في قلب المشهد اللبناني بكل تناقضاته، برز اسم "حزب الله" لاعبًا أساسيًا في معادلات السياسة والحرب، محليًا وإقليميًا.
وُلد هذا التنظيم المسلح في بيئة طائفية مأزومة، مدعومًا من الجمهورية الإسلامية في إيران، ليبدأ مسيرة تحوّله من مجموعة مقاومة ناشئة إلى قوة سياسية وعسكرية مؤثرة.
لم يكن ظهور الحزب حدثًا عابرًا في تاريخ لبنان، بل لحظة مفصلية غيّرت شكل الصراع مع إسرائيل، وأعادت رسم توازنات القوى في الداخل اللبناني.
ومع مرور العقود، تعاظم حضوره، وتوسّع دوره، ليتخطى حدود المقاومة المسلحة، ويدخل عمق المعادلة الإقليمية، من سوريا إلى العراق، ومن اليمن إلى فلسطين.
وبات للحزب دور في رسم السياسات اللبنانية، فقد أصبح في دائرة صانعي القرارات في الحياة السياسية اللبنانية مشاركًا في الحكومة والمجلس النيابي وإدارات الدولة.
لكنّه أيضًا خرج من الطابع "المحلي"، خصوصًا بانخراطه في ساحات أخرى، كان أكثرها "خطورة" عليه قبل غيره، الساحة السورية، إذ يعتبر كثيرون دعمه لنظام الأسد "خطأه التاريخي" الذي قلب الموازين والمعادلات.
ولفهم أيديولوجيته يجب الغوص في الجذور التاريخية لحزب الله: فكيف نشأ؟ ما الذي مهّد لصعوده؟ ومن هم اللاعبون الذين ساهموا في دعمه وتثبيته كقوة قائمة بحد ذاتها؟
كيف نشأ حزب الله؟
تطوّر حزب الله عبر السنوات من حركة مقاومة صغيرة ظهرت خلال الحرب الأهلية اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي، إلى قوّة سياسية وعسكرية واجتماعية رئيسية في لبنان.
فقد تأسّس حزب الله رسميًا في أوائل الثمانينيات، وتحديدًا عام 1982، كردّ فعل على الاجتياح الإسرائيلي للبنان في السنة نفسها. وخلال الاجتياح الإسرائيلي ومع ضعف الدولة اللبنانية وتفتت القوى السياسية، ظهر فراغ أمني خاصةً في الجنوب والبقاع، ما شكّل بيئة مناسبة لتشكيل الحركات المقاومة.
وشاء ترابط الأحداث أن تكون إيران بعد الثورة الإسلامية سنة 1979، قد وضعت توجهًا جديدًا لتصدير "الثورة" ودعم حركات المقاومة، خصوصًا في لبنان. فقد أرسل الحرس الثوري الإيراني عناصر الى البقاع اللبناني لتدريب المجموعات الشيعية التي تشكلت وساهم بشكل مباشر بإنشاء حزب الله(1).
وفي التفاصيل، شهدت سبعينيات القرن العشرين حركة علمائية ناشطة في الأوساط الشيعية اللبنانية، وذلك من خلال عدد من العلماء الذين قدموا من العراق أو من إيران إلى لبنان، ومن أبرز هؤلاء موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين والمرجع محمد حسين فضل الله والعلامة علي كوراني. وبدأ هؤلاء بتأسيس الجمعيات والهيئات الإسلامية ونشر الثقافة الإسلامية، وكان لتأسيس حركة "أمل" والمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى دور مهمّ في دعم النشاط الديني الإسلامي.

وفي يونيو/ حزيران 1982، كان التأسيس السري لحزب الله بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ومن دون الإعلان الرسمي عن الاسم جرى الاتفاق على بدء العمل لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي بكل الأشكال السياسية والعسكرية. وبدأت عمليات المقاومة في مختلف المناطق، إضافة الى القيام بأنشطة سياسية وشعبية من اعتصامات وإضرابات في بيروت والجنوب والبقاع.
