Skip to main content

محطات أساسية في قصة الثورة السورية.. من البدايات حتى هروب بشار الأسد

الجمعة 3 يناير 2025
قصة الثورة السورية زاخرة بالمحطات والتحديات التي لم تدفع إلى اليأس طيلة 13 عامًا - غيتي

انتصرت الثورة السورية أخيرًا، بعد تحوّلات كثيرة شهدتها على مدى 13 عامًا، قبل بلوغ الموعد الكبير، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، حين سقط النظام، وهرب الرئيس المخلوع بشار الأسد تاركًا سجلاً حافلاً بالإجرام في حق سوريا وشعبها.

فقد خضعت سوريا لحكم استبدادي مديد، بدأ باستيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي وعسكره على السلطة سنة 1963 بانقلاب عسكري، وتكرّس بصورة أشدّ قمعًا وسلطوية مع انفراد حافظ الأسد بالسلطة عام 1970، وتأسيسه حكمًا عائليًا وراثيًا، جعل ابنه بشار يرث السلطة بعد وفاة الأب عام 2000.

ناضل السوريون والسوريات عقودًا في مواجهة الديكتاتورية الأسدية، وأتت ذروة النضال في سياق الربيع العربي، فانطلقت الثورة السورية أواسط مارس/آذار 2011، مطالبةً بالحرية والتغيير السياسي. لكنّ النظام انتهج القمع الوحشي ضدّ المظاهرات السلمية، فأدخل البلاد في صراعٍ دامٍ، تأجّج بتداخل عوامل خارجية. 

فماذا نعرف عن قصة الثورة السورية، ومحطاتها، والتحديات الأساسية التي واجهتها، على مرّ السنوات؟

ناضل السوريون والسوريات عقودًا في مواجهة الديكتاتورية الأسدية - رويترز

الثورة السورية في طورها السلمي

بعد انطلاق الثورات في تونس ومصر وليبيا، اعتصم نشطاء معارضون أمام سفاراتها في دمشق تضامنًا مع الشعوب الثائرة. وفي أواخر يناير/كانون الثاني 2011، دعا ناشطون إلى اعتصام يوم 5 فبراير/شباط، لكن الدعوة لم تلق استجابة. وفي 17 من الشهر نفسه، أهين شاب على يد شرطي في حي الحريقة التجاري، فهبّ المارّة لنصرته، وحصل تجمهر شعبي عفوي، وسط هتاف: "حاميها حراميها، الشعب السوري ما بينذل"، واحتوى وزير الداخلية الموضوع مباشرةً، بالتدخّل لصالح الشاب ومعاقبة الشرطي[1].

في الشهر التالي، دعا ناشطون، عبر الإنترنت الشعبَ السوري وشبابه خصوصًا للتظاهر في 15 مارس/آذار تحت شعار "يوم الغضب"، للمطالبة بالحقوق والحريات الديمقراطية، فخرجت في سوق الحميدية الشهير مظاهرة محدودة هتفت "حرية، حرية. الله سوريا حرية وبس". وفي اليوم التالي، اعتصم نشطاء سياسيون وحقوقيون وأهالي معتقلين أمام وزارة الداخلية، ففرّقتهم القوى الأمنية بالقوة واعتقلت بعضهم.

إلا أنّ البداية الفعليّة للمظاهرات الشعبية كانت في مدينة درعا جنوب البلاد، بعد اعتقال الأمن السياسي أطفالاً وفتيانًا قاصرين، بتهمة كتابة شعارات تحريضيّة على جدران المدارس، وتعرُّضِ أهاليهم وبعض الوجهاء للإهانة من مسؤول الأمن السياسي، عند محاولتهم "التدخّل" للإفراج عن أبنائهم.

خرجت دعوات للتظاهر يوم الجمعة 18 مارس/آذار باسم "جمعة الكرامة"، وعُرفت محليًا "جمعة الفزعة"، و"الفزعة" تعبير محلي عن شكل من التضامن العشائري. قصد المتظاهرون الجامع العمري، وتحوّلت المظاهرة إلى انتفاضة، وسقط قتلى وجرحى برصاص الأمن، ووصل وفد رسمي رفيع للتفاهم مع الأهالي على بعض المطالب.

