في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، كانت قد مرّت 20 دقيقة على اشتعال حرب مفاجئة في الشرق الأوسط. ستضع العالم خلال أيام على شفا حرب نووية.
لكن في هذه اللحظة، ارتد صدى الدقائق الأولى للحرب في قُطبي العالم؛ موسكو وواشنطن.
في الكرملين، يبدو قرار القيادة واضحًا. حيث لا يرى رئيس الاتحاد السوفييتي والأمين العام للحزب الشيوعي ليونيد بريجنيف بُدًا من عون حلفائه العرب عسكريًا وسياسيًا. رغم أنّه عرف بأمر الحرب فقط في يوم اندلاعها.
احتمالات الحرب
واعتبر بريجنيف أنّ دعم العرب جزء من مهّمة بلاده التي تتزعم الدول التقدمية والاشتراكية، في نضال شعوبها ضد الإمبريالية.
لكن الصورة الأوسع بالنسبة لبرجنيف، كانت حربًا على أوجّها مع القوة العظمى الأخرى في العالم.
أما في البيت الأبيض؛ تختلف المعادلة. فداخل غرفة العمليات، يجتمع قادة من الإدارة الأميركية لمناقشة احتمالات الحرب، والخطوات التي قد يقدمون عليها لعون حليفتهم الأهمّ في الشرق الأوسط؛ إسرائيل.
ويترأس هذا الاجتماع وزير الخارجية الجديد ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر. الذي تلقى اتصالًا في السادسة صباحًا من السفير الأميركي في تل أبيب، ينذره فيه بهجوم شبه مؤكد تنفذه سوريا ومصر.
وخلال ساعة فقط، بدأت الحرب على جبهتين.
وردد كيسنجر بانفعال: "فعلها هؤلاء العرب المجانين، متى يتخلصون من رومانسيتهم التي تدفعهم إلى تطلعاتٍ مستحيلة!".
وكان الجانب الأميركي واثقًا من قدرة القوات الإسرائيلية على هزيمة العرب في الأيام الأولى، لكنّ الأيام الأولى بالتحديد كانت عاصفة.
هجوم مصري سوري مباغت
وكان الهجوم خطة مشتركة وضعتها القيادتان المصرية برئاسة أنور السادات، والسورية برئاسة حافظ الأسد.
ففي الشمال، تقدّم السوريّون لتحرير القنيطرة وهضبة الجولان المحتلّة، بينما نفّذ المصريّون هجومًا مباغتًا لتحرير شبه جزيرة سيناء جنوبًا.
وانطلقت من القواعد الحربية في مصر 200 طائرة لقصف مواقع إسرائيلية في سيناء المحتلة. حيث كانت مراكز قيادة، ومطاران عسكريان وحصون في مرمى الطائرات في أول طلعة لها.
فيما استهدفت نيران المدفعية "خط بارليف" المنيع؛ حيث يتحصن الجنود الإسرائيليون وراء هذا الساتر الترابي. وتبعتها مئات الزوارق المطاطية، وعبرت قناة السويس نحو ضفّتها المحتلّة.
وبعد 35 دقيقة على الحرب، كان الجنود المصريّون يتسلّقون الساتر الترابي المتداعي، لغرز العلم الذي غاب عن سيناء ست سنوات.
تقدم عربي وصدمة إسرائيلية
ومنذ حرب 1967، احتلّت إسرائيل بقية فلسطين التاريخية، وتجاوزت جغرافيّتها لتسيطر على سيناء والجولان السوري. وكلاهما موقعان إستراتيجيان.
وتقع الأولى على الضفة الشرقية لقناة السويس؛ التي تُعدّ قلب التجارة العالمية. أما الثانية، فهضبةٌ خصبة ومرتفعة تُشرف على الأردن ولبنان، وتشكّل منطقة عازلة بين سوريا والاحتلال الإسرائيلي.
وعلى الجبهة السورية، وفي أول أيام الحرب، كان تقدّم القوات السورية ملحوظًا. حيث تجاوز السوريون الخنادق الإسرائيلية، وباتوا على مشارف مدينة القنيطرة المحتلة.