وفي 16 فبراير/ شباط 1985، تمّ الإعلان رسميًا عن "حزب الله"ـ وذلك خلال مؤتمر صحافي في حسينية الشياح تحدث فيه الناطق الرسمي باسم الحزب وقتها إبراهيم أمين السيد، حيث أعلن فيه وثيقة الحزب السياسية باسم "الرسالة المفتوحة"، التي تضمنت أهم مبادئ الحزب(2).
من صبحي الطفيلي إلى حسن نصر الله
وانطلق حزب الله بمسار شابه الكثير من الخلافات والصدامات. وكان صبحي الطفيلي أول أمين عام للحزب، حيث تولّى قيادة الحزب في الفترة ما بين 1989 و1991.
اشتهر الطفيلي بتركيزه أثناء قيادته للحزب على تصعيد العمليات العسكرية ضد الوجود الإسرائيلي جنوب لبنان، إلا أنه طرد من الحزب على خلفية إعلانه العصيان المدني على الدولة اللبنانية احتجاجًا منه على تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشيعة في لبنان.
بعد الطفيلي كان لا بد من انتخاب امين عام جديد للحزب، فوقع الاختيار على عباس الموسوي، ولكن ولايته لم تدم أكثر من تسعة أشهر، إذ استشهد في 16 فبراير 1992، بعد استهدافه من قبل المروحيات الإسرائيلية أثناء وجوده في جنوب لبنان، حيث لقي حتفه مع زوجته أم ياسر، ونجله الصغير حسين.
بعد الموسوي عمدت قيادة الحزب إلى اختيار حسن نصر الله أمينًا عامًا ثالثًا للحزب، وهو الذي يُعتبر القائد التاريخي لحزب الله بعدما استمرّ في موقعه منذ العام 1992، وحتى اغتياله في 27 سبتمبر/ أيلول 2024، خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان.
فبدءًا من أواخر الثمانينيات، ارتقى نصر الله في الرتب العسكرية لحزب الله، وعندما أصبحت إمكاناته القيادية واضحة، سافر إلى مدينة قم في إيران لمواصلة تعليمه الديني. وعاد إلى لبنان عام 1989، ليتربّع على قيادة الحزب عام 1992 بعد اغتيال الموسوي(3).

ماذا نعرف عن أيديولوجية حزب الله؟
يُعَدّ راغب حرب من الشخصيات المعروفة التي ساهمت في رسم أيديولوجية حزب الله، على الرغم من أنّه تعرّض للاغتيال قبل عام من تأسيسه. فلماذا يعتبر شخصية مهمّة؟
لأنه كان أول من دعا علنًا إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، بعد الاجتياح سنة 1982، وقاد انتفاضة شعبية ضد الاحتلال في القرى الجنوبية.
كان رجل دين بارزًا وخطيبًا مميزًا، استخدم المساجد مراكز تعبئة دينية وسياسية. واشتهر بمقولته الشهيرة: "المصافحة اعتراف" أي أنه رفض حتى المصافحة مع الجنود الإسرائيليين.
ويعتبر راغب حرب من الشخصيات التي مهدت لولادة حزب الله، على الرغم من أنه لم يكن عضوًا رسميًا بالحزب باعتبار أنه اغتيل قبل إعلان الحزب سنة 1985. إلا أنّ فكره وخطّه الجهادي كان جزءًا أساسيًا من هوية حزب الله، فهو من نشر فكرة أن المقاومة ضد الاحتلال ليست خيارًا وطنيًا فقط، بل واجب ديني، وهذا الخطاب ساعد بتحويل المقاومة من مشروع "قومي عربي" إلى مشروع "ديني إسلامي"، وقد استخدم حزب الله هذا التصور.
علّم الناس أن مقاومة الاحتلال يجب أن تكون عملاً شعبيًا جماهيريًا، وليس فقط عملاً فصائليًا عسكريًا، وهذا النمط أيضًا تبنّاه حزب الله لاحقًا لتوسيع شبكاته الاجتماعية في القرى والبلدات. وحارب فكرة المفاوضات مع إسرائيل أو الخضوع لأمر واقع، وأصبح ذلك جزءًا من أدبيات حزب الله لاحقًا.
