الإثنين 25 مارس / مارس 2024

مذكّرات الشيخ محمد عبده.. من الدراسة والنضال والثورة إلى السجن والمنفى

مذكّرات الشيخ محمد عبده.. من الدراسة والنضال والثورة إلى السجن والمنفى

Changed

حلقة من برنامج "مذكرات" تتطرق إلى حياة الشيخ الإمام محمد عبده ولا سيما ما يتصل بالجانب الوطني والسياسي منها، وموقفه المؤيد للثورة العربية ضد القصر الملكي الحاكم.
رحل الشيخ محمد عبده عام 1905 عن 57 عامًا تاركًا إرثًا كبيرًا في الفكر الديني والإصلاح السياسي وكتابات وثقت حقبة صعبة عاشتها مصر.

شهدت مصر في النصف الثاني من القرن 19 حراكًا سياسيًا واسعًا نتيجة لسياسات الحكام المتعاقبين من أسرة محمد علي.

تلك السياسات كان من شأنها تعظيم الهوة بين دائرة الحكم والمقربين من إقطاعيين وأجانب من جهة، وعموم الشعب المصري من جهة أخرى الذين زادت أوضاعهم الاقتصادية سوءًا.

وكان في قلب ذلك الحراك الذي وصل إلى ذروته في الثورة العرابية عام 1881 الإمام محمد عبده، العالم الأزهري الذي بات ينظر له اليوم باعتباره أحد أعلام التجديد في الفقه الإسلامي، كما كان له أيضًا نشاط إصلاحي بارز خلال تلك الحقبة.

وكان محمد عبده شاهدًا وفاعلًا رئيسيًا في خضم تلك الحركة الإصلاحية السياسية والدينية طوال تلك السنوات، ودفع ثمنًا كبيرًا بسبب الدور الذي لعبه بين السجن والمنفى، إلا أن ذلك لم يدفعه للتوقف بل استكمل النضال الذي بدأه.

دعوة للإصلاح الديني والسياسي

وترك عبده إرثًا متمثلًا في كتاباته ومنهجه الداعي للإصلاح الديني والسياسي والمناوئ للاستبداد السياسي القادم من رأس السلطة.

عُدت مذكرات الشيخ محمد عبده توثيقًا هامًا لسنوات وصل فيها فساد السلطة إلى ذروته
عُدت مذكرات الشيخ محمد عبده توثيقًا هامًا لسنوات وصل فيها فساد السلطة إلى ذروته

وقد حظيت تلك الفترة بنصيب وافر في مذكرات الإمام  التي دونها بشكل متناثر، إلا أن تلاميذه قرروا جمعها بعد رحيله لما لها من أهمية كبرى واعتبروها توثيقًا هامًا لسنوات وصل فيها فساد السلطة إلى ذروته، في ظل احتلال أجنبي أيضًا ظل جاثمًا على صدور الشعب لأكثر من 70 عامًا.

ولد محمد عبده عام 1848 في إحدى قرى دلتا مصر وتلقى تعلميه الأولي في الكتّاب ومن ثم انتقل إلى الجامع الأحمدي في طنطا ليتعلم شيئًا من علوم الفقه واللغة، إلا أن تلك التجربة تركت في نفسه أثرًا سيئًا.

ويروي في مذكراته كيف صدته الطريقة التقليدية في التعلم بالحفظ عن رغبة استكمال تعليمه، فآثر ترك الدراسة والعودة للعمل بالزراعة كبقية أصدقائه ممن هم في عمره.

وأمام إصرار والده على استكمال تعليمه، انتقل إلى قرية بها بعض أقربائه ليتتلمذ هناك على يد أحد شيوخهم الذي أعاد علاقة الفتى اليافع بعلوم الفقه، فصار مقبلًا على استكمال دراسته في الجامع الأزهر وهو المدرسة الفقهية الأكبر في البلاد.

وسافر محمد عبده إلى القاهرة عام 1865 ليدرس في الأزهر علوم الفقه والشريعة حيث هاله جمود الحركة التعليمية تحت سقف الجامعة العريقة التي اكتفت بالدراسة الدينية دون غيرها من العلوم.

التأثر بجمال الدين الأفغاني

وبعد سنوات من دراسته، وصل إلى مصر المفكر الإصلاحي جمال الدين الأفغاني، فكان وصوله لحظة فارقة في حياة الأزهري الشاب.