لم يستمر الهدوء الذي حقّقه التفاهم، إذ عاد مسلحون ملثّمون لإطلاق النار على المتظاهرين. اتّهمت الرواية الرسميّة بعض "المندسّين" بين المتظاهرين بـ"إحداث الفوضى والشغب وإلحاق الضرر بالممتلكات العامة والخاصة"، ووصفت "المندسّين" بأنهم طرف ثالث مسلّح[2].

تحوّل تشييع الشهداء إلى تظاهرة كبيرة اصطدمت مع قوات الأمن، وخرجت الأمور عن السيطرة في درعا، فاقتحم محتجون بعض المقرات الحكومية، وأسقطوا تمثالًا لحافظ الأسد. حاصر النظام المدينة، وزجّ بقوات من الجيش لإخضاعها بالقوة. لكنّ السوريين كسروا قيود الخوف، فخرجت مظاهرات في معظم المناطق والمدن السورية، للتضامن مع درعا والمطالبة بالإصلاحات السياسية، قبل أن يؤدي عنف النظام المفرط إلى رفع سقف الشعارات، لتطالب بإسقاط النظام.

اتّخذت تظاهرات أيام الجمعة تسميات تحدّد غاية الاحتجاج وأهدافه، وتعدّى الحراك الثوري المظاهرات والاعتصامات إلى التعبير بوسائل إبداعية (الفن التشكيلي والموسيقى والغناء والدراما وغيرها). ابتُكِرت أساليب في التنظيم والتغطية الإعلاميّة، فظهرت تنسيقيات الثورة في المدن والأحياء، ونمت ظاهرة "المواطن الصحفي" بإمكانات بسيطة، فكانت وسائل إبداعية ميّزت الثورة في طورها السلمي.

عتّمت وسائل إعلام النظام على الاحتجاجات كليًا، وكرّرت الرواية الرسمية التي تصف ما يجري منذ اليوم الأول بأنه "مؤامرة" تهدف إلى إثارة "فتنة طائفية". في المقابل نقلت بعض الصفحات على موقع التواصل الاجتماعي أخبار الثورة، وعمل يعضها على تسمية أيام التظاهر، وتوجيه الرأي العام المعارض نحو شعارات سياسية أو أيديولوجية، تبعًا للتطورات[3].

بعد أقل من أسبوعين على انطلاق الثورة، مهّد إعلام النظام لخطاب سيلقيه بشار الأسد في 30 مارس/آذار، قيل أنه "يلاقي آمال الناس". لكن ما جرى كان "أكثر من مخيب للآمال"، فقد هيمن على خطابه كلام "الفتنة الطائفية" و"المؤامرة"، وختم كلامه في مجلس الشعب بما فحواه "إما أن تكونوا معي أو تكونوا ضدي"[4]. كان ردّ الشارع اتساع نطاق المظاهرات، وزيادة حجمها.

كان خطاب بشار الأسد الأول بعد الاحتجاجات عام 2011 مخيّبًا للآمال - غيتي

وُصِفت مدينة حمص بـ"عاصمة الثورة"، نظرًا لكثافة حراكها الثوري واستمراريته، وحجم القمع الذي شهدته. كانت ذروة الغضب الشعبي فيها يوم 18 أبريل/نيسان 2011، عند تشييع الأهالي سبعة مدنيين سقطوا في اليوم السابق برصاص الأمن. تجمّع عشرات الآلاف في ساحة الساعة وسط المدينة وقرروا الاعتصام فيها، وانتشر خبر الاعتصام على الفضائيات.

عند منتصف الليل، أبلغ ضباط الأمن المعتصمين عبر وسطاء بأنهم تلقوا أوامر بفضّ الاعتصام بأي طريقة ومهما سيكون عدد الضحايا، لكن ذلك لم يؤثّر على عزيمة المعتصمين. وفي الثانية ليلاً بدأت قوات الأمن تطلق الرصاص الحي على الاعتصام، فوقعت المجزرة[5]. شكّل فض "اعتصام الساعة" حدثًا مفصليًّا، ساهم في استفزاز المتظاهرين السلميين للقيام بردود فعل عنيفة لاحقًا.

