محمد علال الفاسي، الذي اشتهر بعلال الفاسي، هو واحد من ثوار ومناضلي الأطلس، وهب نفسه للدفاع عن الوطن، ونشأ على رفض تمزيق وحدة تراب المغرب بين محتل فرنسي وآخر إسباني. أراد أن يسطّر التاريخ، كما يسطّر صفحات مؤلفاته الكثيرة.
وهو أكثر من مناضل ومفكر، ويقبع خلف اسمه الكثير من العمل السياسي والسعي النبيل للاستقلال والبطولات وأفكار التحرر الوطني.
وُلد الفاسي في مدينة فاس عام 1910. ويقول عنه رئيس وزراء المغرب السابق سعد الدين العثماني، في حديث إلى التلفزيون العربي ضمن برنامج "مذكّرات": "إنه وُلد في أسرة علم توارثت المعرفة أبًا عن جد، ولا شك أن هذا الإرث العلمي والديني والإيماني والصوفي والفقهي انعكس في تكوين الفاسي، وفي اهتماماته، وفي الزاوية التي ينظر منها إلى الأمور".
"الظهير البربري"
لمع اسم علال الفاسي في الوثيقة المعروفة باسم "الظهير البربري" وهي الوثيقة التي أصدرها الاحتلال الفرنسي عام 1930، وكان الهدف منها تقسيم المغرب، عبر فصل العرب عن الأمازيغ في الاحتكام إلى القوانين العرفية، مما يسهل نزع الأراضي الأمازيغية ومنحها للفرنسيين، لذا انتفض علال الفاسي لرفض الظهير البربري، وتعبئة الشعب ضده.
ويجزم الكثير من المؤرخين أن قضية صدور "الظهير البربري" قد مثلت الانطلاقة الحقيقية للحركة الوطنية بالمغرب.
وفي كتاب "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" يقول علال الفاسي: "إن السياسة البربرية ترمى لفرنسة المغرب لغويًا وسياسيًا وقضائيًا، وتتخذ لذلك وسائل التفرقة بين عنصرين كبيرين في البلاد فتعمد إلى من تظنه أقرب إليها فتحول بينه وبين الثقافة الإسلامية والعربية".
وفي حديث إلى التلفزيون العربي ضمن برنامج "مذكّرات"، يقول مدير مؤسسة علال الفاسي، مختار باقة، عن الفاسي: "كان له باع كبير جدًا، خاصة في ما يتعلق بما يُعرف بالظهير البربري الذي خُصص لخلق تفرقة بين المغاربة، عربًا كانوا أم أمازيغ. وقد ظل الفاسي يؤكد أن المغاربة هم مغاربة، سواء كانوا عربًا أو أمازيغ".
من جهته، يرى رئيس وزراء المغرب السابق الدكتور سعد الدين العثماني أن "الظهير البربري" كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وهو المحرّك الأخير الذي دفع إلى قيام ثورة ضد الاستعمار.
وكانت معركة الظهير البربري بمثابة بداية جديدة لتطوير الكفاح الوطني، والذي بدأ فعليًا بتأسيس كتلة العمل الوطني عام 1932، وكان علال الفاسي واحدًا من مؤسسيها.
ففي عام 1933؛ علم علال الفاسي بصدور أذن من باريس بإلقاء القبض عليه، لذا سافر إلى أوروبا متنقلاً بين إسبانيا وفرنسا وسويسرا حيث اتصل بكثير من المناضلين العرب والأوروبيين، لشرح الحالة العامة في المغرب.
وكان لهذه الحركة أثرها في تغيير المقيم العام الفرنسي لوسيان سان وهو الممثل الرسمي للحكومة الفرنسية في الرباط، واستبداله بمقيم عام جديد، والذي بدوره أذن لعلال الفاسي بالعودة إلى المغرب عام 1934.
كتلة الأعمال الوطنية
ويوضح باقة أن علال الفاسي بدأ نشاطه قبل عام 1934، لكنه برز بشكل جلي في تلك السنة مع تأسيس كتلة العمل الوطني، إذ كان أحد مؤسسيها الثلاثة. ويذكر في كتابه عقيدة وجهاد أنهم بدأوا بثلاثة أفراد، ثم أصبحوا ستة، ثم تسعة، قبل أن يتوسّع العدد ليصل إلى 66 فردًا.
