الخميس 18 أبريل / أبريل 2024

مذكرات أمين الحسيني.. من حلم التحرر العربي إلى "جدلية" العلاقة بهتلر

وصل الحاج أمين الحسيني بجهاده ليكون المطلوب رقم واحد لحكومة الانتداب البريطاني
وصل الحاج أمين الحسيني بجهاده ليكون المطلوب رقم واحد لحكومة الانتداب البريطاني - ويكيبيديا
مذكرات أمين الحسيني.. من حلم التحرر العربي إلى "جدلية" العلاقة بهتلر
مذكرات أمين الحسيني.. من حلم التحرر العربي إلى "جدلية" العلاقة بهتلر
الخميس 25 مايو 2023

شارك

يُعَدّ أمين الحسيني أحد أشهر وألمع نخبة رجالات فلسطين التي كان لها أثر بالغ في مرحلة مفصلية من تاريخ وطنهم وتحديدًا في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 وخلال النكبة الفلسطينية عام 1948، ووصل أثره إلى العالم كلّه. 

عومل الحسيني كالملوك واستُقبل في قصور الأمراء بحفاوة بالغة وكان لهم صديقًا وذا حظوة عند الأمير عبد الإله في العراق وعند الملك فاروق في مصر وعند الملك عبد العزيز في السعودية. 

وكان الحسيني معممًا وملتزمًا دينيًا ومفتي فلسطين. ولم يمنعه ذلك من أن يكون قوميًا عروبيًا ومناضلًا ومجاهدًا. ووصل بجهاده ليكون المطلوب رقم واحد لحكومة الانتداب البريطاني.

في مذكّراته، يقول الحسيني: "لقد قضيت عمري كلّه في خدمة قضية هذه البلاد المقدّسة، وكنت خلالها عرضة لمختلف وسائل الإغراء والترغيب حينًا، والتهديد والإرهاب أحيانًا، وفي سبيل خيرها وصالح شعبها، تحمّلت مضطرًا عناء السير في الدروب الشاقة".

ويتابع الحسيني، الذي نشأ في عائلة دينية ودرس في الأزهر: "حملت وإخواني المجاهدين أمانة هذه القضية بكل ما انطوت عليه ضمائرنا من صدق وإخلاص وروح فداء وليس من خلقي ولا في إمكاني أن أفرط في هذه الأمانة وأسلمها رخيصة للأعداء".

كان أمين الحسيني معمّمًا وملتزمًا دينيًا وفي الوقت نفسه قوميًا عروبيًا ومناضلًا ومجاهدًا
كان أمين الحسيني معمّمًا وملتزمًا دينيًا وفي الوقت نفسه قوميًا عروبيًا ومناضلًا ومجاهدًا

شهادات في الحاج أمين الحسيني

في عام 1922، انتخب الحسيني رئيسًا للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى. فاستغل هذا المنصب ليوقف بيع الأراضي الفلسطينية لليهود، فعقد المؤتمرات والندوات وأقام عددًا من الكتل الشبابية لمقاومة هذا السلوك. 

لكن ما يؤخذ على الحسيني أنه أسّس زعامة مبنية على منظومة من الأتباع التقليديين لآل الحسيني ومن بعض المنتفعين من شبكة الأوقاف التي كان آل الحسيني يشرفون عليها ومن بعض الوطنيين الشبان الذين وجدوا في الحاج أمين زعيمًا ممكنًا لحركة وطنية فلسطينية جديدة. 

لقد قضيت عمري كلّه في خدمة قضية هذه البلاد المقدّسة، وكنت خلالها عرضة لمختلف وسائل الإغراء والترغيب حينًا، والتهديد والإرهاب أحيانًا

ويقول الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بلال شلش إن الحسيني اشتهر بوصفه المفتي الأكبر، لكنّ شخصيته كانت متعدّدة الجوانب، فهو الشاب الذي أخرِج من فلسطين لثوريّته، وهو أيضًا الذي ترأس المجلس الإسلامي الأعلى والإفتاء.