ولم تكن القوات الإسرائيلية على الجبهتين متأهّبة بما يكف.
واختارت مصر وسوريا تاريخًا يتزامن مع إجازة يوم الغفران اليهودي؛ أو "يوم كيبّور" كما يُسمّى بالعبرية. والذي كانت فيه شوارع تل أبيب شبه فارغة في صباح تلك الإجازة.
أما على الحدود، فقد حافظت الحصون الإسرائيلية على الحد الأدنى من القوات المقاتلة.
وقبل ساعات قليلة، وبعد وصول أنباء عن هجوم مُحتمل، اجتمعت شخصيات أمنية وسياسية في الحكومة الإسرائيلية برئاسة رئيسة الوزراء غولدا مائير.
وتساءل المجتمعون إن كان عليهم حشدُ قواتهم الاحتياطية بصورة كاملة أو جزئية، أو توجيهُ ضربة استباقية. لكنّ الجيشين العربيّين لم يمهلاهم المزيد من الوقت.
"رايتنا منصوبة على الضفة الشرقية للقناة"
وبينما يتقدّم كلاهما لتحرير الأراضي المحتلّة، تدور مناقشات في موسكو وواشنطن؛ وتنخرط فيها مستويات سياسية وعسكرية رفيعة.
وكان السوفييت أصدقاء لعدد من الأنظمة العربية، لكنّهم لم يعرفوا باندلاع الحرب سوى بعد اتصال أجراه السادات مع السفارة الروسية في القاهرة، قال فيه: "قواتنا الآن على الضفة الشرقية للقناة، ورايتنا منصوبة على الضفة الأخرى".
وربما كان قرار التحفظ على موعد الحرب التمهيد المناسب لإعادة تموضع السادات لاحقًا بين قطبي الحرب الباردة.
وحظي السادات والأسد بمساندة بريجنيف وقيادات سوفييتية أخرى منذ اللحظة الأولى. أما كيسنجر فطالب العرب بالرجوع إلى حيث تمركزوا قبل السادس من أكتوبر.
وفي ثالث أيام الحرب، حذّر كيسنجر السوفييت من الإقدام على "أي خطوة غير مسؤولة"، وذلك في رسالة أبرقها إليهم.
توتر حذر بين موسكو وواشنطن
ففي هذا التوقيت العصيب، كان آخر ما يخشاه الأميركيون هو حرب جديدة تزيد من المتاعب التي يواجهونها بالفعل.
فداخليًا، يتردّد صدى الفضيحة الأشهر في تاريخ السياسة الأميركية "ووتر غيت". أما دوليًا، فتستمرّ الولايات المتحدة في حربها على فيتنام، وتسخّر لها الكثير من جنودها وذخيرتها.
وكانت المسألتان تعصفان بالرئيس الأميركي الجمهوري ريتشارد نيكسون، الذي لم يكن يملك وقتًا أو جهدًا ليستثمره في ثالثة.
ولهذا السبب، أطلق يدَ هنري كيسنجر؛ الذي تسلّم وزارة الخارجية قبل أيام، ليترأس الرجل خلية أزمة شُكّلت خصيصًا لمتابعة الحرب، وسيصبح لاعبًا رئيسيًا تجتمع في يده مفاتيح التحرك الأميركي.
وترجم السوفييت والأميركيون موقفهما من الحرب في البحر الأبيض المتوسط على شكل تواجد حذر.
فقد كان لكلا القوّتين أسطولان بحريّان، يتمركزان على بُعد أميال من برّ المعركة، وكان حجمهما متماثلاً إلى حدّ كبير. بينما يُبحران في فلك بعضهما، ويتابعان تطوّرات الحرب.
وساد توتر حذر بينهما؛ فأيّ خطوة عدائية قد تعني اندلاع حرب عالمية. وسرعان ما رفع الطرفان عدد القطع البحرية التابعة للأسطولين تحسبًا لأيّ مواجهة محتملة.
دعم سوفييتي للعرب
ومنذ الأيام الأولى للحرب؛ هبطت المئات من الطائرات السوفيتية في سوريا ومصر ونقلت أطنانًا من الأسلحة والمعدات. تبعتها دبّابات سوفييتية ومدافع مضادة للدبابات. كما رست سفنهم بعد ذلك في موانئ الإسكندرية وطرطوس، محمّلةً بالمزيد.
