تعدّ الصحة النفسية أساسية لحياة متوازنة، وهي لا تقلّ أهمية عن الصحة الجسدية. ويتجاوز مفهوم الصحة النفسية مجرّد غياب الاضطرابات، ليشمل قدرة الفرد على التكيّف مع أحداث الحياة، والعمل بإنتاجية، وتحقيق إمكاناته الكاملة، والمساهمة في مجتمعه.
ونظرًا لأهمية تعميق الوعي بالصحة النفسية، خصّصت الأمم المتحدة يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام يومًا عالميًا للصحة النفسية.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن الصحة النفسية حالةٌ من العافية تمكّن الأفراد من مواجهة ضغوط الحياة، وتنمية قدراتهم، والتعلّم الجيد والعمل بكفاءة، والمساهمة في مجتمعاتهم. وهي جزء لا يتجزّأ من الصحة والرفاه، وتدعم قدرات الإنسان الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات وبناء العلاقات وتشكيل العالم الذي نعيش فيه.
كذلك تُعَدّ الصحة النفسية حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، وهي ركنٌ لازمٌ للتنمية الشخصية والمجتمعية والاقتصادية والاجتماعية، وفق المنظمة.
وبحسب موقع "ميدلاين بلاس"، تُعدّ الصحة النفسية مهمّة في كل مرحلة من مراحل الحياة، من الطفولة والمراهقة إلى البلوغ والشيخوخة.
الصحة النفسية في حالات الطوارئ الإنسانية
هذا العام، تُركّز منظمة الصحة العالمية على الحاجة المُلحّة لدعم الصحة النفسية والاحتياجات النفسية والاجتماعية للأشخاص المتضررين من حالات الطوارئ الإنسانية.
فالأزمات، مثل الكوارث الطبيعية والنزاعات وحالات الطوارئ الصحية العامة، تُسبّب ضائقة نفسية، إذ يُعاني واحد من كل خمسة أفراد من مشكلة في الصحة النفسية، وفق المنظمة.
وتذكر منظمة الصحة العالمية أنه في حالات النزاع المسلّح "يعاني نحو 10% من الأشخاص الذين يتعرّضون لأحداث صادمة من مشاكل صحية نفسية خطيرة، بينما تطرأ لدى 10% آخرين اضطرابات تؤثّر في قدرتهم على العمل بفعالية". ويُعدّ الاكتئاب والقلق والاضطرابات النفسية الجسدية كالأرق من أكثر الآثار شيوعًا.
النزاعات والحروب
وبحسب جامعة يوتا الأميركية، يقول ستيف سوغدن، الطبيبُ العقيد في قوات الاحتياط بالجيش الأميركي والطبيب النفسي في معهد هانتسمان للصحة النفسية: "إن الآثار طويلة المدى للصدمات النفسية كبيرة". وسوغدن خبيرٌ في كيفية تأثير الصدمات على الصحة النفسية.
ويُركّز على ثلاث فئات سكانية مُعرّضة لعواقب سلبية أثناء النزاعات والحروب: المدنيون داخل الدولة المستهدفة، والجنود من طرفَي النزاع، بالإضافة إلى أولئك الذين يتابعون صورًا ومقاطع فيديو وتسجيلاتٍ صوتية للحرب عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي والتلفزيون والراديو والإنترنت.
وتنقل جامعة يوتا عن سوغدن قوله:
"إنه من المثير للدهشة أن المدنيين في خضمّ النزاع هم الفئة الأقلّ تأثرًا بالصدمات النفسية، ومع ذلك قد تكون آثارها كبيرة".
وقد يُعزى انخفاض التأثّر النسبي لدى بعض المدنيين إلى القدرة على التواصل الفوري مع شبكتهم الاجتماعية ومعالجة مشاعرهم، بما يعزّز المرونة.
وتولّد الحروب والنزاعات والكوارث الطبيعية موجات من النزوح. ويواجه المهاجرون واللاجئون ضغوطًا متعدّدة طوال رحلتهم، بدءًا من الصراع والنزوح وصولًا إلى الرحلات الخطِرة وتحدّيات الاندماج في البلدان المضيفة.
وبحلول نهاية عام 2024، بلغ عدد النازحين قسرًا حول العالم أكثر من 123 مليون شخص. وتستضيف البلدانُ المنخفضةُ والمتوسطةُ الدخل نسبةً هائلة تبلغ 71% منهم، فيما تعاني أنظمة الرعاية الصحية أصلًا من ضغوط شديدة. وعادةً ما تكون إمكانية الحصول على خدمات الصحة النفسية محدودة للغاية في هذه البيئات.
الظروف الاجتماعية والاقتصادية
كلُّ شخصٍ، أينما وُجد، مُعرّض لخطر الإصابة باضطرابٍ في الصحة النفسية، بغضّ النظر عن العمر أو الجنس أو الدخل أو الأصل العرقي.