من جهته، يشير المؤرخ محمد خالد الأزعر إلى أنّ أمين الحسيني عاش تحت الخطر على مدار حياته، وهو ما يظهر جليًا في مذكراته التي وضع فيها عصارة خبرته، "حيث تجد أنّك أمام رجل غير طبيعي في التعامل مع المتغيّرات والأجواء العاصفة".

وتلفت المؤرخة والكاتبة في الشأن الفلسطيني عبلة المهتدي إلى أنّ الحسيني نشأ في عائلة دينية، حيث ساهمت عدّة عوامل في تشكيل فكره وتوجهه السياسي، ولا سيما مع انتقاله إلى الأزهر الشريف لإتمام تعليمه في القاهرة، ومن ثمّ إلى اسطنبول.

الثورة الفلسطينية الكبرى وبطش الإنكليز

في عام 1936، انتخب المفتي بالإجماع ليقود اللجنة العربية العليا التي أدارت الثورة الفلسطينية الكبرى التي استمرت ستة أشهر متواصلة.

وبعد اشتداد الخناق عليه من قبل الانتداب الإنكليزي وحينما أوقف إضراب 1936، وبدأت بريطانيا واللوبيات اليهودية بالانتقام منه عبر التحقيق وكيل الاتهامات له، أحسّ الحسيني بدنو المواجهة مع الإنكليز. 

انتخب أمين الحسيني بالإجماع ليقود اللجنة العربية العليا التي أدارت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 - ويكيبيديا
انتخب أمين الحسيني بالإجماع ليقود اللجنة العربية العليا التي أدارت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 - ويكيبيديا

ويفنّد ذلك في مذكراته، حيث يقول: "لمّا فشلوا في التأثير علي بوسائل الإغراء والوعد عمدوا إلى التهديد والوعيد، فأرسل مدير المخابرات العسكرية الإنكليزية مستر دونفيل عدة رسائل شفهية مع بضعة أشخاص من أصدقائه ووسطائه يقولون فيها إن الإنكليز في سبيل مصالحهم يفعلون كل شيء، يبطشون ويقتلون ولا يبالون باقتراف أي عمل، وأنصحك ألا تعاند وأن ترفق بنفسك وبمن معك".

ويضيف: "لمّا يئسوا من جدوى الوعيد والتهديد أصبح على الحكومة البريطانية ألا تتركني وشأني، بل تصفيتي وعزلي من رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى وأن تبطش بي وبالفريق المتصلب". 

رحلة الحسيني من القدس إلى بيروت

عن هذه المحطّة، توضح المهتدي أنّ الحكومة الفلسطينية البريطانية حلّت اللجنة العربية العليا التي كانت تشرف على الثورة والإضراب في البلاد، وفي تلك الفترة قُتل حاكم الجليل البريطاني خلال المناوشات بين العرب والإنكليز، فجُنّ جنون الإنكليز وحمّلوا الحسيني المسؤولية عن ذلك، وقرّروا إلقاء القبض عليه، ما اضطره إلى التخفّي والهروب ليلاً من القدس متوجّهًا إلى لبنان وسوريا.

يقول الحسيني عن ذلك: "قرّرت الخروج من القدس والهجرة إلى أحد الأقطار العربية المجاورة، حيث تتوفر لي حرية العمل ومتابعة حركة الجهاد والتحرّر. فلمّا اقتربنا من الشاطئ فاجأنا زورق بخاري فرنسي مسلح، رفضت أن أعرّفهم بشخصيتي وسميّت نفسي محمد الجعفري، لكن تم التعرف علي من قبل مدير الأمن العام ميسيو كولومباني، ولم يُسمح لي بمتابعة السفر إلى دمشق ولا بمقابلة أحد في بيروت". 

وبعد إلقاء القبض على الحسيني من قبل حكومة الانتداب الفرنسية، طالبت الحكومة البريطانية بتسليمه وهو ما رفضته حكومة الانتداب الفرنسية، حيث قررت الإبقاء على الحسيني في بيروت على ألا يمارس أي عمل سياسي أو نضالي، وفق ما تكشف المهتدي في حديثها إلى "العربي".