يقول محمد عبده في مذكراته إن جمال الدين الأفغاني كان الأقرب إلى عقله ومنهجه، وإن لقاءه به نقله نقلة معرفية كبيرة، فيذكر أنه لازمه كظله وأخرجه من حياة العزلة إلى الحياة العملية ودراسة العلوم المختلفة كالفلسفة والرياضيات والأخلاق والسياسة والفن وغيرها الأمر الذي لم يكن مألوفًا في مناهج الأزهر آنذاك.

سافر محمد عبده إلى القاهرة عام 1865 ليدرس في الأزهر
سافر محمد عبده إلى القاهرة عام 1865 ليدرس في الأزهر

وبحلول العام 1979، أصبح محمد عبده أستاذًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم، وأستاذًا للأدب في مدرسة الألسن، وظل يشغل هاتين الوظيفتين إلى جانب مواصلته دروسه في الأزهر.

وبدأ محمد عبده كتابته للصحف متخذًا من رواجها سبيلًا لنشر أفكاره، فكتب في "الأهرام"، ثم انتقل ليرأس تحرير صحيفة "الوقائع" المصرية حيث أنشأ قسمًا للمقالات التي تحمل أفكارًا إصلاحية مستقطبًا كتابًا يسيرون على دربه كسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي وغيرهم.

وصارت تلك الجريدة منبرًا للدعوة إلى الإصلاح السياسي والفكري. وفي تلك الفترة كانت مصر تعاني تحت وطأة نظام حكم استبدادي متجذر أصاب البلاد بالفقر وأثقل كاهل المصريين بالسخرة والضرائب والمتتالية.

تأسيس الحزب الوطني الحر

وشارك الشيخ محمد عبده مع أستاذه الأفغاني في تأسيس الحزب الوطني الحر أول أحزاب الشرق الوطنية بشعاره الشهير: "مصر للمصريين".

وتمثلت أبرز مطالب الحزب بالثورة ضد النفوذ الأجنبي الطاغي بالبلاد وإجبار الخديوي إسماعيل على التنازل عن الحكم، لا سيما في ظل سقوط البلاد تحت وطأة الديون الخارجية التي شلت اقتصادها وجعلتها رهينة في قرارها السياسي للوكلاء الأوروبيين.

وأتى هذا الوضع جراء استسلام الخديوي لشهوة الإسراف والبذخ وانجراره للاقتراض والاستدانة من الغرب بفوائد كبيرة.

وإزاء خطب الأفغاني وكلماته اللاهبة، كانت مقالات الشيخ محمد عبده تسكب مزيدًا من النار على البنزين وتفضح مخططات الحاكم. ويذكر عبده في مذكراته أن الخديوي إسماعيل كان منصرفًا إلى إرضاء الأجانب بوضع أساس متين يضمن لهم الوفاء بفوائد الدين الباهظ.

وظهر عجز الحكومة المصرية بعدم قدرتها على تأدية بعض الأقساط من دينها في أوقاتها المحددة عام 1876، لكن الخديوي كان يريد أن يكون ذلك العجز معروفًا عند الدول ذات النفوذ ويتدخل أيضًا في تحديد وجوه الوفاء وطرق التسديد ظنًا منه أنه متى ثبت عجز المالية المصرية ستعلن الدول قطع مرتب الأستانة وتنادي به ملكًا مستقلًا على مصر.

شارك الشيخ محمد عبده مع أستاذه جمال الدين الأفغاني في تأسيس الحزب الوطني الحر
شارك الشيخ محمد عبده مع أستاذه جمال الدين الأفغاني في تأسيس الحزب الوطني الحر

إلا أن البلاد كانت تموج بغليان جراء سياسات الخديوي حتى أن الرحالة والمستشرق الإنكليزي ويلفريد سكوين بلنت قال في مذكراته التي صدرت تحت عنوان: "التاريخ السري للاحتلال الإنكليزي لمصر" إنه في ربيع العام 1879 كان رجال الأزهر يتناقشون في ما بينهم بالسر حول مسألة اغتيال الخديوي إذا لم تتيسر طريقة لعزله.

خلع الخديوي إسماعيل وتوريث نجله

لكن بدا أن الأرض الجامدة التي حرثها جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده قد استيقظت من سباتها، إذ نجحت تحركاتهما بالتوازي مع اشتداد أزمة الديون الخارجية والتدخل الأجنبي المتفاقم في خلع شجرة الخديوي إسماعيل اليابسة ليتولى الحكم بعده ابنه وولي عهده محمد توفيق باشا في 26 يونيو/ حزيران 1879.