أما في البنية التنظيمية فقد بدأ بتنظيم شبكات سرية للمقاومة الشعبية في الجنوب، تعتمد على خلايا صغيرة ومتحركة، وهذه الطريقة تحولت إلى نموذج العمل العسكري السري لحزب الله. وكان أيضًا من أوائل من أدخلوا مفهوم "الشهادة" كقيمة مركزية في المعركة ضد الاحتلال.
"الرسالة المفتوحة"
لعلّ من أهم المراجع التي نستطيع من خلالها التعمق والتعرف أكثر على أيديولوجية حزب الله وفكره وحتى عقيدته، هي "الرسالة المفتوحة إلى المستضعفين" التي أعلنها في فبراير/ شباط 1985، وأعلن معها خارطة طريقه.
ومن أبرز النقاط التي حملتها هذه الرسالة التأكيد على الانتماء اللبناني وإسلامية الهوية، وجاء فيها: "لقد أنشأنا حزب الله استجابةً لنداء الواجب الشرعي والوطني، وللدفاع عن ديننا وشعبنا وبلدنا، في مواجهة الغزاة الصهاينة وحلفائهم".
وتكمل الرسالة لتعدد أهداف حزب الله التي أُسّس لتحقيقها والتي سيعمل على أساسها، وأبرزها:
- إزالة إسرائيل من الوجود؛
- مواجهة الهيمنة الغربية وخاصة الأميركية، التي تدعم العدو الصهيوني وتفرض مشاريعها على شعوبنا×
- تأسيس دولة إسلامية عادلة تقوم على أساس الحق والعدل.
وفي معرض الرسالة تفسير مفصّل عن الرؤيا للبنان المستقبل، حيث أوضح حزب الله أنه لا يؤمن بلبنان ككيان مستقل على الطريقة الطائفية المعروفة، بل يؤمن بلبنان جزءًا من الأمة الإسلامية الكبرى، ويعتبر أن اقامة الدولة الإسلامية في لبنان واجب شرعي، مع التشديد على احترام الطوائف الأخرى.
ويكمل الحزب في رسالته التأسيسية، أنه مع كل مستضعف في الأرض وكل مقاوم ضد كل محتل، ويشرح عن علاقته بإيران أنها تمثّل النموذج الأمثل للدولة الإسلامية العادلة، كما أنه يؤمن بقيادة الإمام الخميني ويتبع خطّه وولايته(4).
الوجه السياسي لحزب الله
لحزب الله وجهان، وجه سياسي ووجه عسكري مستقل. فقد بدأ في مهماته العسكرية بوجه إسرائيل، وما لبث أن عزز وجوده السياسي في البرلمان ومعظم المناصب في الإدارات العامة.
فقد برز حزب الله كلاعب محوري في الحياة السياسية اللبنانية منذ خوضه الانتخابات النيابية لأول مرة عام 1992. وعلى مدى سبع دورات انتخابية بين عامي 1992 و2022، نجح الحزب في حشد أصوات الطائفة الشيعية عبر تقديم خدمات اجتماعية واسعة لمناصريه. وكانت كتلته النيابية وما زالت تعرف باسم كتلة الوفاء للمقاومة.
منذ عام 2005، بدأ حزب الله بالمشاركة المباشرة في الحكومات اللبنانية، حيث شغل ما بين وزارة إلى ثلاث وزارات في كل حكومة. كما عزز من نفوذه من خلال تحالفات سياسية واسعة، شملت شخصيات وأحزابًا مسيحية. وبالتوازي، أصبح الحزب القوة الأساسية التي تقود ما عُرف بـ"تحالف 8 آذار"، في مواجهة ما عُرِف حينها بـ"قوى 14 آذار"، التي ولدت على خلفية جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.
وفي يناير/كانون الثاني 2020، شكّل رئيس الوزراء حسان دياب أول حكومة لبنانية تحظى بدعم حصري من التحالف النيابي الذي يقوده حزب الله، في مؤشر واضح على مدى تعاظم نفوذ الحزب داخل مؤسسات الدولة.
