الثلاثاء 23 أبريل / أبريل 2024

لجنة "الترنسفير" والتهجير.. وثيقة تثبت زيف سردية الصهاينة بشأن النكبة

تتقاطع الوثيقة حول لجنة "الترنسفير" والتهجير مع يوميات يوسف فايتس، الرجل الذي يبرز اسمه في المراحل الأكثر قتامةً من تلك السنوات
تتقاطع الوثيقة حول لجنة "الترنسفير" والتهجير مع يوميات يوسف فايتس، الرجل الذي يبرز اسمه في المراحل الأكثر قتامةً من تلك السنوات
لجنة "الترنسفير" والتهجير.. وثيقة تثبت زيف سردية الصهاينة بشأن النكبة
لجنة "الترنسفير" والتهجير.. وثيقة تثبت زيف سردية الصهاينة بشأن النكبة
السبت 3 يونيو 2023

شارك

تُعد "لجنة الترنسفير" السرية أو الترحيل، وهو الوصف الأقل فظاعة، دليلًا آخر على عملية التطهير العرقي بحق أكثر من 800 ألف عربي إبان النكبة في فلسطين.

قال ساسة إسرائيل: إن تلك أضرار جانبية تحدث في كل حرب، واصفين ما حدث على أنه "موجة هروب جماعي لا أكثر".

لكن وثيقة سرية للمخابرات الإسرائيلية كُتبت عام 1948 تشرح الأساليب التي اتبعها الصهاينة لتهجير القرى العربية؛ فيُقرأ فيها عن عمليات الهمس ونشر التيفوئيد، والمجازر المنظمة والقتل العشوائي.

وتتقاطع هذه الوثيقة مع يوميات مهندس لجنة الترنسفير السرية يوسف فايتس، الرجل الذي يبرز اسمه في المراحل الأكثر قتامةً من تلك السنوات.

وثيقة تحمل إسرائيل المسؤولية عن التهجير

كانت فكرة التهجير أو الترنسفير من أبرز أفكار الحركة الصهيونية، وهي تصوّرات موجودة في كتابات هرتزل، رغم أنها لم تخرج إلى العلن في غالب الأحيان.

وتعود النقاشات الصهيونية الأولى البارزة في هذا المجال إلى الفترة التي طرحت فيها بريطانيا فكرة تقسيم فلسطين وتبادل السكان.

وقد عنون جهاز المخابرات التابع للجيش الإسرائيلي الوثيقة التي تتألف من 24 صفحة، وكانت أُنجزت في نهاية شهر يونيو/ حزيران من عام 1948، بعنوان عريض: "حركة هجرة عرب أرض إسرائيل".

وتنبع قيمة تلك الأوراق من كونها وثيقة صهيونية صادرة عن مؤسسة رسمية في "الدولة"، وتتناقض بشكل كامل مع الرواية الرسمية الصادرة عن حرب النكبة.

كانت فكرة التهجير أو الترنسفير من أبرز أفكار الحركة الصهيونية
كانت فكرة التهجير أو الترنسفير من أبرز أفكار الحركة الصهيونية

فالوثيقة تنفي في مطلعها أي أسباب اقتصادية للهجرة. كما تقول إنها لم تأت فقط نتيجة عوامل سياسية صرفة. 

وتشير إلى أن 70% من الهجرة العربية كانت نتيجة العمليات العسكرية اليهودية التي نفذتها الهاغاناه وعصابات الصهاينة، فيما لعبت أساليب الحرب النفسية دورًا كبيرًا كعمليات الهمس وذهان الإخلاء وشائعات انتشار التيفوئيد، وكذلك استخدام المتفجرات ذات الأصوات العالية.

ويلفت الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات محمود محارب، إلى أن تلك الوثيقة صاغها مسؤول كبير في الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي بطلب من مسؤول كبير في الحكومة الإسرائيلية، إذ أرادوا أن يعرفوا بدقة ما هي الأسباب التي أدّت إلى تهجير الفلسطينيين.