وبينما كان النصر الذي يحقّقه العرب بفضل الأسلحة السوفييتية مصدر زهو وفخر في موسكو، كان ذلك أكثر ما يثير الرعب في واشنطن.
واكتفت الولايات المتحدة في البداية بمراقبة ميدان الحرب عن قُرب، دون تورط مباشر. وظهر الدّعم أولاً بآلاف الأطنان من الأسلحة، نقلتها الطائرات المدنية الإسرائيلية، بعدما أزيلت مقاعد الطائرات حتى تتسع للمزيد.
وبدا قلق الإسرائيليين متصاعدًا. فبحسب وثائق نشرتها الحكومة الإسرائيلية، عبرت رئيسة الوزراء غولدا مائير وقيادات الجيش والأمن عن خوفهم من عدم تمكّن الأميركيين من دعمهم عسكريًا.
وأرسلوا إلى الأميركيين عشرات الاحتياجات العاجلة، وواحدة تلو الأخرى، منها: طائرات فانتوم، أجهزة تشويش، مضادات صواريخ، حاملات دبابات.
واعتقد الإسرائيليون أنّ صورة الوضع لم تصل إلى كيسنجر بعد، حتى أنّ مائير اقترحت أن تزور كيسنجر بشكل سري.
وقالت مائير: "أقترح مقابلة كيسنجر. إذا سافرت سأسافر دون علم الحكومة، أصل وأدخل متخفية. في هذه اللحظة لدي شعور بأنّه سيتفهم. أنا بحاجة للحديث معه من منطلق الصداقة. لا أريد أن يظهر الأمر هيّنًا من خلال مكالمة هاتفية".
صدمة كيسنجر بخسائر إسرائيل
وعلى الجانب الآخر، توقّع كيسنجر أن يرى الجيش المصري حطامًا، وأن يتوسّل إليه العرب للتوسّط في وقف إطلاق النار.
وفي صباح التاسع من أكتوبر، أدرك كيسنجر العكس، حينما جمعه لقاء بالسفير الإسرائيلي في واشنطن سيمخاه دينيتز، والملحق العسكري في السفارة موردخاي غور، أن هذا اللقاء كان نقطة تحول في الحرب.
وبحسب محضر الاجتماع الذي طبع عليه "سرّي للغاية"، عدّد غور ودينيتز خسائرهم الفادحة: "خسرنا 49 طائرة حربية، و400 دبابة في سيناء، و100 أخرى في الجولان. بعضها خرجت عن الخدمة وهي في طريقها إلى الجبهة، إذ كانت تسير بسرعة عالية. أرسل العراق مدادات للسوريين".
وأمام هذه الاعترافات المخيفة، علت الصدمة وجه كيسنجر، وبدت واضحة في أسئلته، حيث سأل: "والآن! ما الذي يمكننا عمله؟".
فكان كلًا من غور ودينيتز مصرّين على طلبهما. وأرادا إمداداً جويًا.
ومقابل الطلب الإسرائيلي، بدا على كيسنجر التردّد من تقديم هذا العون بسرعة، على مرأى الحلفاء الذين لم يستشرهم، والخصوم الذين لا يتوقّع رد فعلهم. واستمرّ اللقاء قرابةَ 25 دقيقة.
وفي نهاية اللقاء، طلب كيسنجر التشاور مع دينيتز على انفراد، ثمّ مضت خمس دقائق أخرى قبل أن ينهيا حديثهما ويدخل الدعم الأميركي حيّز التنفيذ.
وكان المدد العسكري الأميركي خيارًا لا بُدّ منه، لتعويض ما تكبّده الإسرائيليون من خسائر. فحلّقت طائرات "سكاي هوك" من القواعد الأميركية البحرية في أوروبا نحو سماء المعركة.
وسيتكرر فيما بعد هذا المشهد ويكبر. وستمد واشنطن تل أبيب بجسر جوّي من العتاد الحربيّ منقطع النظير.
