الإثنين 22 أبريل / أبريل 2024

مجزرة باريس 1961 في حق الجزائريين.. يوم تحول نهر السين إلى الأحمر القاني

مجزرة باريس 1961 في حق الجزائريين.. يوم تحول نهر السين إلى الأحمر القاني

Changed

لحظة الإفراج عن الدفعة الأولى من الجزائريين من السجون الفرنسية بعد يومين من أحداث 17 أكتوبر (غيتي)
لحظة الإفراج عن الدفعة الأولى من الجزائريين من السجون الفرنسية بعد يومين من أحداث 17 أكتوبر (غيتي)
تكتّمت السلطات الفرنسية على العدد الحقيقي لضحايا المجزرة، حيث اعترفت بمقتل 3 فقط وجرح 60 آخرين، فيما تراوحت ترجيحات المؤرخين بين 50 إلى 200 قتيل.

عند جسر سان ميشيل في باريس، تنتصب لوحة حجرية بنقش بسيط تمثّل واحدة من أكبر المذابح بشاعة في تاريخ أوروبا الغربية المعاصر. مذبحة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961، التي نفّذتها القوات الفرنسية في حقّ 30 ألف متظاهر جزائري سلمي بما يُعرف بمذبحة "نهر السين".

يومها، لبّى الجزائريون الذين يعيشون في ضواحي نانتير وأوبرفيلييه، رجالًا ونساء وأطفالًا، دعوة "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية، وتوجّهوا إلى الشانزليزيه والشوارع الجذابة الكبيرة في العاصمة للتظاهر ضد خطر التجوّل الصارم الذي فرضته السلطات الفرنسية عليهم وعلى المسلمين من تاريخ 5 أكتوبر من العام نفسه، تحت ذريعة منع جمع التبرعات لصالح "جبهة التحرير".

وكان الجزائريون في فرنسا معتادين على اعتقالات الشرطة، والمضايقات التي تمنعهم في بعض الأحيان من العمل. وكانوا أيضًا هدفًا لهجمات عنصرية أرادت إبقاء الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي.

معسكرات اعتقال 

في ذلك العام، كانت الجزائر تخوض عامها السابع وما قبل الأخير من كفاحها من أجل الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي. وكان مدير شرطة باريس آنذاك موريس بابون الذي يُعرف عنه أنه تعاون مع النازية.

قبل التظاهرة، شنّ بابون حملة مداهمات للأحياء الجزائرية، واعتقلت الشرطة حوالي 5 آلاف جزائري واحتجزتهم في مستشفى كان يستخدم في السابق مركزًا للاعتقال.

عارض العديد من الباريسيين إجراءات الشرطة الفرنسية، واعتبروا أنه "جرى افتتاح معسكر اعتقال عنصري في باريس". كما كتبت إحدى الصحف الفرنسية آنذاك: "لا يُمكن أن تبقى صامتًا، عندما يقوم رجال الشرطة في باريس بإحياء أساليب الغستابو (أي الشرطة النازية السرية في زمن أدولف هيتلر)".

وحشية مقابل السلمية

في ليل 17 اكتوبر، كان بابون جاهزًا بقوة هائلة قوامها 7 آلاف شرطي و1400 من شرطة مكافحة الشغب. قطع وسائل النقل العام إلى المدينة، ومع ذلك تمكّن ما بين ثلاثين إلى أربعين ألف شخص، بينهم مغاربة وتونسيون وإسبانيون وإيطاليون وعديد من المهاجرين من رافضي سياسات التمييز والتفرقة العنصرية، من الوصول إلى المدينة للمشاركة في التظاهرة، وتمّ إلقاء القبض على 11 ألفًا منهم.

ورغم أن المسيرة كانت سلمية، استقبلتهم قوات الأمن الجزائرية بالرصاص الحي، وألقت جثثهم في نهر السين.

في مذكراتها "قوة الظروف"، كتبت الفيلسوفة النسوية سيمون دي بوفوار: "انتظرت الشرطة خروج الجزائريين من محطات المترو، وجعلتهم يقفون بلا حراك وأيديهم فوق رؤوسهم، ثم ضربوهم بالهراوات".

لكن بابون والشرطة لم يتوقّفوا عند هذا الحد. وكثرت أخبار عن عمليات تعذيب، حيث تمّ إلقاء القبض على أشخاص بناءً على مظهرهم، واعتقلوا لمجرد كونهم جزائريين. وأُلقي بهم وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم في نهر السين الذي تحوّل لونه إلى الأحمر القاني. فيما اختفى آخرون، ولم تُعرف أماكن احتجازهم أو مكان دفنهم.