ويقول إنها ظلت سرية لفترة طويلة، وإن النقاب كُشف عنها للمرة الأولى عندما استعملها بيني موريس عام 1986.

تشرح وثيقة سرية للمخابرات الإسرائيلية كُتبت عام 1948، الأساليب التي اتبعها الصهاينة لتهجير القرى العربية؛ فيُقرأ فيها عن عمليات الهمس ونشر التيفوئيد، والمجازر المنظمة والقتل العشوائي

وبحسب محارب، ما إن علم المسؤولون في الأرشيفات الإسرائيلية بهذا الأمر، حتى أعادوا إغلاق تلك الوثيقة فورًا، وكذلك جميع الملفات الإسرائيلية التي تتعلق بطرد الفلسطينيين وارتكاب المجازر بحقهم.

ويشير إلى أنه قام بقراءة تلك الوثيقة بشكل دقيق عندما قامت مؤسسة إسرائيلية تُدعى "عكيفوت" بالعثور عليها ونشرها عام 2019.

ويلفت إلى أن أهمية الوثيقة تنبع من كونها تحمّل المسؤولية في طرد الشعب الفلسطيني للمنظمات العسكرية الصهيونية وللجيش الإسرائيلي وفق خطة مسبقة.

ويذكر أنها تقدم أدق التفاصيل عن كيف قامت المنظمات العسكرية والجيش الإسرائيلي ومسؤولو الحرب النفسية في إسرائيل بالعمل على طرد الفلسطينيين.

كما يوضح أنها تحمّل في البندين الأول والثاني الهاغاناه مسؤولية القيام باحتلال القرى والمدن والبلدات وطرد الفلسطينيين منها، وتبيّن أن الاحتلال الذي قامت به الهاغاناه بغرض طرد سكان البلدات أثر أيضًا على القرى المجاورة، ما أدى إلى تهجير 55% من المواطنين.

يوسف فايتس الأرب الروحي للجنة الترنسفير

في كتاب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، يتكرر كثيرًا اسم يوسف فايتس، الذي يُعد الأب الروحي للجنة الترنسفير أو التهجير السرية، وصاحب التأثير الأكبر في هذا التوجه.

ولا يكاد كتاب أو بحث يتحدث عن تهجير العرب في النكبة إلا ولفايتس ذكر أو نصيب فيه؛ فهو متطرف دون خجل وينم نشاطه المحموم عن نظرة استعمارية مبكرة تبلورت خلال عمله كمدير قسم الأراضي في الصندوق القومي لليهود والمسؤول عن شراء الأراضي آنذاك.

ولقد فعل فايتس كل ما يمكن للاستحواذ على ممتلكات العرب خلال الثلاثينيات بالسلب تارة وبالحيازة والتهجير تارة أخرى.

كان يوسف فايتس متطرفًا دون خجل وينم نشاطه المحموم عن نظرة استعمارية مبكرة
كان يوسف فايتس متطرفًا دون خجل وينم نشاطه المحموم عن نظرة استعمارية مبكرة

وفيما كان الفلسطينيون يعملون في الأراضي الزراعية بغض النظر عن مالكها، إذ يبقى الفلاحون فيها بغض النظر عن المالك الجديد، أنشأ فايتس مبدأ جديدًا مفاده: "أرض بور خير من أرض يعمل فيها العرب".

ومن أجل ذلك، هندس ما عُرف لاحقًا بـ"لجنة الترنسفير"، وقام بالتنسيق مع قيادات عسكرية وأمنية ومالية، ووضع خططًا تفصيلية للسيطرة على قرى بأكملها قبل حصول التقسيم الفعلي وخروج بريطانيا.

وبعدما ظلت لجنته غير رسمية تعمل في الظل وبأوامر شفهية من القادة السياسيين والعسكريين حتى أنهت أعمالها المشبوهة، تمت قوننتها وأُلحقت بوزارة الخارجية بعد ما يُسمى بـ"إعلان دولة إسرائيل".