إسرائيل تعترف بالهزيمة
أما على الأرض، فقد فشل الإسرائيليون يومًا بعد آخر في مهاجمة القوّات المصرية، ودفعهم إلى ما بعد قناة السويس. وصارت سيناء جبهة دفاعية ليس إلّا.
واعترفت إسرائيل بهذا التدهور للإعلام؛ وصار أملها الآن في تغيير الأوضاع على الجبهة السورية. وهذا ما قد كان.
ففي ذلك اليوم، خرج مسؤول الإعلام العسكري أهارون ياريف أمام الكاميرات مهددًا السوريين بالتحديد، فقد كان خطابًا في غاية الغضب.
وفي اليوم التالي، خسر السوريّون كلّ ما استعادوه خلال أيام الحرب الأولى. وتحمّلوا عبئًا كبيرًا؛ إذ صارت دمشق في مرمى الهدف، لكنّ وصول القوات العراقية للدعم خفّف من حجم الخسارة.
أما في الجبهة الجنوبية، فالتقط الجيش المصري أنفاسه، وأكد أنه يحشد لوقفة تعبوية استعدادًا للجولة القادمة.
ولكن، ومن وجهة نظر السوريين، فلم يكن ذلك سوى تباطؤ عن التقدّم إلى عمق سيناء؛ ما سيدفع إسرائيل للضغط عليهم في الجبهة الشمالية.
خطأ السادات و"ثغرة الدفرسوار"
ولم يكن السوريون مخطئين تمامًا، فقد عارضت قيادات مصرية تطوير الهجوم شرقًا، فطبقًا لرؤيتهم العسكرية، اعتقدوا أن الهجوم سيضيع هدرًا، إذ ستخرج الدبابات المصرية عن نطاق الدفاع الجوي، وتصير في مرمى الطيران الإسرائيلي.
ولكن السادات كان مصرًا على الهجوم للتخفيف عن السوريين. وما أن دخل المصريّون تلك المرحلة من القتال حتى تأكد خطأ قرار السادات العسكري بتطوير الهجوم، فتكبد الجيش المصري خسارة فادحة.
وتحيّنت إسرائيل الفرصة، بل انتظرتها حتى تنفّذ اختراقًا سيقلب ميزان المعركة.
فقد كانت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية قد اكتشفت فجوة بين الجيش الثاني والثالث المصري. وما أن فشل المصريون في هجومهم، حتى اخترقت الفرق الإسرائيلية الفجوة نحو غرب قناة السويس، الفجوة التي ستُعرف بـ"ثغرة الدفرسوار".
وفي الوقت ذاته، كان الجسر الجوّي الأميركي في أوجه. ضمن عملية سُمّيت "نيكل غراس".
وتشكّل الجسر من طائرات عملاقة من طراز "غالاكسي سي5"، و"ستارليفتر"، التي قطعت آلاف الأميال جيئة وذهابًا نحو 300 مرّة خلال الحرب، ونقلت على متنها أكثر من 22 ألف طنّ من العتاد الحربي.
وفي 14 أكتوبر، استقبلت غولدا مائير الطيّارين الأميركيين في مطار اللّد المحتلّ (مطار بن غوريون)، وعانقت اثنين منهم.
مخاوف الولايات المتحدة
وطغى شعور عام في تل أبيب بأن عملية "نيكل غراس" ستفتح باب إعادة التوازن لموقفهم في المعارك.
أما في واشنطن، فلم يكن الموقف موحدًا من حجم التدخل الأميركي. إذ تحفظت وزارة الدفاع التي رأت أن إسرائيل تملك من السلاح ما يؤهلها للقتال بكفاءة.
ومن جهة أخرى، تستنزف هذه الإمدادات مستودعات الذخيرة الأميركية، اللازمة للحرب في فيتنام. ورأت أطراف أخرى داخل الإدارة الأميركية أن مشهد الدعم سيؤثر على علاقة الولايات المتحدة بحلفاء عرب.
ورفض كيسنجر هذا الموقف، ودخل في خلاف مع وزير الدفاع؛ قبل أن يحسمه الرئيس نيكسون أخيرًا بالقول: "مهما كانت التكلفة، أنقذوا إسرائيل". ثمّ هدّد لاحقًا بإقالة أيّ مسؤول في إدارته يقف بوجه المساعدات.