وبحلول عام 2023، بات يُنظر إلى حزب الله على نطاق واسع على أنه "دولة داخل الدولة". فهو جزء من البرلمان والحكومة اللبنانية، ولكنه في الوقت نفسه يدير شبكة مستقلة من الخدمات السياسية والعسكرية والاجتماعية، ويعمل بدرجة كبيرة من الحصانة.
ومن أهم المؤسسات المحسوبة على حزب الله، "القرض الحسن"، وهو مؤسسة مالية تأسست في لبنان في عام 1982، تتمثل مهمتها الرئيسية في تقديم قروض صغيرة بدون فوائد للأفراد والمجتمعات الفقيرة، وذلك بهدف مساعدة الفقراء وتوفير الدعم المالي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تعزز الاقتصاد المحلي.
تسلسل زمني لأهمّ الأحداث السياسية المتعلقة بحزب الله
الوجه العسكري لحزب الله
إلى جانب الحضور السياسي لحزب الله، أو ربما أمامه، وقبله، يبرز الحضور العسكري للحزب، إذ يُعَدّ حزب الله أكثر الجهات الفاعلة غير الحكومية تسليحًا في العالم، وقد وُصف بأنه ميليشيا مُدربة كجيش ومُجهزة كدولة، فماذا نعرف عن قدراته العسكرية؟
تتكون ترسانة حزب الله في معظمها من صواريخ مدفعية أرض-أرض صغيرة محمولة وغير مُوجهة. ووفقًا لاسرائيل فإنّ حزب الله كان يمتلك حوالي 15,000 صاروخ وقذيفة عشية حرب لبنان عام 2006، وأطلق منها ما يقارب الـ4,000 صاروخ على إسرائيل خلال الصراع الذي استمر 34 يومًا.
ومنذ ذلك الحين، وسّع حزب الله ترسانته الصاروخية، التي تُقدّر اليوم بـ130,000 صاروخ. وهي تضمّ صواريخ هجوم أرضي المعروفة بصواريخ أرض - أرض، صواريخ مضادة للسفن، وصواريخ مضادة للدبابات، وصواريخ مضادة للطائرات(6).
وبعيدًا عن الصواريخ، يمتلك حزب الله قدرات عسكرية متنوعة منها القوة البرية والوحدات النخبوية والمعروفة باسم وحدة الرضوان المتخصصة في العمليات الخاصة، مثل التسلل، الهجمات المباغتة، والقتال في المناطق الحضرية. وقد تأسست على يد عماد مغنية، وتُعتبر القوة الرئيسية لأي هجوم بري على إسرائيل.
وعلى صعيد القدرات المتقدمة، طور حزب الله استخدام الطائرات المسيّرة، بما في ذلك الطائرات الانتحارية والصواريخ الموجهة.

وعلى مدار سنوات، عمل حزب الله بشكل مستمر على تطوير قدراته العسكرية بهدف رئيسي واحد: مواجهة إسرائيل. ففي الفترة ما بين عامي 1989 و1991، بلغ متوسط عدد عملياته العسكرية 292 عملية. وارتفع هذا العدد في السنوات التالية ليصل إلى 465 عملية بين عامي 1992 و1994، ثم قفز إلى 936 عملية في الفترة ما بين 1995 و1997، كان منها نحو 736 عملية نفذها جناحه العسكري مباشرة.
اعتمد حزب الله في عملياته على أساليب حرب العصابات، حيث استخدم الكمائن والعبوات الناسفة والمدفعية، إلى جانب صواريخ الكاتيوشا التي أصبحت سمة مميزة له في قصف المستوطنات الإسرائيلية. وتميزت هذه العمليات بالدقة في اختيار الأهداف، وعنصر المفاجأة، فضلاً عن التخطيط المدروس لتأمين الانسحاب، وكل ذلك بدعم من جهاز استخبارات متمرس.
ومن أبرز عملياته وأكثرها نجاحًا كانت "معركة أنصارية" عام 1997، حيث تمكن مقاتلو الحزب من استدراج مروحية إسرائيلية كانت تقل 16 عنصرًا من القوات الخاصة، ليتم القضاء عليهم جميعًا في كمين محكم.