ويشير سعد الدين العثماني إلى أن الضغوط السياسية لم تمنع علال الفاسي من المساهمة في عملية الإصلاح، من الموقع الذي يستطيع أن يخدم فيه؛ سواء علميًا أو فكريًا أو سياسيًا أو نضاليًا.
فقد أصدرت الكتلة الوطنية في المغرب أول برنامج إصلاحي وطني عام 1934 واشتمل على المطالبة بإصلاحات داخلية، لكنه لم يشتمل على مطالب واضحة قد تؤدي إلى الاصطدام بالاستعمار الفرنسي.
ويقول الفاسي في كتاب "في منفي الغابون": "إن مبادئنا تتميز عن غيرها ونحن ذوو مذهب خاص وبرنامج خاص، ونعتقد أن لنا من النضوج السياسي ما يجعلنا نؤثر في الفرنسيين عوض أن نتأثر بهم".
وبحسب المفكر والأكاديمي المغربي سعيد بنسعيد العلوي: "إن النظام الوحيد الممكن في المغرب، تاريخيًا وسياسيًا واجتماعيًا، هو نظام الملكية الدستورية، الذي يقوم على نظام أحزاب ونظام برلماني، ويكون فيه الملك فوق هذه الأحزاب".
ويشير عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، مولاي محمد خليفة، إلى أن علال الفاسي كافح في هذا الوطن من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة، ومن أجل أن يكون الشعب سيد نفسه.
نفي الفاسي إلى الغابون
ولم يجد الاستعمار سوى النفي حلاً لإنهاء نضال علال الفاسي، واستقرت السلطات الفرنسية على إرساله إلى دولة الغابون الواقعة في غرب وسط إفريقيا.
وفي الغابون، عانى علال الفاسي أشد معاناة، حيث ألمّت به الأمراض مثل الحمّى، وعانى من الآلام تلك الأمراض طويلاً. كما حُرم من متابعة الصحف والجرائد والإذاعة، ولكنه لم يتوقف عن الاحتجاج على سوء المعاملة والمطالبة بحقوق السجين السياسي. وكتب في منفاه مذكراته في الغابون، ورسائله التي كان يرسلها لوالده، والرسائل التي كان ينتظرها ولا تصل إليه.
وفي كتابه "في منفى الغابون"، كتب الفاسي: "وبالرغم من أني ظللت مدة اعتقالي كلّها بعيدًا عن كل اتصال بالحياة العامة وأخبارها، وفي منع كامل من الاجتماع بالناس وقراءة الصحف والاستماع للإذاعة.. فإن اتصالي المعنوي بروح التطور الوطني في البلاد ظل قويًا فعالًا".
ويوضح سعد الدين العثماني، في مداخلة ضمن برنامج "مذكّرات"، أنه في عام 1937 اعتُقل علال الفاسي إلى جانب عدد من الشباب الآخرين، ما يعني أن تلك الحركية الشبابية والطلابية أزعجت سلطات الحماية الفرنسية، فلجأت إلى اعتقال الكثير منهم ونفي آخرين.
وحين زار الجنرال ديغول؛ الكونغو عام 1941، تحدث مرافقيه إلى علال الفاسي، وحاولوا إقناعه بضرورة استمرار المساعدة الفرنسية للمغرب، ورفض علال الفاسي ذلك بشدة.
وثيقة الاستقلال
ونتيجة لذلك، تأخر إطلاق سراحه. وعلى الناحية الأخرى؛ قام أحمد بلافريج وزملاؤه بإحياء الحزب الوطني المنحل تحت اسم "حزب الاستقلال" وتم الإعلان عن تأسيس الحزب بتقديمه في 11 يناير/ كانون الثاني 1944 مع بيان الاستقلال.
ويشرح باقة أنه عندما تقدّم الاستقلاليون وأعضاء الحركة الوطنية بوثيقة 11 يناير 1944، كان الفاسي لا يزال في منفاه بالغابون. ومن هناك راسل الحكومة الفرنسية مطالبًا بالاستقلال، في الوقت الذي كان فيه المغاربة داخل الوطن يطالبون بالأمر نفسه، من دون أي تنسيق مسبق.