وحرصت الإدارة الأميركية على ألّا يبدو دعمها العسكري المتصاعد حربًا على العرب.
وفي برقية مؤرخة في 14 أكتوبر، خاطب كيسنجر الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، محاولاً امتصاص غضبه المُحتمل؛ وبدأها بالقول إنّه كصديق، وبروح العلاقة الوثيقة والحميمية بينهما، يشاركه تقديره للموقف القائم.
ثمّ أضاف: "آمل جلالَتكم أنكم ستتفهمون أنّ جسرنا الجوي لم يكن بنّية معاداة العرب، بل أصبح حتميًا بعد أن تحرك السوفييت ليستفيدوا من الموقف الحالي، بدلًا من أن يسعوا إلى تحقيق هدنة تنهي القتال".
وتابع: "كما أن قرارنا أصبح ضروريًا من أجل أن نبقى في موقع يسمح لنا باستخدام نفوذنا للتوصل إلى سلامٍ عادل".
وفي ظلّ ذلك، لم يكن كيسنجر ونيكسون ليتراجعا. حيث لن يسمحا للعرب بالانتصار على حليفتهم إسرائيل بأسلحة سوفييتية.
فمن الممكن أن يحمل نصرٌ كهذا رسالة مخيفة، قد تهدّد مكانة الأميركيين في العالم.
إسرائيل تقلب الموازين
وبحلول السادس عشر من أكتوبر، كانت القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية للقناة، تطوّق الجيش المصري الثالث. وبات المصريون في موقف حرج، ولم يعد الأميركيون يسعون إلى هدنة. وصاروا يماطلون قدر استطاعتهم، حتى تحقّق إسرائيل ما يكفي من مكاسب لتحسين شروط التفاوض.
وفي منتصف الحرب، تبدّل موقف موسكو بعدما أدرك السوفييت أنّ صورتهم ستهتزّ إن طال أمد القتال وانتهى بهزيمة حلفائهم العرب.
واستمرّت واشنطن وموسكو بتبادل البرقيات والرسائل، وحمّل كل طرف الجانب الآخر مسؤولية اشتعال القتال وتأخّر الهدنة.
وفي 16 أكتوبر، أبرق بريجنيف إلى الرئيس الأميركي نيكسون رسالة طرح فيها حلولاً لمسبّبات الصراع الرئيسية. وردّ الأخير برسالة مبهمة لا تقدم حلولاً، وهو ما أثار غضب بريجنيف وأحبطه.
وبشكل متزامن في السادس عشر من أكتوبر أيضًا، زار رئيس الوزراء السوفييتي أليكسي كوسيجن القاهرة، محاولًا إقناع السادات بإيقاف العمليات العسكرية.
لكنّ الأخير بدا مصرًا على استمرار القتال. أولاً لعدم ثقته بالتزام الإسرائيليين بالهدنة، وثانيًا، لأمله بقدرة جيشه على تحقيق المزيد من المكاسب.
وظلّ التراجع عن الأراضي المحتلّة منذ 1967 المطلب الأهمّ في القاهرة ودمشق.
وقال الرئيس المصري: "عاهدت الله وعاهدتكم على أن القضية تحرير التراب الوطني القومي، هي التكليف الأول الذي حملته ولاء لشعبنا وللأمة، عاهدت الله وعاهدتكم على أني لن أدخر جهدًا، ولن أتردد دون تضحية مهما كلفتني في سبيل أن تصل الأمة إلى وضع تكون فيه قادرة على رفع إرادتها إلى مستوى أمانيها".
العرب يهددون بورقة النفط
وصار واضحًا أمام القادة العرب أن الوقت قد حان لاستخدام ورقتهم الأقوى، التي تخشاها الولايات المتحدة وأوروبا، وهي النفط.
وفي 17 من أكتوبر، اجتمع المجلس الوزاري للدول العربية المصدّرة للنفط لاتّخاذ قرار تاريخي.