تميّزت المظاهرات بمشاركة مختلف شرائح المجتمع، وسجّلت النساء حضورًا بارزًا، فكانت النتيجة تعرّضهنّ، شأن الرجال، للملاحقة والاعتقال والتعذيب، ومنهن من قضين أثناء الاعتقال، أو تعرّضن لانتهاكات جنسية. فقد أكدت التقارير الحقوقية ازدياد جرائم العنف الجنسي المرتكبة ضد النساء والفتيات، ومنها تقرير "لجنة الإنقاذ الدولية" الذي وصف الاغتصاب بأنه "سمة بارزة ومقلقة" في الحرب السورية.

وجاء في تقرير "الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان" إن أغلب ادّعاءات الاغتصاب وأشكال العنف الجنسي الأخرى التي اطلع عليها وفد الفدرالية، ارتكبتها القوات الحكومية أثناء تفتيش البيوت، وعند نقاط التفتيش، وأثناء الاحتجاز، إضافة إلى حالات اعتداء على سيدات في أماكن عامة أو أمام أقارب لهن[6].

تميّزت المظاهرات بمشاركة مختلف شرائح المجتمع - غيتي

انزياح الثورة نحو العسكرة

بوجه عام، فإن القوّة المفرطة التي وُوجِهت بها المظاهرات، وحملات الاعتقال والتنكيل العشوائية عند اقتحام المناطق المنتفضة،  فئات من المتظاهرين إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، ثم لتحقيق التغيير بالقوّة، مع ازدياد عدد الجنود والضباط الذين رفضوا قمع الشعب، وأعلنوا انشقاقهم عن الجيش والانحياز للثورة، وعزمهم حماية المظاهرات السلمية من قوّات الأسد.

اتسمت بدايات تسلح الثورة بطابع عفوي محدود في مناطق متفرقة، وغلب عليه طابع رد الفعل، قبل أن يعلن عسكريون منشقّون تنظيم صفوفهم، فتشكّل "لواء الضبّاط الأحرار" (أعلن عنه المقدم حسين هرموش في يونيو/حزيران 2011)، ثم "الجيش السوري الحر" (أسسه العقيد رياض الأسعد في يوليو/تموز 2011).

وجاءت أحداث حي بابا عمر في حمص، أواخر كانون الأول/ديسمبر 2011 وحتى نهاية فبراير/شباط 2012، لتشكّل نقطة تحول في الثورة. اعتبر النظام الحي أكبر تجمع للمنشقين، ومعقلاً للجيش الحر، فشنّ حملة عنيفة، وقصف المناطق السكنية للمرة الأولى منذ بدء الاحتجاجات بقذائف الهاون والدبابات وراجمات الصواريخ والمروحيات الحربية، وسقط المئات بين قتيل وجريح، فضلاً عن دمار واسع في الحي، وتدهور الوضع الإنساني، ونزوح غالبية السكان"[7].

خضعت سوريا لحكم استبدادي مديد، بدأ باستيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي وعسكره على السلطة سنة 1963 بانقلاب عسكري، وتكرّس بصورة أشدّ قمعًا وسلطوية مع انفراد حافظ الأسد بالسلطة عام 1970

تكرر المشهد في  المناطق المنتفضة كافة، ما أدّى على مرّ السنوات إلى تشريد ملايين السوريين، داخل البلاد وخارجها. لم توفّر قوات الأسد جهدًا لسحق المعارضين، وبلغ الأمر بها استخدام الأسلحة الكيماوية ضدّ غوطتي دمشق الشرقية والغربية، يوم 21 أغسطس/آب 2013، وراح ضحية المجزرة مئات المدنيين، معظمهم نساء وأطفال. واستخدمت سلاح الحصار والتجويع لإخضاع المناطق الثائرة، فقضى المئات جوعًا في مخيم اليرموك وبعض بلدات ريف دمشق وغيرها.

