة لاتخاذ القرار النهائي بشأن التصنيف.

مقاييس التصنيف

تستخدم جميع الوكالات مقياسًا أبجديًا موحدًا نسبيًا، تبدأ أعلى درجاته بـ"AAA" وتنتهي بـ"C" أو "D" التي تُعبّر عن التعثر أو الإفلاس.

يشمل ستاندرد آند بورز 500 أصولًا بقيمة تريليون دولار تقريبًا- غيتي
يشمل ستاندرد آند بورز 500 أصولًا بقيمة تريليون دولار تقريبًا- غيتي

احتمال تخلف المؤسسات الحاصلة على تصنيف "AAA" عن سداد ديونها لا يتجاوز 1%.

ومنذ الأزمة المالية لعام 2008، تراجع عدد الدول التي تحظى بتصنيف "AAA" من أكثر من 15 دولة إلى 11 فقط.

ومؤخرًا، فقدت الولايات المتحدة آخر تصنيف "AAA" متبقٍ لها، لتنضم إلى قائمة الدول ذات التصنيف "AA+".

احتكار قلة

منذ نشأة هذا القطاع، ظلّت البيئة التنافسية شبه مجمّدة، إذ تُهيمن ثلاث وكالات على السوق العالمي: "ستاندرد آند بورز" و"موديز" و"فيتش".

وبحسب بيانات عام 2010، بلغت حصص السوق الأميركية: 42% لستاندرد آند بورز، 37% لموديز، و18% لفيتش، فيما لم تتجاوز حصة الوكالات الأخرى مجتمعة 3%.

وتحتكر "موديز" و"ستاندرد آند بورز" نحو 80% من السوق العالمي، بينما تلعب "فيتش" دور المنافس الثالث الأصغر حجمًا.

ويرجع هذا الاحتكار إلى العوائق الكبيرة أمام دخول شركات جديدة، وإلى ثقة المستثمرين الراسخة بالعلامات التقليدية. كما ساهم غموض معايير التصنيف الرسمية الأميركية في تعزيز هذا الاحتكار.

وتشير لجنة بازل للرقابة المصرفية إلى وجود نحو 150 وكالة تصنيف حول العالم، تُصنف ضمن ثلاث فئات: وطنية، وإقليمية، وعالمية.

أهم 5 وكالات تصنيف في العالم

في ما يلي وكالات التصنسف الخمس الهم في العالم، وفق موقع "فنتيك ماغازين". 

موديز

أسسها جون مودي مطلع القرن العشرين، وبدأت بتصنيف سندات السكك الحديدية، قبل أن تصبح أكبر وكالة في العالم إلى جانب "ستاندرد آند بورز".

تُصنّف موديز التصنيفات من الأعلى إلى الأدنى كالآتي: AAA، Aa1/Aa2/Aa3، A1/A2/A3، Baa1/Baa2/Baa3، Ba1/Ba2/Ba3، B1/B2/B3، Caa1/Caa2/Caa3، Ca، C.

كل تصنيف أعلى من Ba1 يُعد استثماريًا، وما دونه يُعد مضاربًا.

تشمل الدول الحاصلة على تصنيف AAA من موديز: كندا والنرويج، فيما خُفّض تصنيف الولايات المتحدة مؤخرًا إلى Aa1.

تستحوذ شركة موديز على 40% من سوق التصنيف الائتماني- غيتي
تستحوذ شركة موديز على 40% من سوق التصنيف الائتماني- غيتي

"ستاندرد آند بورز"

بدأت نشاطها بنشر تحليلات الأسهم في ستينيات القرن التاسع عشر، وأطلقت أول تصنيفاتها عام 1906، قبل أن تندمج لاحقًا لتُشكل وكالة "ستاندرد آند بورز" المعروفة اليوم.

تُسيطر على نحو 40% من السوق، ويُعد مؤشر S&P 500 أحد أبرز أدواتها، إذ يشمل أصولًا بقيمة تريليون دولار تقريبًا.

تُستخدم رموز التصنيف التالية: AAA، AA+/AA/AA-، A+/A/A-، BBB+/BBB/BBB-، BB+/BB/BB-، B+/B/B-، CCC+/CCC/CCC-، CC، SD/D.

أي تصنيف عند BB+ أو أدنى يُعتبر مضاربًا.

"فيتش"

تأسست عام 1924، وهي ثالث أكبر وكالة عالميًا، بحصة سوقية تقارب 15%.

قدّمت لأول مرة مقياس التصنيف من AAA إلى D، الذي أصبح المعيار المعتمد لاحقًا.

نظامها مطابق تقريبًا لـS&P، وتُعتبر التصنيفات من AAA إلى BBB استثمارية، وما دون ذلك مضاربة.

اعتبارًا من سبتمبر/ أيلول 2023، لم تمنح فيتش أي شركة تصنيف "AAA"، بينما حصلت عليه دول مثل النرويج وأستراليا وألمانيا.

مورنينغستار "دي بي آر إس" (DBRS) 

هي رابع أكبر وكالة تصنيف، مقرها في كندا، وتُقدّم تصنيفات وائتمانًا مستقلاً لمجموعة واسعة من المؤسسات والهيئات، وفق موقع "فنتيك ماغازين".

تعتمد منهجية تصنيف شاملة، تتراوح من AAA (أعلى جودة ائتمانية) إلى D (التعثر في السداد)، وتملك ثمانية مكاتب حول العالم، وتتمتع بخبرة كبيرة في التمويل الهيكلي وائتمان الشركات والمؤسسات المالية.

"آي أم بيست"

أقدم وكالة تصنيف ائتماني في العالم، تأسست عام 1899، ومتخصصة حصريًا في قطاع التأمين.

تُقيّم الجدارة الائتمانية لأكثر من 16 ألف شركة تأمين حول العالم، وتُصدر تقارير تفصيلية عن أدائها المالي.

تتبنّى نهجًا تحليليًا شاملًا يجمع بين التقييم الكمي والنوعي، وتُعَدّ مؤسسة معترفًا بها ضمن فئة NRSRO في الولايات المتحدة.

بهذا، تُشكّل وكالات التصنيف الائتماني قوة محتكرة تُحدد إلى حد كبير مصير الاقتصادات، وتُؤثر على السياسات المالية للدول والشركات على حدّ سواء، في عالمٍ باتت فيه الثقة الرقمية في التصنيفات لا تقل أهمية عن الذهب نفسه.
تابع القراءة

المصادر

موقع التلفزيون العربي