ووجّه بيانهم رسالة إلى الدول الصناعية الكبرى التي تدعم إسرائيل، رغم احتلالها الأراضي العربية وتهديد حقوق العرب المشروعة؛ وهو ما يدفعهم كعرب إلى اتخاذ قرار بعدم الاستمرار بإنتاج كميات من الثروة البترولية، تزيد عمّا تبرّره العوامل الاقتصادية في بلادهم.
وأكمل البيان: "قرر وزراء البترول العرب أن يبدأوا حالاً في خفض إنتاجهم بنسبة لا تقل عن 5 في المئة من إنتاج شهر سبتمبر/ أيلول. ثمّ تطبق نفس النسبة كلّ شهر بالتخفيض، وذلك حتى جلاء القوات الإسرائيلية جلاءً كاملاً من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ حرب يونيو/ حزيران 1967 واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني".
وسبق هذا القرار بيوم واحد، قرار آخر يقضي برفع أسعار النفط بنسبة حادة.
وفي العشرين من الشهر نفسه، صدر عن الديوان الملكي السعودي قرار بوقف تصدير النفط تمامًا إلى الولايات المتحدة الأميركية. وخلّفت هذه القرارات الصادمة أزمة اقتصادية حادّة في الولايات المتحدة.
واصطفّت سيّارات الأميركيين في طوابير طويلة عند محطّات الوقود. بينما اتخذت الدول الأوروبية قبل أيام، موقفًا حازمًا تحيد فيه عن المصالح الإسرائيلية والأميركية، خوفًا من حظر نفطي.
فقد رفضت أغلبها السماح للطائرات الأميركية باستغلال أجوائها لنقل السلاح إلى ميدان المعركة. وعندما وافقت هولندا على استخدام أحد مطاراتها لنقل الأسلحة سرًا، وسعتها دائرة الحظر النفطي.
وصارت حركة الطائرات أكثر تعقيدًا وإرهاقًا. لكنّ الدعم الأميركي لإسرائيل سيؤتي أكله سريعًا.
استمرّ السوفييت بمحاولة التواصل مع الأميركيين، وقرّروا دعوة هنري كيسنجر إلى زيارة موسكو.
رأى كيسنجر في الزيارة فرصة لإتمام اتفاق قبل أيّ اجتماع لمجلس الأمن؛ حيث يملك كلاهما حقّ النقض.
كان ذلك في العشرين من أكتوبر… قطبا العالم، موسكو وواشنطن، يدركان أهميّة الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، لكنّهما يجريان محادثات طويلة لتحديد صيغته.
وصل كيسنجر ومعه رسالة مكتوبة من نيكسون تحثّ القيادة السوفييتية على الالتزام باتفاق سلام نهائي. ورسالة أخرى شفهية، تعطي كيسنجر سلطة كاملة تحظى بدعمه كرئيس أمريكي.
السادات يقبل الهدنة
بعد يوم واحد، خاطب السادات السوفييت معبّرًا عن رغبته أخيرًا بقبول الهدنة. خصوصًا بعد كلّ ما كابده منذ اختراق ثغرة الدفرسوار.
في رسالته للسوفييت، طالب الرئيس ليونيد بريجنيف بالتدخل قائلاً: "أستطيع أن أحارب إسرائيل، لكني لا أستطيع أن أحارب أميركا".
القرار لم يكن متناغمًا مع رغبة القيادة في دمشق، لكنّ الأسد سيجد نفسه في مأزق، فبدون مصر لن يستطيع مواصلة القتال. وبذلك، ألغى هجومًا محوريًا صوب الجولان، بنى عليه أملاً بإحراز مكاسب إضافية تسبق الهدنة.
ما لم يكن معلومًا حتى ذلك الوقت، أنّ السادات أبدى للأميركيين سعيه للهدنة عبر قناة تواصل سريّة فتحها قبل كثر من سنة، عِمادها حافظ إسماعيل!
فلحافظ إسماعيل تاريخ طويل من الخدمة العسكرية والدبلوماسية. وهو عمل سفيرًا لمصر في لندن وروما وباريس. وعند وقوع الحرب كان مستشار الرئيس أنور السادات للأمن القومي.