تراجع التمسّك بسلمية الثورة مع تصاعد توحّش النظام، وازدادت الانشقاقات عن الجيش، وسعت جهات مختلفة لدعم الفصائل العسكرية بالمال والسلاح والخبرات، فخرجت مزيد من المناطق عن سلطة النظام. لكنّ التمويل جاء بنتيجة سلبية، إذ دبّت الانقسامات والخلافات وأرخت بظلالها على الواقع الميداني، لأن كلّ جهة استثمرت العسكرة وفق مصالحها.

بعضها تبنى "الجيش الحر"، وبعضها دعمَ فصائل ناشئة ذات توجّهات إسلامية متشدّدة، أزاحت في النهاية الجيش الحر وخطابه الوطني الجامع، لتفرض نفسها وأجنداتها في مناطق سيطرتها. ويُلاحظ أنّ حالات الاقتتال والتناحر الفصائلي كانت في حدودها الدنيا حين كان "الجيش الحر" العنوان الوحيد لحمل السلاح في وجه آلة القمع الأسدية، لكنّها تضاعفت بظهور الفصائل الإسلامية عمومًا، والجهادية بشكل خاص.

لم توفّر قوات الأسد جهدًا لسحق المعارضين، وبلغ الأمر بها استخدام الأسلحة الكيماوية ضدّ غوطتي دمشق الشرقية والغربية - غيتي

الأسلمة والمشاريع الجهادية

بموازاة الشعارات الوطنية الجامعة في بدايات الثورة، ظهرت مساعٍ لإضفاء طابع ديني عليها، ومن أساليبها اعتماد تسميات بدلالة إسلامية لأيّام الجمع، مثل: جمعة "أحفاد خالد" في 22 يوليو/تموز 2011، جمعة "الله معنا" في 5 أغسطس/آب 2011، جمعة "لن نركع إلا لله" في 12 أغسطس/آب 2011، جمعة "الله أكبر" في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، جمعة "إن تنصروا الله ينصركم" في 6 يناير/ كانون الثاني 2012، وصولاً إلى الجدل الذي أثارته محاولة "صفحة الثورة السورية" تسمية يوم الجمعة 27 يناير 2012 بـ"جمعة إعلان الجهاد".

حينها تراجع مشرفو الصفحة أمام انتقادات نشطاء الحراك السلمي، لكن التسمية البديلة كانت "حق الدفاع عن النفس"، في إعادة تمرير للرسالة التي تحملها تسمية "إعلان الجهاد"، خصوصًا أنّها جاءت على حساب "جمعة الدولة المدنية"، التي تبناها النشطاء السلميون[8].

ومع تصاعد ممارسات النظام واستفزازاته ومجازره ذات الصبغة الطائفية، وسعيه لدفع المحتجين إلى التطرّف لإثبات روايته، وفي ظلّ مناخ عسكرة الثورة وتوفّر الداعمين المناسبين، أصبحت الأرضيّة ملائمة لظهور مئات المجموعات الإسلامية المقاتلة، وتنظيمات أخرى متشدّدة مرتبطة بالجهاد العالمي، كانت تتحيّن الفرصة للإعلان عن نفسها، وتنفيذ أجنداتها.

ويعتقد البعض أنّ من الأخطاء التي وقعت فيها هيئات المعارضة التي سعت إلى تمثيل الثورة سياسيًّا ودبلوماسيًّا، عدم تمييز خطابها السياسي بين الفصائل، فاحتفت بكل تقدّم لها، بصرف النظر عن خلفياتها الأيديولوجية والسلوك الطائفي الصريح لبعضها.

ويرى كثيرون أنّ هذا الأمر أضرّ بصورة الثورة، وأدّى لتراجع قطاعات من الرأي العام في الداخل والخارج عن دعمها، وهو ما قدّم خدمة للنظام وحلفائه لاحقًا، لاسيما مع تنامي دور فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وتأسيس تنظيم "دولة الإسلام في العراق والشام"، الذي أصبح "تنظيم الدولة"، تحت خلافة مزعومة أعلنها زعيمه أبو بكر البغدادي، إثر سيطرته على مساحات واسعة من العراق وسوريا صيف عام 2014.