أمام هذه الضربات المتكررة، بدأت إسرائيل إعادة النظر بوجودها العسكري في لبنان. فكان أول انسحاب كبير لها عام 1985، تلته انسحابات أخرى، من أبرزها الخروج من منطقة جزين.
عام 1993، شنت إسرائيل حملة عسكرية باسم "حساب مفتوح" استهدفت البنى التحتية اللبنانية لكنها فشلت في تحقيق أهدافها، وتم التوصل إلى تفاهم غير مكتوب يقضي بوقف الهجمات المتبادلة، إلا أن هذا التفاهم لم يصمد طويلًا، وتجددت المواجهات بعد فترة وجيزة.
في 1996، أطلقت إسرائيل عملية "عناقيد الغضب"، التي دامت 16 يومًا وأسفرت عن سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، خصوصًا في مجزرة قانا. انتهت العملية باتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، لكنه لم يؤد إلى تهدئة دائمة.
وفي النهاية، دفعت هذه الضغوط مجتمعة الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ انسحاب كامل من جنوب لبنان في 25 مايو/أيار 2000، مما أدى إلى انهيار ميليشيا جيش لبنان الجنوبي (المعروف بجيش لحد) وفرار عناصرها إلى إسرائيل أو تسليم أنفسهم للجيش اللبناني.
حرب تموز 2006 وما بعدها
وبالحديث عن الوجه العسكري لحزب الله، لا بدّ من التوقف عند حرب تموز 2006، التي اندلعت بعد تنفيذ حزب الله في 12 يوليو/ تموز 2006، عملية نوعية قرب بلدة عيتا الشعب، أسفرت عن مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين وأسر اثنين آخرين – تبين لاحقًا أنهما قتلا خلال الاشتباك.
وعلى مدى 33 يومًا، أطلقت المقاومة نحو 4000 صاروخ على شمال إسرائيل، بينما خاض مقاتلو حزب الله معارك شرسة ضد القوات البرية الإسرائيلية، كبّدوا خلالها الجيش خسائر كبيرة، بما في ذلك تدمير أكثر من 70 دبابة ميركافا، ومقتل 121 جنديًا إسرائيليًا. في المقابل، بلغ عدد الضحايا اللبنانيين أكثر من 1100 شهيد، غالبيتهم من المدنيين، وتعرضت البلاد لدمار واسع.
بعد الحرب، شكّلت إسرائيل لجنة "فينوغراد" للتحقيق في إخفاقاتها العسكرية، والتي خلصت إلى أن الحرب شكلت هزيمة عسكرية واضحة بسبب فشل القيادات السياسية والعسكرية في إدارة المعركة. ومن جهته، أعلن حزب الله ما أسماه "النصر الإلهي"، واعتبر أن صموده في وجه الجيش الإسرائيلي شكّل إنجازًا استراتيجيًا. وانتهت تداعيات الحرب بصفقة تبادل أسرى في عام 2008.
ومنذ انتهاء حرب تموز في الرابع عشر من أغسطس/آب عام 2006، دخلت المواجهة بين حزب الله وإسرائيل مرحلة جديدة، لم تشهد حربًا شاملة، لكنها لم تخلُ من التوتر والاشتباكات المتقطعة التي رسمت ملامح ما يُعرف بـ"قواعد الاشتباك". ومع مرور السنوات، توالت حوادث التصعيد المحدودة بين الطرفين، لتؤكد أن الصراع لم يُغلق فصله الأخير بعد.
ففي الخامس من سبتمبر/أيلول 2014، قُتل عنصران من حزب الله جراء انفجار جهاز تجسس زرعته إسرائيل في جنوب لبنان. وبعد نحو شهر، وتحديدًا في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، رد حزب الله على العملية بتفجير عبوة ناسفة استهدفت دورية إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا المحتلة.

