على سطح مقرّ إدارة الخدمات العامة (GSA)، اكتشف أحد الموظفين مؤخرًا شيئًا غريبًا، هو عبارة عن جهاز مستطيل الشكل متّصل بسلك يمتدّ عبر السطح، ويتجاوز الحافة ويدخل إلى نافذة المدير في الطابق السفلي.
ولاحقًا، اكتشف الموظف المُتخصّص في تكنولوجيا المعلومات، أنّ الجهاز كان جهاز إرسال واستقبال يتّصل بشبكة "ستارلينك" الفضائية الخاصّة والواسعة النطاق التابعة لإيلون ماسك.
وخوفًا من انتهاك الجهاز للقوانين الفيدرالية المُصمّمة لحماية البيانات العامة، أبلغ الموظفون رؤسائهم وهيئة الرقابة الداخلية في الوكالة بهذا الاكتشاف.
وأثارت معدّات "ستارلينك" مجموعة من الأسئلة بشأن ما يفعله ماسك ومسؤولو الكفاءة التابعون له في إدارة الخدمات العامة، وهي وكالة غامضة تلعب دورًا كبيرًا في سعي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى خفض التكاليف وإخضاع الحكومة الفيدرالية.
ما هي إدارة الخدمات العامة؟
تُشرف إدارة الخدمات العامة على العديد من معاملات العقارات الأميركية، حيث تُحصّل وتدفع الإيجارات نيابةً عن جميع الوكالات الفيدرالية تقريبًا.
كما تُساعد في إدارة عقود فيدرالية بمليارات الدولارات، وتُساعد الوكالات الأخرى في بناء مواقع إلكترونية وأدوات رقمية أفضل للمواطنين.
وقال ستيفن شونر، أستاذ القانون بجامعة جورج واشنطن والمتخصص في العقود الحكومية لوكالة "أسوشييتد برس"، إنّ هذا الأمر بالغ الأهمية لأنّه "يُمثّل نقطة اختناق لجميع الوكالات"، مضيفًا: "بإمكان الإدارة منع جميع الوكالات المدنية من الشراء".
وفي بيان صدر أوائل شهر مارس/ آذار الماضي، قالت إدارة الخدمات العامة إنّها تُخطّط للتخلّص من "الأصول غير الأساسية"، مرحّبة بـ"الحلول الإبداعية، بما في ذلك إعادة استئجار العقارات المباعة من مشتريها، وإيجارات الأراضي، وأشكال أخرى من الشراكات بين القطاعين العام والخاص".
وتُعدّ إدارة الخدمات العامة جزءًا أساسيًا من جهود ماسك المعلنة لخفض مليارات الدولارات من الإنفاق الفيدرالي. ويشغل أشخاص تربطهم علاقات برائد الأعمال أو شركاته مناصب رئيسية في الوكالة.
فمُديرها بالإنابة هو ستيفن إيهيكيان، المسؤول التنفيذي في مجال التكنولوجيا من وادي السيليكون، ويتمتع بخبرة في إطلاق أدوات الذكاء الاصطناعي، بينما عملت زوجته سابقًا مع ماسك في شركته للتواصل الاجتماعي "إكس".
كما يُدير مهندس في شركة "تيسلا" للسيارات الكهربائية المملوكة لماسك، قسم التكنولوجيا في هيئة الخدمات العامة. ويُساهم أحد مساعدي ماسك في قيادة جهود تقليص حجم القطاع العقاري الحكومي.
ويبلغ عدد موظفي الإدارة 12 ألف موظف.
ويسعى ايهيكيان إلى توسيع نطاق أتمتة العديد من وظائف الإدارة من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي. وقال في اجتماع مع موظفيه الشهر الماضي: "تُمثل هذه الوكالة العمود الفقري لعمليات الحكومة الفيدرالية. لدينا تأثيرٌ فعلي على مهام الإدارة الحالية، والتي تُركّز على الكفاءة".
وتقود نيكول هولاندر، مستشارة أخرى مقربة من ماسك، مبادرة التخلّص من أعباء الحكومة. ويتولّى زوجها ستيف ديفيس، القيادة الفعلية لدائرة كفاءة الحكومة، المُستوحاة من ماسك.
ووفقًا لموقع "لينكدإن"، درست هولاندر إدارة الأعمال والعقارات في جامعة جورج واشنطن، وتعمل مديرة عقارات مرخّصة في واشنطن، وموظفة لدى شركة "إكس" منذ عام 2023.
تفريغ عقارات الدولة
في أوائل شهر مارس الماضي، أصدر قسم العقارات في إدارة الخدمات العامة قائمة بمئات العقارات المملوكة أو المستأجرة للحكومة، والتي كان يسعى إلى بيعها في عجلة من أمره.