وعلى الأثر، استبشر الأفغاني وعبده خيرًا إذ كان توفيق ممن اجتذبهم الأفغاني إلى مداره، وكان الأمير الشاب يؤكد وقتها للأفغاني إيمانه التام بالشورى والديمقراطية ورغبته بالإصلاح ومعاداته للنفوذ الأوروبي.

ولأجل ذلك، انضم الأمير توفيق إلى الحزب الوطني الحر الذي أنشأه الأفغاني وعبده، لكنه سرعان ما انقلب عليهما بعد توليه الحكم حيث تنكر لمبادئ الحزب وسار في ركاب القناصل الأجانب، فكان قراره بعد أشهر من اعتلائه عرش البلاد بنفي جمال الدين الأفغاني في 4 أغسطس/ آب 1879 إلى الهند، وعزل الشيخ محمد عبده من مناصب التدريس في مدرستي دار العلوم والألسن، وتحديد إقامته في قريته بمحافظة البحيرة.

خلف محمد توفيق باشا والده في الحكم عام 1879
خلف محمد توفيق باشا والده في الحكم عام 1879

إلا أن الغضب المتراكم دفع باتجاه الثورة الشعبية للمرة الأولى على حكم أسرة محمد علي وسرعان ما هبت رياح الثورة العرابية ليلتف حولها العديد من علماء الأزهر والأعيان والوطنيين.

الثورة ومذبحة الإسكندرية

ويذكر الشيخ عبده في مذكراته أنه لم يكن من المتحمسين للثورة في بداياتها إذ كان مقتنعًا بالحصول على الدستور في ظرف 5 سنوات، ويقول إنه قابل زعيم الثورة أحمد عرابي قبل 10 أيام من مظاهرة عبدين الشهيرة في 9 سبتمبر/ أيلول 1881 حيث دار بينهما جدال استمر 3 ساعات.

وقال محمد عبده إنه ليس من المصلحة أن نفاجئ البلاد بثورة قبل أن تستعد. ومع إصرار عرابي، قال الشيخ محمد عبده له: "أرى أن هذا الشغب قد يجر إلى البلاد احتلالًا أجنبيًا وأن لعنة الله ستقع على رأس من سيكون سببًا في ذلك".

وأمام حالة الزخم الثوري الذي قاده عرابي، لم يجد الخديوي توفيق بدًا من التراجع إلى حين، فأقال وزارة رياض باشا ليأتي عرابي في نهاية المطاف وزيرًا للحربية في وزارة محمود سامي البارودي.

إلا أن الأمر لم يرق لقنصلي بريطانيا وفرنسا اللذين طالبا باستقالة الوزارة وبإبعاد عرابي وهو ما استجاب له الخديوي، لكن عرابي بقي في منصبه بسبب تمسك حامية الإسكندرية به، فوقعت مذبحة الإسكندرية المروعة في يونيو/ حزيران 1882 بين المصريين والأوروبيين مخلفة 163 قتيلًا مصريًا في مقابل 75 قتيلًا أوروبيًا بحسب ما يذكر الشيخ محمد عبده.

خلفت مذبحة الإسكندرية 163 قتيلًا مصريًا في مقابل 75 قتيلًا أوروبيًا
خلفت مذبحة الإسكندرية 163 قتيلًا مصريًا في مقابل 75 قتيلًا أوروبيًا

وفي مذكراته، يقول الزعيم المصري أحمد عرابي إن تلك الحادثة وقعت بتدبير من الإنكليز لتشويه أعمالهم الوطنية ولإحداث أمر جلل يوجب التدخل الأجنبي وأنها وقعت بتواطئ بين الخديوي ومحافظ الإسكندرية عمر باشا لطفي، وهو الأمر ذاته الذي ذكره الشيخ محمد عبده في مذكراته وترافع به عن نفسه أمام المحاكمة العسكرية التي عقدت لزعماء الثورة العرابية إثر فشلها.

تفاقمت الأحداث، واستغلت إنكلترا الحدث حيث قام أسطولها بقصف مدينة الإسكندرية وتدمير قلاعها، وانحاز الخديوي بقصره إلى جانب الإنكليز ليجد الشيخ محمد عبده نفسه في قلب الحدث مشاركًا رئيسيًا وعنصرًا فاعلًا في مساندة الثورة وحشد جموع الشعب لها.