وأفادت دي بوفوار: "تمّ العثور على جثث معلقة في غابة بولونيا، وجثث أخرى مشوهة في نهر السين. تم اقتياد عشرة آلاف جزائري إلى ملعب فيل دي هيف، مثل اليهود في درانسي مرة من قبل".

انتشرت الشرطة الفرنسية في تلك الليلة في شوارع العاصمة ونفذت عمليات اعتقال واسعة بحق الجزائريين (غيتي)
انتشرت الشرطة الفرنسية في تلك الليلة في شوارع العاصمة ونفذت عمليات اعتقال واسعة بحق الجزائريين (غيتي)

"حرب ضدّ العدو"

وعام 1998، قدّم ضابط الشرطة راؤول ليتارد رواية مروعة عن أحداث الليلة لمعهد دراسات الدفاع الوطني الفرنسي. وروى كيف عبرت وحدته، في ذلك اليوم، جسر بونت دي نويي إلى ضواحي كولومبس، حيث انخرطوا منذ حوالي الساعة 11 مساءً في عملية بحث قاتلة استمرت ساعتين.

وأضاف: "كان الرجال يصطادون ويطلقون النار على أي شيء يتحرك. ولم يغادروا إلا عندما لم يتبق أحد لإطلاق النار عليه. كنا نخوض حربًا، ضدّ عدونا المتمثل بالجزائريين".

تعتيم على عدد القتلى

لعقود خلت، حاولت السلطات الفرنسية التعتيم على أحداث 17 أكتوبر 1961. وأشارت التقارير الرسمية إلى مقتل ثلاثة أشخاص فقط. ولاحقًا، وصل الرقم إلى 48 على الأقل.

لكن عام 1991، قدّم المؤرخ جان لوك إينودي حصيلة أثقل للقتلى. وقال في كتابه "معركة باريس 17 أكتوبر 1961": إن عدد القتلى هو 200 قتيل، بعد أن أحصى العدد من أرشيف "جبهة التحرير الوطني" وشهادات أخرى.

وأضاف أنه من الفترة الممتدة من سبتمبر/ أيلول إلى أكتوبر 1961، بلغ عدد القتلى الجزائريين 325 قتيلًا.

ووفقًا للإحصائيات الجزائرية، فقد تجاوز عدد ضحايا عنف الشرطة الـ300 شخص.

وقدّم أشخاص نجوا من الموت خلال ذلك اليوم، شهادات عن وحشية لا مثيل لها تعرّضوا لها، وتحدّثوا عن عشرات الجثث التي طفت فوق مياه نهر السين، وجرفهم التيار إلى غابة لا مونيش.

"تضليل تاريخي"

ولم تعترف فرنسا بهذه الجريمة، كما لم يوجّه القضاء الفرنسي أي إدانة لموريس بابون حول مسؤوليته المباشرة في مقتل مئات الجزائريين خلال أحداث 17 أكتوبر 1961.

وحول هذا، قال إينودي في كتابه "مشاهد حرب الجزائر في فرنسا": إن مسؤولي هذه المجازر لم يتخلّوا عن مناصبهم في الإدارة الفرنسية سنوات طويلة بعد استقلال الجزائر.

بدوره، تحدّث المؤرخ الفرنسي جيل مونسورون، في حوار مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، عن "تضليل تاريخي متعمد من أجل طمس ذاكرة أحداث 17 أكتوبر، ومحاولة ترسيخ أحداث أخرى في الذاكرة الجماعية، وحتى لدى العائلات الجزائرية".

وفي تصريحات خجولة لا ترقى للاعتراف الرسمي بالمجزرة، تحدث الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، عندما كان مرشحًا للرئاسة عام 2011، عن هذه الجريمة. ثم اعترف لاحقًا أن "في 17 أكتوبر 1961، قُتل خلال أعمال قمع دامية جزائريون كانوا يتظاهرون من أجل الحق في الاستقلال. الجمهورية تعترف عن وعي بهذه الوقائع. بعد 51 عامًا على هذه المأساة، أكرم ذكرى الضحايا".

وفي 17 أكتوبر 2018، تطرّق الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون إلى هذه المجزرة لكن من دون أن يعتذر. وكتب في تغريدة: "17 أكتوبر 1961، كان يوم القمع العنيف للمتظاهرين الجزائريين. يجب أن تواجه الجمهورية هذا الماضي القريب الذي لا يزال ساخنًا. هذا هو شرط لبناء مستقبل سلمي مع الجزائر ومع مواطنينا من أصل جزائري".

اعتقلت الشرطة الفرنسية عددًا من الجزائريين ووضعتهم في مراكز احتجاز في العاصمة باريس (غيتي)
اعتقلت الشرطة الفرنسية عددًا من الجزائريين ووضعتهم في مراكز احتجاز في العاصمة باريس (غيتي)
المصادر:
العربي، ترجمات

شارك القصة

تابع القراءة
Close