النظام يستنجد بحلفائه

عجز نظام الأسد عن صدّ التقدّم الكاسح لفصائل المعارضة، سواء المنضوية تحت مظلة الجيش الحر أو الإسلامية التي تعمل بمعزل عنه، ولم يستطع تعويض نقص القوة البشرية الناجم عن الانشقاقات والخسائر الحربية، فاستنجد بإيران والميليشيات المرتبطة بها، وعلى رأسها حزب الله اللبناني، إلى جانب ميليشيات شيعية عراقية وأفغانية وغيرها، فضلاً عن تجنيد مدنيين موالين له في ميليشيا "الدفاع الوطني"، تحت إشراف إيراني مباشر.

ورغم أن قوات الأسد وحلفاءها استطاعت موازنة الكفّة نسبيًا مع فصائل المعارضة، لكنها باستثناء استعادتها مدينة القصير صيف عام 2013، لم تنجح في استعادة المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، فكان على النظام وإيران الاستنجاد بالحليف الروسي القوي.

دفعت القوّة المفرطة التي وُوجِهت بها المظاهرات، وحملات الاعتقال والتنكيل العشوائية عند اقتحام المناطق، فئات من المتظاهرين إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، ثم لتحقيق التغيير بالقوّة

وبعد سنوات من الدعم الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، بدأ التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية نهايةَ سبتمبر/أيلول 2015. حدث ذلك "بموافقة ضمنية، إن لم تكن صريحة، من واشنطن"، وفق تصريح الرئيس الإيراني (وقتذاك) حسن روحاني، لشبكة (سي إن إن)، بتاريخ 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، وقال إنّ بوتين أخبره "أنه تحدّث إلى السيد أوباما عن هذا الموضوع وأنّه يودّ أن يجدّد التزامه بقتال داعش وهزيمتها. ورحّب أوباما بتحليله وخطّته. ولذا فحتى مسبقًا، أُخطرت الولايات المتحدة الأميركية"[9].

هكذا، جرى تنسيق العمليات الجوية في السماء السورية بين الطيران الروسي وطيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم "الدولة"، في إطار ما يسمّى "الحرب على الإرهاب". وتحت هذه التسمية، مارست القوات الروسية سياسة الأرض المحروقة ضد مناطق سيطرة المعارضة طيلة السنوات الثلاث التالية، مما ساعد قوات النظام والميليشيات الإيرانية على استعادة مساحات واسعة كانت في قبضة المعارضة، مثل أحياء حلب الشرقية، وغوطة دمشق وأرياف حمص وحماه. وهجّرت من بقي من المقاتلين والمدنيين إلى ما تبقى من مناطق المعارضة في الشمال، لتستقر خطوط التماس على حالها تقريبًا حتى أواخر 2024.

بدأ التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية نهايةَ سبتمبر/أيلول 2015 - رويترز

الملف الكردي

صيف عام 2012، سيطر حزب الاتحاد الديمقراطي (BYD) على المدن والبلدات ذات الثقل السكّاني الكردي التي انسحبت منها قوات النظام. ورفع الحزب راياته وصور عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني التركي (PKK) على المباني الحكومية، مكان صور الأسد ورموز حزب البعث، وأعلن لاحقًا عن تأسيس إدارة ذاتية لحكم تلك المناطق.

في سبتمبر/أيلول 2014، أسست الولايات المتحدة الأميركية تحالفًا دوليًا لمحاربة تنظيم الدولة. كانت سياسة إدارة الرئيس أوباما في محاربة الإرهاب تقوم على دعم وتسليح مجموعات محلّية عوضًا عن إرسال قوات أميركية للقتال على الأرض، فاتسع نطاق الاعتماد الأميركي على المقاتلين الأكراد لمقاتلة التنظيم، تحت غطاء جوي من قوات التحالف، وهم بدورهم فرضوا سلطتهم على المناطق التي استعادوها من تنظيم الدولة، بعد هزيمته عسكريًا.