وبعد عودة علال الفاسي من المنفى عام 1946 ودخوله إلى مدينة فاس، اطّلع على عريضة المطالبة بالاستقلال وصدّق عليها.
وبدأ علال نشاطه كزعيم لحزب الاستقلال وتدعيم الحركة النقابية في فاس والدار البيضاء وبني ملال وأغادير.
ثمّ سافر إلى فرنسا. وخلال إقامته بباريس كانت عبارة عن عقد اجتماعات وندوات ومحاضرات واتصالات بالشخصيات العربية والفرنسية وغيرها، بهدف إقناع الفرنسيين بضرورة إعلان استقلال المغرب مذكرًا إياهم بمبادئ حقوق الإنسان التي نادت بها الثورة الفرنسية سنة 1789.
ويشرح مولاي محمد خليفة، عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، أنه عندما رجع علال الفاسي إلى المغرب وجد أن حزبه، الذي أصبح يُعرف باسم "حزب الاستقلال"، هو الذي يقود الحركة الوطنية، وهو الذي قدّم وثيقة الاستقلال.
وبحسب سعد الدين العثماني، فإن الفاسي، من خلال المؤتمرات التي شارك فيها والمقالات التي نشرها، كان يعكس فكرًا سياسيًا يشرح الواقع السياسي ويقترح الحلول للخروج من الأزمة.
أمّا سعيد بنسعيد فأشار إلى أن الفاسي رأى أن الحركة الوطنية المغربية نشأت كرد فعل، لكنها كانت تشكو من غياب النظرية.
تدويل قضية المغرب العربي
وفي عام 1947، سافر علال الفاسي إلى القاهرة، حيث عمل على تدويل قضية المغرب العربي. والتقى في القاهرة بالأمير عبد الكريم الخطابي الذي أسّس لجنة تحرير المغرب العربي في يناير/ كانون الثاني 1948. وتمّ انتخاب علال الفاسي كاتبًا عامًا للجنة، ثم أمينًا عامًا للجنة، لتتحول القاهرة إلى عاصمة عربية ومغاربية حقيقية.
وفي أواخر سنة 1948، عاد علال إلى المغرب واستقرّ بطنجة وهناك كان يوجه حزب الاستقلال، لكن في سنة 1951 عاد علال إلى القاهرة ليستكمل نضاله.
نداء القاهرة
وحين اعتقلت السلطات الفرنسية الملك محـمد الخامس عام 1953، ونفته إلى جزيرة كورسيكا، انتفض علال الفاسي، وألقى ندائه الشهير من إذاعة القاهرة الذي عرف لاحقًا بـ "نداء القاهرة" ودعا فيه إلى النضال المسلّح ضدّ الاستعمار الفرنسي بالمغرب.
وبحسب سعد الدين العثماني، كان الفاسي يوجه الخطب والكلمات التي تحفز على الثورة ضد الاستعمار، وعلى دعم استقلال المغرب.
وبعد استقلال المغرب عام 1956؛ عاد الفاسي من القاهرة عبر جنيف نحو مدينة مدريد وصولا إلى طنجـة التي استقبل فيها استقبالًا حارًا من طرف الجماهير، حيث انتقد اتفاقية استقلال المغرب واعتبره استقلالًا منقوصًا ومغشوشًا.
وكتب الفاسي في كتاب "النقد الذاتي": "لقد سجنا وعذبنا في سبيل الاستقلال فيجب أن نفكر تفكيرًا استقلاليًا يشمل كل جوانب التحرر من السيطرة الأجنبية علينا وعلى أي جزء من أجزاء بلادنا".
ويقول عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال مولاي محمد خليفة: " الفاسي كان مؤمنًا بأن الانتصار بين يديه وبأن استقلال البلاد سيتحقق، وبأنه بعد تحقيق الاستقلال يجب أن لا نخطئ الطريق".