ويمكن للظروف الاجتماعية والمالية وتجارب الطفولة السيئة والعوامل البيولوجية والحالات الطبية أن تزيد قابلية التعرّض لمشاكل الصحة النفسية.
كما يرفع التعرّض لظروف اجتماعية واقتصادية وجيوسياسية وبيئية غير مواتية، بما في ذلك الفقر والعنف وعدم المساواة والحرمان البيئي، من خطر الإصابة بمشاكل الصحة النفسية.
وبحسب "ميديكال نيوز توداي"، قد تزيد محدودية الموارد المالية أو الانتماء إلى جماعاتٍ مُهمَّشة من خطر اضطرابات الصحة النفسية نتيجةً للتحيّزات في الرعاية الصحية.
وقد وصفت دراسة إيرانية أجريت عام 2015 أسبابًا اجتماعية واقتصادية لحالات اعتلال الصحة النفسية، من بينها الفقر والعيش في ضواحي المدن الكبرى.
ووصَف الباحثون أيضًا عوامل مرنة قابلة للتعديل، وأخرى غير مرنة غير قابلة للتعديل، يمكن أن تؤثّر في توافُر وجودة علاجات الصحة النفسية لفئات معيّنة.
وتشمل العوامل القابلة للتعديل لاضطرابات الصحة النفسية ما يلي:
-
الظروف الاجتماعية والاقتصادية، مثل توفّر فرص العمل في المنطقة المحلية
-
المهنة
-
مستوى المشاركة الاجتماعية للفرد
-
التعليم
-
جودة السكن
أمّا العوامل غير القابلة للتعديل فهي:
-
الجنس
-
العمر
-
الأصل العرقي
-
الجنسية
كما وجد الباحثون أن خطر تراجُع حالة الصحة النفسية يرتفع بنحو أربعة أضعاف لدى الإناث. وسجّل الأشخاص ذوو "الوضع الاقتصادي الضعيف" أعلى معدّلات الاعتلال على مؤشرات الصحة النفسية في هذه الدراسة.
تأثير صدمات الطفولة
تشير دراساتٌ عديدة إلى أن صدمات الطفولة، مثل إساءة معاملة الطفل وفقدان أحد الوالدين أو انفصالهما ومرضهما، تؤثّر تأثيرًا كبيرًا في الصحة النفسية والجسدية للطفل في مرحلة النمو.
وهناك ارتباطٌ بين إساءة معاملة الأطفال وأحداثٍ سلبية أخرى واضطرابات الصحة النفسية، إذ تجعل التجاربُ السيئة خلال الطفولة الأفرادَ أكثر عُرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة.
العوامل البيولوجية
يلفت المعهد الوطني للصحة العقلية (NIMH) إلى أن التاريخ العائلي قد يزيد من احتمالية الإصابة باضطرابات الصحة العقلية، إذ إن جيناتٍ ومتغيّراتٍ جينيةً محدّدةً قد ترفع مستوى الخطر. ومع ذلك، فإن وجود جينٍ مرتبطٍ باضطرابٍ نفسي لا يضمن بالضرورة تطوّر الحالة.
وبالمثل، قد يُصاب أشخاصٌ لا يملكون جيناتٍ ذات صلة أو تاريخًا عائليًا باضطرابات الصحة العقلية باضطرابٍ نفسي.
وقد يتطوّر التوتّر المزمن وبعضُ الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب والقلق، نتيجةً لمشاكل صحية جسدية كامنة، كالسّرطان والسكّري والألم المزمن.
أنواع اضطرابات الصحة النفسية
يُصنّف أخصائيو الرعاية الصحية اضطراباتِ الصحة النفسية وفقًا لخصائص مشتركة، وتشمل:
-
اضطرابات القلق، وهي الأكثر شيوعًا بحسب الجمعية الأميركية للقلق والاكتئاب، وتشمل نوبات الهلع والرُّهاب (الفوبيا) واضطراب الوسواس القهري.
-
اضطرابات المزاج، وتُسمّى أيضًا الاضطرابات العاطفية أو اضطرابات الاكتئاب. ويعاني المصابون بها تقلّباتٍ مزاجيةً ملحوظة، قد تشمل الهوس (فترةً من النشاط والفرح) أو الاكتئاب. وتشمل هذه الاضطرابات: الاكتئاب الشديد، والاضطراب ثنائي القطب حيث يمرّ الشخص بتغيّرات غير عادية في مزاجه ومستويات طاقته ونشاطه وقدرته على مواصلة حياته اليومية. كما يُعدّ الاضطراب العاطفي الموسمي أحد اضطرابات المزاج، إذ يُحفّز انخفاض ضوء النهار خلال أشهر الخريف والشتاء وأوائل الربيع هذا الاضطراب، وهو أكثر شيوعًا في البلدان البعيدة عن خط الاستواء.
-
اضطرابات الفُصام، وهي مجموعة من الاضطرابات التي تتميّز بخصائص الذُّهان وأعراضٍ حادّة أخرى.