وصارت مهمة اللجنة كالتالي: وضع إستراتيجيات تمنع عودة العرب إلى قراهم التي خرجوا منها. ولم يخيّب فايتس في تلك المهمة أيضًا آمال رؤسائه. 

بن غوريون يطلب تلفيق أبحاث ودراسات

ويوضح الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات محمود محارب، أن أول رئيس للوزراء في إسرائيل دافيد بن غوريون كان قائد الحركة الصهيونية ومهندس ومنفذ طرد الفلسطينيين في عام 1948، عبر أوامره التي أصدرها لجميع القوات العسكرية.

لكنه يلفت إلى أن بن غوريون، الذي لم يكن يريد تحمّل مسؤولية طرد العرب الفلسطينيين، ذهب عام 1961 إلى "معهد شيلواح" الذي يعمل فيه خريجو المخابرات العسكرية بالتعاون مع الأكاديمية الإسرائيلية.

ووفق ما يقول، طلب بن غوريون من المعهد تلفيق دراسات وكتب وأبحاث تثبت أن "القيادات العربية في فلسطين وخارجها شجعت على الهجرة، وأن الجيوش العربية والمقاتلين العرب ساعدوا الفلسطينيين على الهجرة، وأن الجيش البريطاني ساعدهم أيضًا على الهجرة، وأن المؤسسات الصهيونية بذلت جهدًا لمنع ذلك".

لا يكاد كتاب أو بحث يتحدث عن تهجير العرب في النكبة إلا ولفايتس ذكر أو نصيب فيه؛ فهو متطرف دون خجل وينم نشاطه المحموم عن نظرة استعمارية مبكرة تبلورت خلال عمله كمدير قسم الأراضي في الصندوق القومي لليهود والمسؤول عن شراء الأراضي آنذاك

ويعزو محارب هذا الطلب إلى الضغوط الأميركية التي مارسها الرئيس الأميركي جون كينيدي في بداية الستينيات على إسرائيل لإعادة جزء من اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

وبشأن يوسف فايتس، يوضح محارب أنه كان من أكثر القادة الصهيونيين نشاطًا في تهجير أو في السعي إلى تهجير الفلسطينيين، حيث ركز كل حياته من أجل تحقيق هذه الغاية.

ويتطرق إلى الإجماع الصهيوني الذي تشكل خلال ثورة 1936- 1939 بين جميع المؤسسات والأحزاب الصهيونية بضرورة تهجير الفلسطينيين، وتشكيل الوكالة اليهودية لجنة ترنسفير ذهبت إلى سوريا والعراق من أجل إيجاد أماكن ليهجّرون إليها، ثم أعيدت صياغتها وتم السعي إلى تهجيرهم بالاتفاق مع دول عظمى وأيضًا مع بعض القيادات العربية.

ثم يتوقف عند لجنة الترنسفير في عام 1948، والتي يوضح أن فايتس بذل كل جهده لتأسيسها.

ويشير إلى أن فايتس جاء حينها إلى القيادة الصهيونية الرسمية وقال لها إن تهجيرًا حدث وإن عليها تشكيل لجنة ترنسفير تحافظ على التهجير نفسه أي عدم عودة الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم إلى ديارهم.

وبحسب محارب، شرح فايتس أن الأمر لا يتم فقط عبر إصدار الأوامر للجيش الإسرائيلي بمنع الفلسطينيين من العودة، بل أيضًا بالعمل فورًا على توطين اليهود المهاجرين في البيوت العربية بالمدن التي تم تهجير الفلسطينيين منها.

فايتس مصدر إحراج لبن غوريون

في الواقع، لقد كان يوسف فايتس رجلًا مؤثرًا في المؤسسة الصهيونية بأساليبه المبتكرة لطرد العرب.

ولكنه كان أيضًا مصدر إحراج لبن غوريون، الذي ماطل طويلًا قبل الاعتراف بلجنة الترنسفير وتقنينها، دون أن يعترض نشاطها السري أو يقوم بإيقافها.