وأثارت القائمة انتقادات لاذعة من الديمقراطيين ومنظّمات المجتمع المدني، لاقتراحها بيع مقرّ وزارة العدل، وضمّها منشأة واحدة على الأقل غير مُعلنة تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية. وعلى الإثر، سارعت إدارة الخدمات العامة إلى سحب القائمة.
لكن ذلك، لم يُعق عملية البيع السريعة التي أجرتها وزارة الكفاءة الحكومية.
ففي العرض التقديمي الذي اطلعت عليه وكالة "أسوشيتد برس"، قال إيهيكيان إنّ الشركة ألغت أكثر من 680 عقد إيجار، وأدرجت أو باعت 32 عقارًا على الأقل بقيمة 185 مليون دولار، بينما ألغت عقودًا بأكثر من 50 مليار دولار".
أما هولاندر فتعمل خلف الكواليس، إذ نادرًا ما تظهر في الاجتماعات التي تعقدها الإدارة مع موظفيها على "زووم".
وتُظهر وثائق حصلت عليها وكالة "أسوشييتد برس" أنّ اسمها عُدّل على جداول البيانات التي تُنشئها، واستُبدل باسم "قيادة إدارة الخدمات العامة" (GSA) الأكثر عمومية.
وأظهرت نسخ من الدعوات لفعاليات مُدرجة في جدول أعمال هولاندر وحصلت وكالة أسوشيتد برس عليها، أنّ هولاندر عقدت عدة اجتماعات مع شركات عقارية وخدماتية تجارية، بما في ذلك شركة وساطة وشركة استشارات عقارية تُساعد الشركات على ترشيد استهلاك مساحاتها. كما عقدت اجتماعات مع اتحاد شركات تكنولوجيا في واشنطن.
وليست هذه المرة الأولى التي تقود فيها هولاندر حملة لخفض التكاليف لصالح ماسك. وزعمت دعوى قضائية رفعها موظفون مفصولون من تويتر عام 2023، أنّ هولاندر وديفيس كانا جزءًا من "مجموعة من المُنافقين" الذين كانوا مُتحمّسين للغاية لتطبيق إصلاحات ماسك الشاملة لشركة التواصل الاجتماعي.
وزعمت الدعوى أنّ الزوجين بناءً على أوامر رئيسهما، تحايلوا على قوانين البناء والسلامة في سان فرانسيسكو، وتجاهلوا التزامهما بدفع مستحقات البائعين والملاك، وقلّصوا حجم عملهم دون مراعاة الاضطرابات التي تسبّبوا فيها للموظفين أو العملاء.
كما زعمت الدعوى القضائية أنّ الزوجين كانا يعيشان في مقر شركة "تويتر" مع طفلهما البالغ من العمر شهرًا واحدًا. ويبدو أنّ هذا النمط يتكرّر في إدارة الخدمات العامة، حيث قامت هولاندر بتركيب أسرّة أطفال في الطابق السادس من الوكالة، وفقًا للموظفين.
وتقدّم محامو ماسك و"إكس" بطلب رفض الدعوى، بحجة أنّ المحكمة الفيدرالية في ديلاوير تفتقر إلى الاختصاص، وأنّ الدعوى لا أساس لها من الناحية القانونية.
"التحرّك بسرعة وإجراء التغييرات"
كما عمل الموظف توماس شيد، الذي عيّنته إدارة ترمب في هيئة الخدمات العامة (GSA)، لدى ماسك في شركة "تيسلا". وبعد فترة وجيزة من توليه إدارة وحدة التكنولوجيا في الهيئة، أخبر شيد موظفيه أنّ الهدف هو "التحرك بسرعة وإجراء تغييرات"، وفقًا لنص الاجتماع الذي عُقد في فبراير وحصلت عليه وكالة أسوشييتد برس.
وسرعان ما بدأ شيد يُطالب بالوصول إلى الأنظمة الحسّاسة، التي تُمكّن الجمهور من التواصل أو التفاعل مع الخدمات الحكومية، وفقًا للموظفين الذين تحدّثوا إلى وكالة أسوشييتد برس بشرط عدم الكشف عن هويتهم.
ووفقًا لموقع "404 ميديا"، أثار طلب شيد معارضة من موظفي إدارة الخدمات العامة الحاليين، حيث استقال أحد الموظفين عوضًا عن منح شيد حقّ الوصول.
كما أخبر شيد موظفيه برغبته في دمج جميع العقود الحكومية في قاعدة بيانات مركزية لتسهيل تحديد العقود التي يجب إلغاؤها، وفقًا لنص الاجتماع. ولم يتّضح بعد ما إذا كان قد حقق هذا الهدف.