حملت وإخواني المجاهدين أمانة هذه القضية بكل ما انطوت عليه ضمائرنا من صدق وإخلاص وروح فداء وليس من خلقي ولا في إمكاني أن أفرط في هذه الأمانة وأسلمها رخيصة للأعداء

يقول الحسيني في مذكراته: "اشتدت المراقبة علينا بنشوب الحرب العالمية الثانية، ظاهرها فرنسي وباطنها إنكليزي في مراقبتنا وتقصي أخبارنا". 

تقول المهتدي في هذا السياق إنّ الحسيني بقي في لبنان من العام 1937 حتى 1939، لكنّه توجّه قبل نشوب الحرب بفترة بسيطة إلى العراق، لإدراكه أنّ هنالك قيادات وطنية ستساعده.

وبالفعل، استطاع الحسيني الخروج إلى العراق عبر طريق صعبة وخطة محكمة ومطاردة فرنسية وبريطانية ليصل إلى هناك بعد عدة أيام. 

وتروي المهتدي أنّ علاقاته كانت جيدة جدًا مع العديد من الزعامات الحزبية في العراق، على غرار محمد رشيد الكيلاني ذات التوجّه المحايد ضدّ الإنكليز، وكذلك مع الطرف الآخر نور السعيد الذي كان مؤمنًا بالتعاون الكامل مع الإنكليز، كما كان أيضًا على علاقة جيدة مع الوصي على العرش الأمير عبد الإله.

دور الحسيني في العراق

وصل الحسيني إلى بغداد في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1939، في فترة كان يعيش فيها العراق أوضاعًا سياسية مضطربة. فحصل على موافقة في المكوث في بغداد من كبار المسؤولين العراقيين حتى لا يسبب لهم أي إحراج مع الإنكليز الذين كانوا حاضرين بقوة في العراق بشكل عام. 

وجاء في مذكرات الحسيني: "كان لزامًا على العراق أن يُنشئ إدارة مخابرات قوية جديرة بإحباط مؤامرات الأعداء، وهذا ما استدعيت له نظر طه باشا الهاشمي عقب وصولي بغداد". 

لكنّ العراق عاش خلال وجود المفتي أحداثًا مؤسفة، من بينها احتلال مدينة البصرة من قبل بريطانيا بعد أن أوهموا العراقيين بأنهم سيمرون من هذه المدينة وفق المعاهدة الموقعة بين الطرفين للوصول إلى الأردن، لكن كانت تلك الواقعة خديعة جعلت العراقيين يخسرون مدينة مهمة كالبصرة. وهنا ناقش المفتي تلك الأحداث مع المسؤولين العراقيين، ونصحهم بإنشاء جهاز المخابرات العراقي لتفادي وقوع مثل هذه الأحداث. 

أثار تعاون أمين الحسيني مع أدولف هتلر جدلاً واسعًا علمًا أنه عبّر عن إعجابه في مذكراته
أثار تعاون أمين الحسيني مع أدولف هتلر جدلاً واسعًا علمًا أنه عبّر عن إعجابه في مذكراته - ويكيبيديا

يقول الحسيني في مذكراته: "كان قائد الفرقة الأولى الإنكليزي حينئذ (مستر إدمونس) يدبر لاختطافي على حين غرة بقوة الجند ثم اعتقالي خارج العراق". ويضيف: "كنا نتدارس الأوضاع السياسية بالتعاون مع الحكومة الكيلانية ونحاول انتهاز فرصة الحرب للعمل لصالح الأمة العربية، وانتهى البحث إلى محاولة الاتصال بالألمان". 

ويوضح الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بلال شلش أنّ الحاج أمين الحسيني كان ينظر لنفسه كشخصية تتجاوز فلسطين، وبالتالي فهو اعتبر أنّ قضية العراق هي قضيته أيضًا. ويلفت إلى أنّه كان لديه موقف واضح من السلطات الاستعمارية البريطانية، كان لا بدّ أن ينعكس على الموقف من حلفائها.

أمين الحسيني في روما والثورة الليبية

غادر الحسيني العراق إلى إيران التي كانت تعصف بتناقضات السياسة وعاش فيها عددًا من الأحداث المهمة. وكان لبريطانيا دور كبير في محاصرته في طهران عدة أيام قبل أن يفلت من قبضتهم. 