شكّلت الإدارة الذاتية الكردية في شمال وشرق سوريا هاجسًا تركيًا منذ تأسيسها، حيث رأت فيها أنقرة تهديدًا لأمنها القومي، وخشيت أن يؤدي مشروع الحكم هذا إلى تحريض أكراد تركيا على الانفصال، خصوصًا بسبب محاذاته القسم الأكبر للحدود التركية الجنوبية مع سوريا، وامتداده من حدود العراق وحتى عفرين غير البعيدة عن البحر المتوسط. وقد تلخّصَ الهدف الاستراتيجي للسياسة التركية بتحطيم الكيان الكردي بالقوة، والتعامل مع التحدي الأمني الناجم عن ذلك كأولوية مطلقة[10].

نفّذت تركيا عمليات عسكرية عدّة داخل الأراضي السورية، شاركت فيها فصائل من المعارضة السورية موالية لها، جرى تنظيمها ضمن (الجيش الوطني) التابع شكليًا لحكومة المعارضة، وسيطرت على عفرين، ومناطق من الأرياف الشمالية لمحافظتي الحسكة والرقة.

مناورات دبلوماسية وعملية سياسية متعثرة

منذ بدء مظاهرات درعا، دخل العامل الدولي إلى المشهد. ففي 19/3/2011 دعا متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي حكومة النظام إلى السماح للشعب بالتظاهر بحرية، وحثّها على محاسبة المسؤولين عن العنف ضدّ المتظاهرين، وأعربت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتّحاد الأوروبي عن قلقها العميق من العنف ضد المتظاهرين. واعتبر الأمين العام للأمم المتحدة حينها، بان كي مون، أن استخدام العنف ضد المتظاهرين أمر غير مقبول على الإطلاق، وحضّ السلطات على تجنب العنف والتصرف بما يتناسب مع التزاماتها الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان[11].

وفي عام 2012، بات الحديث عن ضرورة إيجاد حل سياسي هو النقطة المشتركة في الخطاب الرسمي المعلن لداعمي النظام أو المعارضة على السواء. فانعقد مؤتمر جنيف 1 وصدر بيانه الشهير في 30 يونيو/ حزيران 2012، واضعًا تصوّرًا لخطوات عملية ضمن مهل معلومة للتفاوض على انتقال سياسي منظم. لكنّ ذلك لم يسفر عن أي نتائج فعلية لغياب الإرادة الجدية، وذلك بسبب التباين الحادّ بين الأطراف حول شكل الحل السياسي ومضمونه والنتيجة المنتظرة منه.

وبعد مجزرة الكيماوي (أغسطس/ آب 2013) هددت واشنطن بتوجيه ضربة عسكرية ضد نظام الأسد، لكن الأمور انتهت بسلام نتيجة تسوية وقعتها مع موسكو في جنيف، يوم 14 سبتمبر/ أيلول 2013، وبموجبها يضمن الروس (حلفاء الأسد وحماته) القضاء على الأسلحة الكيماوية السورية، ثم أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2118 بالإجماع، يتبنى فيه تلك التسوية[12].

وتجدّدت الدعوات إلى الحل السياسي وضرورة التفاوض بين النظام والمعارضة، فتتالت اللقاءات والمؤتمرات من دون جدوى، بالتوازي مع سعي كل فريق إلى تعزيز مواقعه على الأرض لتقوية موقفه في أي تسوية محتملة. وأصبحت إمكانية التفاهم بين الدول تنمو أو تتضاءل على وقع أخبار الجبهات، ثم بدلالة جهود ما يسمى "الحرب على الإرهاب". وكان من أسباب إعاقة الحل السياسي وضع الأطراف شروطًا مسبقة للتفاوض، وعقدة العقد المتمثلة في مصير الأسد. لكن الضغوط الروسية أثمرت في سحب مسألة تنحيه عن السلطة من التداول تدريجيًا، وصار يعدّ "جزءًا من المرحلة الانتقالية" كأمر واقع، مع تراجع الإهتمام الغربي في وقف إرهاب النظام ضدّ الشعب، والتركيز على الاستفادة منه في "الحرب على الإرهاب"، وهو ما انعكس في الصيغ الملتبسة لبنود قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 بشأن سوريا.