وفي الثامن عشر من يناير/ كانون الثاني 2015، شنت إسرائيل غارة جوية على منطقة القنيطرة في الجولان السوري، أسفرت عن مقتل ستة من عناصر حزب الله، من بينهم جهاد مغنية، نجل القائد العسكري الراحل عماد مغنية، بالإضافة إلى ضابط بارز في الحرس الثوري الإيراني. وبعد عشرة أيام، في الثامن والعشرين من الشهر نفسه، رد الحزب بعملية نوعية استهدفت دورية إسرائيلية في مزارع شبعا، أوقعت قتلى وجرحى في صفوف الجنود الإسرائيليين.
لاحقًا، وفي التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2015، نفذت إسرائيل غارة استهدفت مبنى في بلدة جرمانا السورية، أدّت إلى مقتل القيادي في حزب الله سمير القنطار. وردًا على ذلك، نفذ حزب الله في الرابع من يناير/ كانون الثاني 2016 عملية ضد آلية إسرائيلية في مزارع شبعا.
في الثالث عشر من مايو/أيار 2016، أعلن حزب الله مقتل أحد أبرز قادته العسكريين، مصطفى بدر الدين، في قصف مدفعي قرب مطار دمشق، وحمّل فصائل المعارضة السورية المسؤولية عن العملية.
وبعد فترة هدوء نسبي، عاد التوتر إلى الواجهة في الخامس والعشرين من أغسطس/آب 2019، حين سقطت طائرتان مسيّرتان إسرائيليتان في الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، ما اعتُبر تصعيدًا غير مسبوق منذ عام 2006. وردّ الحزب بعد أسبوع تقريبًا، في الأول من سبتمبر/أيلول، بعملية استهدفت آلية عسكرية إسرائيلية قرب مستوطنة أفيميم، تلتها ضربات إسرائيلية على مناطق حدودية لبنانية.
وفي السابع والعشرين من يوليو/تموز 2020، أعلن الجيش الإسرائيلي سقوط طائرة مسيّرة تابعة له داخل الأراضي اللبنانية، لترد مدفعيته بإطلاق قذائف على مناطق حدودية بذريعة وجود "نشاط أمني".
أما في الأول من فبراير/شباط 2021، فقد أعلن حزب الله إسقاط طائرة إسرائيلية مسيّرة فوق بلدة بليدا الجنوبية. ولم يمر شهر مايو/أيار 2021 من دون تصعيد، إذ أُطلقت خلاله صواريخ من جنوب لبنان باتجاه شمال إسرائيل في ثلاث مناسبات متفرقة، وردت إسرائيل بقصف مدفعي لمناطق لبنانية حدودية.
وبلغ التوتر ذروته مجددًا في الخامس من أغسطس/آب من العام ذاته، حين شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي غارات على مواقع في جنوب لبنان، وقال الجيش الإسرائيلي إن الغارات جاءت ردًا على إطلاق صواريخ من داخل الأراضي اللبنانية باتجاه مستوطنات شمالية(7).

حزب الله خلال وما بعد حرب غزة
دخل حزب الله في "حرب الإسناد" مع غزة في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي بعد يوم واحد فقط من هجوم "طوفان الأقصى" الذي شنّته حماس ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023.
في صباح 8 أكتوبر/ تشرين الاول، أعلن الجيش الإسرائيلي أن عدة قذائف صاروخية أُطلقت من جنوب لبنان باتجاه شمال إسرائيل، في حين تبنّى حزب الله لاحقًا عمليات قنص واستهداف مواقع عسكرية إسرائيلية على الحدود، مؤكدًا أن ذلك جزء من "دعم مقاومة الشعب الفلسطيني في غزة".
تكبّد حزب الله خسائر كثيرة خصوصًا بعد عملية البيجر التي نفذتها إسرائيل، وصولاً إلى اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، الذي شكّل برأي كثيرين ضربة قاتلة للحزب.
ومع انتخاب الرئيس جوزيف عون، وتعهده في خطاب القسم بحصر السلاح بيد الدولة بدأ المسار الجديد للحزب وتغيرت القواعد السياسية على ضوء استمرار الخروقات الاسرائيلية و الاستهدافات بانتظار تحديد المسار المستقبلي ومصير حزب الله في لبنان.