ولقد كتب ذلك يوسف فايتس في يومياته بشكل واضح، حيث يقول: "لا شيء مكتوبًا، ولا شيء يمكن تتبعه مباشرة إلى بن غوريون أو إلى مجلس الوزراء".

فبن غوريون مارس رقابة ذاتية صارمة على يومياته لحظة كتابتها، وحذف كل ما يمكن أن يشير إلى حدوث عمليات تهجير منظم أو ما يدل على تورطه في أي من تلك العمليات أصلًا.

مارس بن غوريون رقابة ذاتية صارمة على يومياته لحظة كتابتها
مارس بن غوريون رقابة ذاتية صارمة على يومياته لحظة كتابتها

لكن مقاطعة يوميات فايتس الثرثار وبن غوريون المتحفظ، توصل إلى الاستنتاج بأن الأخير كان على علم بنشاطات لجنة فايتس السرية وبالتفصيل.

وفي هذا الصدد، يرد حوار دار بين رئيس الوزراء بن غوريون وقائد العملية العسكرية لتهجير أهالي اللد والرملة إسحاق رابين ظهر في مذكرات هذا الأخير.

والحوار جاء فيه: "بينما كان القتال مستمرًا كان علينا أن نتعامل مع مشكلة مزعجة، لم نتمكن من الاستفادة من أي تجربة سابقة لحلها، مصير السكان المدنيين في اللد والرملة، والذين يبلغ عددهم حوالي 50 ألف، حتى بن غوريون لم يستطع تقديم أي حل. وخلال المناقشات في مقر العمليات ظل صامتًا، كما كانت عادته في مثل هذه المواقف. مشينا إلى الخارج ورافقنا بن غوريون وكرر إيغال آلون سؤاله ما العمل مع السكان، فلوح بن غوريون بيده في إيماءة تقول أخرجوهم".

وهذا المقطع أُزيل من قبل الرقابة العسكرية الإسرائيلية ثم سُرب لاحقًا إلى صحيفة "نيويورك تايمز".

فقد حرصت المؤسسة الإسرائيلية على تقديم سردية صهيونية رسمية للنكبة تصورها على أنها هروب جماعي، وقامت بجمع وثائق كثيرة تقدم قراءة معكوسة لوقائع الحرب، وضعتها تحت اسم واحد: "ملف الهروب عام 1948".

وكان بن غوريون كرر مرارًا عشية النكبة أن كل ما تحتاجه إسرائيل لطرد العرب كان أمرين فقط: القوة والفرصة.

وقد سنحت فرصة واسعة عشية الانسحاب البريطاني غير الآسف من فلسطين، وما رافقه من تخبط عربي وإقليمي.

أما وسائل القوة، فلم تألُ الصهيونية جهدًا في العثور عليها. وكان لها في العصابات المسلحة خير أداة لتنفيذ عمليات التطهير العرقي، الذي جرى ضمن خطط مرسومة، كما تقول هذه الوثيقة.

ويشير الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات محمود محارب، إلى أنه "لم يكن بالإمكان إخفاء جريمة بهذا الحجم: طرد 800 ألف فلسطيني من وطنهم وتدمير قراهم وإسكان مستوطنين جاؤوا من وراء البحار في بيوتهم، لفترة طويلة".

ويؤكد أن الأرشيفات الإسرائيلية تعجّ بالوثائق التي تدين الحكومة الإسرائيلية وتؤكد أن طرد الفلسطينيين كان سياسة ممنهجة ومنظمة اتخذتها الحكومة الإسرائيلية من أجل إقامة دولة يهودية.


المزيد عن لجنة "الترنسفير" والتهجير في الحلقة المرفقة من السلسلة الوثائقية "أرشيف النكبة"، التي تبحث في جزئها الثالث مع الزميل زاهر عمرين.

المصادر:
العربي

شارك

Close