وعزم الحسيني على الانتقال إلى عدة دول أوروبية منها بلغاريا ثم إلى مدينة بوخارست في رومانيا ثم إلى هنغاريا وتحديدًا مدينة بودابست. وهناك توجه إلى إيطاليا حيث التقى الزعيم الإيطالي موسيليني الذي كان يقود جبهة حربية ضد بريطانيا وفرنسا بالتحالف مع الألمان. 

وقدّم موسيليني للمفتي موافقته المبدئية على المطالب بالاستقلال العربي. واستعد للاعتراف باستقلال الأقطار العربية. وطلب من المفتي المشاركة العربية في الحرب مع الحلفاء وفتح باب التعاون لاستقطاب المقاتلين وإرسال الأسلحة لمقاومة الإنكليز. 

كان لزامًا على العراق أن يُنشئ إدارة مخابرات قوية جديرة بإحباط مؤامرات الأعداء، وهذا ما استدعيت له نظر طه باشا الهاشمي عقب وصولي بغداد

وفي روما، لم ينس المفتي الثورة الليبية وساهم بحل الأزمة بينهم وبين الإيطاليين. وطلب منهم أن يقبلوا وساطتهم لإنهاء الانتداب. وبالفعل اتصل بعدد من قادة ليبيا ومنهم الأمير سليمان القرمانلي، وفتح خطًا للتواصل وللتفاوض من أجل إنهاء الاحتلال الإيطالي. وبعد عدة سنوات تحقق الاستقلال بالفعل. 

وعن هذا الموضوع، يقول الحسيني في مذكّراته: "في زيارتي الأولى لروما، اتصلت بعدد من زعماء ليبيا الباسلة، التي جاهدت أشرف جهاد وأطوله، فكانت أول قطر عربي أثار اهتمام الأوروبيين واسترعى أنظارهم إلى كفاح العرب ونهضتهم".

الحسيني وهتلر.. "عدو عدوي صديقي"؟

كانت ألمانيا محطة الحسيني التالية، حيث التقى الزعيم الألماني هتلر وحاول أن يحصل منه على التزام خطي بمنح الدول العربية الاستقلال والتحرر.

وخلال المذكرات التي كُتبت بعد سنوات من سقوط هتلر وحلف المحور، بقي الحسيني معبرًا عن إعجابه بهتلر ولم يتراجع عن مواقفه السياسة والفكرية ولم يتطرق أبدًا إلى قضية الاعتذار من العلاقات التي نسجها معه خلال تلك الفترة.  

في هذا السياق يوضح شلش أنّ الحسيني لم يكن ينظر إلى أيديولوجية هتلر وأثرها السلبي المحتمل، إلا أنّ تقييمه انطلق من محاولة إيذاء بريطانيا وكيفية التأسيس لمشروع جديد. ويلفت إلى أنّ موقف هتلر من القضية العربية عمومًا لم يكن واضحًا، وكان ربما يريد الاستفادة من وجود الحسيني كلاجئ سياسي موجود لديه.

في المحصّلة، لم تجب مذكرات الحسيني عما إذا استفاد من تحالفه مع الألمان وحقق ما كان مرجوًا أو أن نظرية عدو عدوي صديقي التي سار على نهجها لم تؤت ثمار النجاح الذي كان يريد أن يصل إليه.  

ويقول أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية عمرو رياض إنه يجب وضع أهمية الحسيني في سياقها التاريخي المناسب من دون مبالغات أو تبريرات، حيث يشير إلى أنّ أمين الحسيني تعاون بالفعل مع النازية واشترك في راديو ألمانيا للدعاية النازية، لكن لا شيء يدلّ إن كان يعرف عن معسكرات النازية.


كلّ ما تودّون معرفته عن أمين الحسيني تجدونه ضمن الحلقة المرفقة من "مذكرات" التي تفتح سيرة كفاحه ضد الاحتلال البريطاني ورحلاته المتعددة للتعريف بالقضية الفلسطينية، إضافة إلى جدلية علاقة الحسيني بهتلر وموسوليني ولقاءاته معهما.

المصادر:
العربي

شارك

Close