وسعى شيد ومسؤولون آخرون في إدارة الخدمات العامة، إلى الاعتماد بشكل أكبر على الذكاء الاصطناعي.
وفي مارس الماضي، قُدِّم للموظفين عرض توضيحي لبرنامج دردشة داخلي جديد يعمل بالذكاء الاصطناعي، مُصمَّم لتحديد العقود والعقارات التي يُمكن إلغاؤها بسرعة أكبر.
وتردّدت الوكالات الحكومية مثل إدارة الخدمات العامة، في استخدام الذكاء الاصطناعي بهذه الطرق بسبب مخاوف تتعلّق بأمن البيانات والخصوصية، وفقًا لمسؤولين حاليين وسابقين.
ما علاقة ستارلينك؟
ليس من المعروف ما هو الدور الذي تلعبه "ستارلينك" في التطوّر التكنولوجي لإدارة الخدمات العامة.
على سطح إدارة الخدمات العامة، عثر الموظفون على جهازي إرسال واستقبال على الأقل، أحدهما مزوّد بسلك ممتد إلى مكتب المدير. ولم يتّضح سبب استخدام الوكالة لشبكة "ستارلينك".
وتوفّر هذه الشبكة خدمة الإنترنت، لكنّها غير معتمدة للاستخدام في معظم أنظمة الكمبيوتر الحكومية.
وأعرب موظفو تكنولوجيا المعلومات الذين أبلغوا رؤسائهم بما اكتشفوه، عن قلقهم من أنّ الأجهزة غير مصرّح باستخدامها في إدارة الخدمات العامّة، وأنّ وزارة الدفاع ربما تستخدمها لسرقة بيانات الوكالة، وفقًا لرسائل البريد الإلكتروني الداخلية التي حصلت عليها وكالة أسوشييتد برس وموظف في الإدارة تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته.
وفتح موظفو تكنولوجيا المعلومات في هيئة الخدمات العامة تحقيقًا لمعرفة ما إذا كانت هذه الأجهزة تُشكل تهديدًا أمنيًا. كما قدّم أحد الموظفين شكوى إلى المفتش العام للهيئة، وفقًا لرسائل البريد الإلكتروني. ولم يتسن تحديد مصير هذه التحقيقات.
وحصلت وكالة أسوشييتد برس على صور التقطها موظف في إدارة الخدمات العامة، لأجهزة الإرسال والاستقبال. وأكد موظف في الوكالة باستخدام عدسة مقربة، وجود سلك يمتد من السطح إلى نافذة إلى مكتب المدير.
وذكرت قناة "إن بي سي"، أنّ العديد من موظفي وزارة الطاقة الأميركية العاملين في إدارة الخدمات العامة قد بدأوا باستخدام أجهزة "ستارلينك" في فبراير.
ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه هي الأجهزة نفسها التي أحالها موظفو تكنولوجيا المعلومات للتحقيق في مارس.
وأكد متحدث باسم إدارة الخدمات العامة وجود أجهزة إرسال واستقبال "ستارلينك"، لكنّه قال إنّها غير متّصلة "بالشبكة الداخلية لإدارة الخدمات العامة، وليس هناك أي خرق أمني".
بالنسبة للعديد من الموظفين المؤسسين السابقين في الوكالة، فإن المفارقة في نهج وزارة الكفاءة في التعامل مع إدارة الخدمات العامة هي أنّها تُعرّض إحدى مهام الوكالة القديمة للخطر، ألا وهي: تحسين كفاءة الحكومة.
على سبيل المثال، كان هناك مركز استشاري ركّز خلال إدارة ترمب الأولى على تحسين الخدمات الحكومية، وخاصةً تلك التي تعتمد على التكنولوجيا. لكن في الأسابيع الأولى من ولاية ترمب الثانية، تمّ تقليص عدد أفراق المركز.
ودافع شيد عن هذه الخطوة، قائلًا للموظفين في اجتماع إنّ الفريق أُقصي لأنّ عمله لم يكن فعالًا من حيث التكلفة، وفقًا لنص تصريحاته.
كما أن أي خفض في عدد الموظفين، قد يُعرّض قدرة الحكومة على مراقبة العقود للخطر، بمجرد إصدارها بهدف الحفاظ على انخفاض التكاليف.
وحيّرت مثل هذه القرارات أولئك الذين تابعوا عمل إدارة الخدمات العامة.
وفي هذا الإطار، وصفت أميرة بولاند وهي عالمة سلوك في إدارة الخدمات العامة خلال إدارة ترمب الأولى، بعض التخفيضات التي أجرتها وزارة الكفاءة بـ"المتهورة".
وقالت بولاند: "من المؤكد أنّ هناك بيروقراطية تحتاج إلى القضاء عليها، ولكن عليك أن تعرف المخاطر التي تلعب بها".