ناضل السوريون والسوريات عقودًا في مواجهة الديكتاتورية الأسدية، وأتت ذروة النضال في سياق الربيع العربي، فانطلقت الثورة السورية أواسط مارس/آذار 2011، مطالبةً بالحرية والتغيير السياسي

سعت روسيا، منذ بدء تدخّلها العسكري المباشر برضى أميركي، إلى ضبط التوازنات وإدارة صراع النفوذ والمصالح في سوريا، ما ساعدها على إطلاق مسار أستانا، في يناير/ كانون الثاني 2017، بالشراكة مع إيران وتركيا، ونتج عنه اتفاقات "خفض التوتّر". وبعد عام فرضت "عملية سياسية" تلائم مصالحها بالحفاظ على النظام ومكتسباتها، من خلال "مؤتمر الحوار الوطني السوري" في مدينة سوتشي نهاية يناير/كانون الثاني 2018، وأيضًا بالتنسيق مع إيران وتركيا.

هكذا، أُفرغت "العملية السياسية" المنصوص عليها في القرارات الدولية من أي محتوىً جدّي، وبدأت إعادة تأهيل نظام الأسد، عبر اختزال "الحل السياسي" إلى مجرد تعديلات دستورية بوجود النظام ومشاركته، بواسطة "لجنة دستورية" فاقدة للصلاحية، لم تسفر اجتماعاتها عن شيء، سوى تجميد الحل السياسي، وتمييع القضية السورية.

وانقسمت البلاد إلى مناطق نفوذ، تحكمها أربع سلطات مختلفة: الجيش الوطني وحكومة ائتلاف المعارضة السورية الموالية لتركيا، وقسد والإدارة الذاتية المدعومة أميركيًا، وحكومة الإنقاذ التابعة لما تبقى من الفصائل الجهادية والإسلامية في إدلب، وحكومة نظام الأسد التي استمرت بفضل الدعم الإيراني والروسي. وانتشرت القواعد العسكرية الأجنبية في طول البلاد وعرضها، في ظروف انهيار اقتصادي شامل، وانتشار الجريمة والمخدرات، وفوضى السلاح، بتفاوت نسبي بين منطقة وأخرى.

وعلى الرغم من انسداد الأفق السياسي، والحالة الكارثية التي وصلت إليها البلاد، أعادت محافظة السويداء الأمل للسوريين، بانتفاضتها السلمية التي استلهمت بدايات الثورة السورية، بالمظاهرات والعصيان المدني والاعتصامات والشعارات الوطنية الجامعة، بعد أن استطاع أهلها الخروج عن سلطة النظام، بحراكهم السلمي الحضاري.

تتالت اللقاءات والمؤتمرات من دون جدوى، بالتوازي مع سعي كل فريق إلى تعزيز مواقعه على الأرض - غيتي

هرب الأسد وسقط نظامه.. ماذا بعد؟

أدت تداعيات "طوفان الأقصى" إلى تصعيد غير مسبوق في استهداف إسرائيل مواقعَ إيران وحزب الله وبقية المليشيات المرتبطة في سورية، مما أوجد خلق فراغًا ميدانيًا يصعب على ما تبقى من الجيش السوري وقواته المتهالكة تعويضه بالعديد والعتاد. ومع تعنّت الأسد ورفضه الدعوات التركية للتقارب وإيجاد حل سياسي، نضجت الظروف السياسية والميدانية لعمل عسكري يعيد تشكيل المشهد.

ضمن هذه المعطيات، تحالفت فصائل معارضة مسلحة ضمن "إدارة العمليات العسكرية"، بقيادة هيئة تحرير الشام التي تسيطر على إدلب وريفها، وأطلقت في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، معركة "ردع العدوان"، ضدّ مواقع قوات النظام والميليشيات المتحالفة معه، وسيطرت خلال أيام على مدن حلب وحماه وحمص وأريافها، بلا مقاومة تُذكر، ما دفعها لمواصلة التقدم نحو دمشق، فدخلتها من دون قتال، فجر 8 ديسمبر/كانون الثاني 2024، بعد هروب بشار الأسد، وتوصّل الفصائل المهاجمة إلى ترتيبات لم يُكشف عنها مع قادة أجهزة النظام الأمنية.