كيف يمكن الحفاظ على الصحة النفسية؟
هناك طُرقٌ عديدة لتحسين الصحة النفسية، من بينها:
1. الحفاظ على الإيجابية
من المهم التحلّي بنظرةٍ متوازنة عبر تحقيق توازنٍ بين المشاعر الإيجابية والسلبية. والبقاء إيجابيًا لا يعني عدم الشعور بالمشاعر السلبية كالحزن أو الغضب؛ بل ينبغي الإحساس بها لتجاوز المواقف الصعبة. فهي تساعد على مواجهة المشكلة، لكن لا ينبغي أن تسيطر. لذا لا يفيد الاستغراق في استرجاع أحداث الماضي السيئة أو القلق المُفرِط بشأن المستقبل.
ومن الضروري أخذُ استراحةٍ من سيل المعلومات السلبية؛ لذا يجدر بالفرد أن يعرف متى يتوقّف عن مشاهدة أو قراءة الأخبار. كما ينبغي الحذرُ عند استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لطلب الدعم والشعور بالتواصل مع الآخرين، دون الانخداع بالشائعات أو الدخول في جدالات، أو مقارنة الحياة بالآخرين على نحوٍ سلبي.
2. ممارسة الامتنان
تساعد ممارسةُ الامتنان في تحسين الصحة النفسية، أيْ أن يكون الفردُ شاكرًا للأشياء الجيدة في حياته.
فالامتنان يغيّر زاوية النظر إلى الحياة. فعندما يكون المرء متوترًا قد لا يلحظ لحظاتٍ إيجابية عابرة، لكن الامتنان يساعده على إدراكها.
3. العناية بالصحة الجسدية
يشير "ميدلاين بلاس" إلى الترابط الوثيق بين الصحة الجسدية والنفسية. ويُعَدّ اعتماد نظام غذائي متوازن أمرًا أساسيًا للتحسّن الجسدي، كما يمكنه تحسين المزاج وتقليل القلق والتوتر.
وقد يسهم نقص بعض العناصر الغذائية في بعض الاضطرابات النفسية؛ فعلى سبيل المثال هناك صلةٌ محتملة بين انخفاض مستويات فيتامين بـ12 والاكتئاب. ويساعد اتّباعُ نظامٍ متوازن على الحصول على ما يكفي من العناصر التي يحتاجها الجسم.
وإلى جانب الغذاء الصحي، يُعَدّ النشاط البدني ركنًا من أركان الصحة؛ فممارسةُ الرياضة قد تقلّل من مشاعر التوتر والاكتئاب وتحسّن المزاج.
كما يُنصَح بالحصول على قسطٍ كافٍ من النوم؛ فالنوم يؤثّر في المزاج، وقد يزيد تقليلُ ساعاته من احتمالية الإصابة بالاكتئاب. لذلك، من المهمّ انتظامُ أوقات النوم والحصولُ على قسطٍ وافٍ منه كلّ ليلة.
4. التواصل مع الآخرين
لأنّ البشر كائناتٌ اجتماعية، فمن المهم بناءُ علاقاتٍ قويّة وصحيّة. فالدعم الاجتماعي الجيد يحمي من أضرار التوتر. ولا ينبغي أن يقتصر التواصل على أفراد العائلة والأصدقاء؛ بل يشمل أيضًا الانخراطَ في المجتمع من خلال التطوّع في منظماتٍ محلية أو الانضمام إلى أنشطةٍ رياضية أو ترفيهية.
كما تساعد تنميةُ مهارات التأقلم على التعامل مع المواقف العصيبة والتحلّي بالمرونة، وعدم الاستسلام بسهولةٍ في مواجهتها.
5. التأمّل
التأمّل ممارسةٌ عقليةٌ وجسدية تعزّز تركيز الانتباه والوعي. ويشمل ذلك تأمّل اليقظة والتأمّل التجاوزي في مكانٍ هادئ مع وضعيّة جلوسٍ مريحةٍ ومحدّدة.
كما يُسهم التخيلُ المُوجّه في دعم الصحة النفسية، إذ يتعلّم الفرد عبره التركيزَ على صورٍ إيجابية في الذهن، ما يساعد على مزيدٍ من الاسترخاء والتركيز.
6. ممارسة تقنيات الاسترخاء
تحفّز تقنياتٌ معينة استجابةَ الجسم الطبيعية للاسترخاء؛ فهي تُبطئ التنفّس وتخفض ضغط الدم وتخفّف من توتّر العضلات وإجهادها. وتشمل:
-
الاسترخاء التدريجي، حيث تُشدّ وتُرخى مجموعاتٌ عضلية مختلفة، أحيانًا باستخدام التخيل الذهني أو تمارين التنفّس.
-
التنويم الذاتي، والهدفُ منه إدخال النفس في حالة استرخاءٍ عميقة عند سماع اقتراحٍ معيّن أو رؤية إشارةٍ محدّدة.
-
تمارين التنفّس العميق، وتتضمّن التركيز على أنفاسٍ بطيئةٍ وعميقةٍ ومنتظمة.