منذ بداية الحرب، نشطت القناة السريّة؛ إذ تبادل كيسنجر وإسماعيل الرسائل.
في رسائله قال إسماعيل إنّ الهجوم بدأ نتيجة الاستفزازات الإسرائيلية، وأنّ المصريين ليسوا معنيين بتعميق الاشتباكات وتوسيع مدى المواجهة،
لم يتأخر كيسنجر في ردوده. ظلّ يؤكد أنّه سيعمل شخصيًا لوقف القتال. وأنّ شرط مصر بعودة إسرائيل إلى حدود عام 67 لن يتحقق إلا بالتفاوض.
جاء تأسيس هذه القناة بعد أشهر من خطوة صادمة اتخذها السادات ضدّ السوفييت.
في صيف عام 1972، طرد السادات عشرين ألف خبير عسكري سوفييتي من مصر، وقال لاحقًا عن هذه الحادثة: "لم يكن من الطبيعي أن أدخل الحرب وعلى أرضي خبراء عسكريون سوفييت، كما أنني أسقطت حجة إسرائيل التي كانت تضلل بها وهي أنها ستواجه الحرب مع السوفييت لا مع المصريين".
اتفاقية سلام
ظلّت العلاقة شبه مستقرة مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب وبعدها، لكنّها ستتبدّل خلال السنوات التي تليها.. وفي الثاني والعشرين من أكتوبر صدر القرار أخيرًا عن مجلس الأمن بالإجماع: على جميع الأطراف وقف إطلاق النار بصورة كاملة، يليه مفاوضات بهدف إقامة سلام عادل وآمن، وعلى جميع الأطراف تنفيذ قرار سابق لمجلس الأمن، بالانسحاب من الأراضي المحتلّة.
الوضع على أرض المعركة لم يكن حاسما بأي اتجاه، فالمصريون والإسرائيليون يحاصر كل منها الآخر في محاور مختلفة
وفي اليومين التاليين لقرار وقف إطلاق النار، انتهكت إسرائيل القرار أكثر من مرّة، ما أثار حنق السوفييت والمصريين تجاه الأميركيين، الذين لم يجبروا إسرائيل على الالتزام بالهدنة.
حتى أن الرئيس بريجينيف، في رسالة عنيفة للأميركيين، دعا إلى إرسال قوة أميركية سوفييتية إلى مصر لتطبيق قرارات مجلس الأمن ثم هدّد:" سأقولها دون مواربة، إن اعتقدتم باستحالة اتّخاذ إجراءات مشتركة في هذه المسألة، فإننا سننظر بشكل عاجل في اتخاذ الخطوات المناسبة من جانب واحد؛ إذ لا نستطيع السماح بالطغيان من جانب إسرائيل".
ورأى مجلس الأمن القومي الأميركي في الرسالة إنذارًا بتدخّل سوفييتي مباشر في الحرب وتوسيعًا لرقعتها.
استمرّت المفاوضات السياسية بين مصر وإسرائيل طويلا، وخلال سنوات التفاوض، وحتى أواخر السبعينات كان نظام السادات ينزاح تدريجيًا من المحور السوفييتي إلى الغربيّ.
بعد خمس سنوات تقريبًا انتهى الأمر إلى اتفاقية سلام. ولم تعد شبه جزيرة سيناء إلى المصريين، إلا بعد اعتراف السادات بإسرائيل وسيادتها.
أمّا السوريون فبقوا على اصطفافهم مع السوفييت، واكتفوا من الحرب بالأراضي التي انتزعوها عنوة من الإسرائيليين من ضمنها مدينة القنيطرة، أمّا هضبة الجولان فبقي أغلبها محتلاً إلى اليوم.
وافترقت خيارات حليفي الحرب – مصر وسوريا – وتشكلت تحالفات إستراتيجية ستغير وجه المنطقة لعقود مقبلة.
وانحصر نفوذ موسكو في تلك المنطقة المحورية من العالم تدريجيا لصالح واشنطن التي لم تضع الفرصة في ترسيخ أقدامها ورسم واقع جديد يمهد لعالم ما بعد الحرب الباردة.