بناء المغرب بعد الاستقلال
وبعد تحقيق الاستقلال، تفرغ الفاسي لمهمة بناء المغرب المستقل من خلال مشاركة حزبه في مختلف الحكومات، لكن الحـزب تعرّض لأزمة انشقاق نتيجة أزمة حكومية. واستطاع علال الفاسي بشخصيته وصموده بأن يحفظ للحـزب شعبيته ومكانته بعدما أخرجه من هذه الأزمة التي كادت أن تعصف به، وهذا ما سمح له بأن يتم انتخابه علـى رأس الحزب عدة مرات وبالإجماع خلال سنوات 1960 و1962 و1965 و1967.
وتولى علال الفاسي وزارة الدولة للشؤون الإسلامية عام 1961. وفي عام 1962 اختير الفاسي عضوًا في أول مجلس لإعداد الدستور، ومال أغلب الأعضاء لانتخاب علال رئيسًا له، لكن بسبب المعارضة أُجهِض هذا المجلس. ثم أسس الملك الحسن الثاني لجنة أخرى لصياغة الدستور؛ وترأسها الملك بنفسه، وكان من بين أعضائها؛ علال الفاسي، وقدم الملك مشروع الدستور الذي تداولته اللجنة معه، وأبدت رأيها في كل بند من بنوده حتى تم على الصيغة التي عُرض عليها على الشعب للاستفتاء، والذي قال كلمته بالموافقة بالأغلبية على الدستور.
ويقول مدير مؤسسة علال الفاسي مختار باقة: "إن الفاسي دافع على قضية دسترة البلاد وكان يعتبر أن المغرب لا يصلح له إلا ملكية دستورية".
وكتب الفاسي في كتاب "النقد الذاتي": "إن حياة بغير حرية لهي الموت المحض، وإن وجودًا من غير فكر حر لهو العدم، وإن مدنية لا تقوم على التحرر والتبصر لهى الوحشية الأولى، ولو كانت فى أحدث طراز".
وفي أول يناير/ كانون الثاني 1963، استقال علال الفاسي من منصب وزير الدولة للشؤون الإسلامية مع ممثلي حزب الاستقلال، لأنه عارض توجيهات الحكومة الاقتصادية، ورفض لهذا السبب أن تسند الوزارات الاقتصادية لغير أعضاء حزب الاستقلال.
وفي هذا الإطار، يشير مدير مؤسسة علال الفاسي مختار باقة إلى أن الفاسي كان يترفع المناصب وتهمه مصلحة البلاد.
مؤلفات أثرت المكتبة العربية
ورغم انشغاله بالنضال السياسي، استطاع علال الفاسي أن يثري المكتبة العربية بشكل عام، والمغربية بشكل خاص بالعديد من المؤلفات، والتي تزيد على الثلاثين في مجالات مختلفة، بالإضافة إلى مئات المحاضرات والمقالات والمذكرات والخطب السياسية والقصائد الشعرية، ومن أبرز مؤلفاته: "النقد الذاتي"، و"مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها"، و"دفاع عن الشريعة"، و"الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، و"صحراء المغرب المغتصبة"، و"الإسلام وتحديات العصر".
هو مناضل سياسي وزعيم ومفكر وطني كبير، عاش حياته كلها دون أن يتوانى لحظة عن المطالبة بالحرية والاستقلال.
وفي رحلته الأخيرة، زار الفاسي عددًا من الدول العربية ثم زار رومانيا. كان في تلك الرحلة يدعو العرب والعالم للاهتمام بالصحراء المغربية لأن وحدة المغرب لم تكن تقل عنده عن الاستقلال، حيث ظل يعتبر الاستقلال منقوصًا وتحدث عن فلسطين، لأنه يعتبر احتلال فلسطين بداية المخطط الاستعماري للقضاء على بلاد العروبة والإسلام.
وكان لا يزال يناضل حتى أسلم الروح في مايو/ أيار من عام 1974، في العاصمة الرومانية بوخارست، وهو في مهمة دبلوماسية على رأس وفد من حزب الاستقلال.
ويقول عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، مولاي محمد خليفة، في برنامج "مذكّرات": "لا نزال نشعر بأنه يعيش حيًّا بيننا. وكما قالت عنه الثورة الفلسطينية على لسان أحد قادة حركة فتح: إن الناس عندما يموتون يأخذون شهادة وفاة، لكن علال الفاسي أخذ شهادة ميلاد جديدة عندما توفي".