صمد الأسد بتوحشه ودعم حلفائه، وبتواطؤ المجتمع الدولي معه بزعم "محاربة الإرهاب"، وبسوء سلوك بعض المعارضة التي مثّلت الثورة. كان النصر مكلفًا: بلاد مهدّمة، نصف شعبها مهجّر، ومئات الآلاف من أبنائها قضوا في المعارك أو بسبب القصف الهمجي، وتعرّض مثلهم للاعتقال، آلاف قضوا تعذيبًا في السجون وأقبية المخابرات، وعشرات الآلاف مجهولو المصير.

لكنّ الثورة أسقطت الأسد، وأعادت كتابة التاريخ السوري، وهذا مفهوم الثورة، وفقًا لحنة أرندت: "أنّ مسار التاريخ يبدأ من جديد، وأن قصة جديدة تمامًا، لم تُروَ سابقًا ولم تُعرف قط، هي على وشك أن تظهر"[13]. وثورة الحرية والعدالة السورية نجحت في مهمّتها الرئيسية بإسقاط الأسد، لكن فصولها لم تكتمل بعد، فالطريق طويل لطيّ صفحة النظام البائد ومحو آثاره، عبر مسار عدالة انتقالية، يؤسس لدولة عصرية، تليق بتضحيات الشعب السوري وطموحاته.

المراجع


[1] محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سوريا جدلية الجمود والإصلاح، ط1 (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2012)، ص176، 177
[2] المصدر نفسه، ص 184 وحتّى 187. يُذكر أنّ تحديد الذكرى السنويّة الأولى للانتفاضة، كان مثار خلاف بين النشطاء، إذ انقسم الرأي بين من يعتبره يوم 15/3، بوصفه اليوم الذي خرجت فيه أول مظاهرة في سوق الحميدية، وبين من يؤرّخ للذكرى في يوم الجمعة 18/3، الذي حمل تسمية "جمعة الكرامة"، وفق دعوات النشطاء للتظاهر فيه، بوصفه أول أيّام الجمع، التي أصبحت مواعيد أسبوعيّة لمظاهرات واسعة النطاق في الأشهر اللاحقة.
[3] تفاصيل وافية في: حمزة مصطفى المصطفى، المجال العام الافتراضي في الثورة السورية، ط1 (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، نيسان 2012).
[4] محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سوريا جدلية الجمود والإصلاح. ص214
[5] فريق عمل، قصة مكان قصة إنسان، بدايات الثورة السورية 2015-2011 الطبعة الأولى (بيروت: موقع الذاكرة الإبداعية للثورة السورية ومؤسسة فريدريش إيبرت، 2017). ص99، 100
[6] تقرير المنظمات غير الحكومية، الاستعراض الدوري الشامل: "الانتهاكات الواقعة على النساء في سوريا والأثر المجحف للنزاع عليهن"،نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. ص7
[7] قصة مكان قصة إنسان، ص24
[8] للاطلاع على تسميات أيام الجمعة، من بداية الثورة وحتى نهاية عام 2015، في المصدر السابق. ص311-323
[9] جلبير الأشقر، انتكاسة الانتفاضة العربية، عمر الشافي (مترجمًا)، ط1 (بيروت: دار الساقي، 2016)، ص 68، 69
[10]خير الله الحلو،"التدخل التركي في شمال سوريا: استراتيجية واحدة وسياسات متباينة"، موقع "مركز روبرت شومان" على الرابط: https://medirections.com/index.php/2019-05-07-15-50-27/wartime/2020-12-22-14-09-21
[11] محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سوريا، ص 189.
[12] لم يلتزم النظام والروس بالاتفاق، وتكرّرت الهجمات الكيماوية، مثل التي وقعت على خان شيخون أبريل/نيسان 2017، وتبعتها ضربة أميركية محدودة على مطار الشعيرات.
[13] حنة أرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، ط1 (المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008). ص38
المصادر:
خاص موقع التلفزيون العربي
شارك القصة