اعتقال محمد عبده ونفيه

لكن رياح الثورة سرعان ما أخمدت أمام جحافل الإنكليز المتقدمة في طول البلاد وعرضها، وتم القبض على أحمد عربي وزعماء الثورة البارزين ومنهم الشيخ محمد عبده الذي أودع السجن 3 أشهر ثم حُكم عليه بالنفي لمدة 3 سنوات، ودخلت مصر في ظلام احتلال إنكليزي دام 74 عامًا.

وفي مذكراته التي صدرت تحت عنوان "كيف دافعنا عن عرابي وصحبه" يسرد المحامي الإنكليزي ألكسندر برودلي الذي تولى مهمة الدفاع أمام المحكمة العسكرية تفاصيل لقاءاته مع الشيخ محمد عبده خلال فترة سجنه. ويقول إنه عندما زاره في زنزانته أصابه الاكتئاب، فليس داخل الزنزانة سوى إبريق من النحاس ومرتبة متواضعة ومصحف.

ومن محبسه، سافر محمد عبده إلى  بيروت مباشرة منفيًا لثلاث سنوات بأمر من الخديوي. وفي المنفى برز الجانب الإصلاحي له من جديد فعمل في العاصمة اللبنانية في مدرسة جمعية المقاصد الخيرية للأدب والتوحيد وعلوم الدين.

وعام 1884، سافر إلى فرنسا بناء على دعوة وصلته من أستاذه جمال الدين الأفغاني، ولدى وصوله اشترك مع الأفغاني في إصدار صحيفة "العروة الوثقى" وعملا معًا على نشر أفكارهما التنويرية المعادية للاستعمار والداعية لاستحداث نهضة حقيقية.

ويذكر عبده في مذكراته أنه حدّث أستاذه ذات مرة بيأسه من العمل بالسياسة ورغبته في التركيز على مجال التربية كما كان في بداية دخوله العمل العام، الأمر الذي اعتبره الأفغاني تثبيطًا وتصديرًا للإحباط ما تسبب في القطيعة بين الاستاذ والتلميذ.

محمد عبده مفتيًا للديار المصرية

وبعد سنوات في المنفى، عاد محمد عبده إلى مصر عام 1889 بعدما أصدر الخديوي توفيق عفوًا عنه نتيجة لإلحاح من عدد من تلاميذه وبعض الساسة والأمراء. وكان شرط الرجوع هو تعهد الشيخ بعدم الانخراط مرة أخرى في العمل السياسي والاكتفاء بالعمل الدعوي والفكري والمجتمعي فحسب.

وعين محمد عبده قاضيًا في المحاكم الشرعية ثم مستشارًا في محكمة الاستئناف، وأصبحت مهمته التقريب بين الإسلام والحضارة الغربية. واتخذ اتجاهه هذا أشكالًا مختلفة فظهر أحيانًا بصورة مقالات تدعو إلى إدخال العلوم العصرية إلى التعليم في جامع الأزهر، وتارة أخرى في تفسير لنصوص الدين بما يخالف ما جرت عليه العادة في الأزهر.

وبعد تولي الخديوي عباس السلطة عقب وفاة توفيق، حدثت فترة من الوفاق بينه وبين الإمام عبده الذي أقنع الخديوي الجديد بإصلاح الأزهر.

وعلى الإثر، تشكل مجلس إدارة للأزهر بعضوية الإمام محمد عبده، فوضع مشروعًا للإصلاح وهاجم الخضوع الأعمى للسلطة ودعا إلى التفكير الناقد وإلى استخدام العقل والاجتهاد وعمل بكل جهده لتطوير التعليم في الجامعة العريقة.

وعام 1899 عين محمد عبده مفتيًا للديار المصرية وظل طوال سنواته بعد عودته إلى مصر متنقلًا بين المناصب المختلفة، وساعيًا إلى إرساء مناهج فقهية جديدة ونهج إصلاحي يدفع رجال الدين لمواجهة فساد السلطة.

لكن المرض نال منه، حيث توفي مساء 11 يوليو/ تموز من عام 1905 في محافظة الإسكندرية عن 57 سنة تاركًا إرثًا كبيرًا في الفكر الديني والإصلاح السياسي وكتابات وثقت حقبة صعبة عاشتها مصر.

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close