مع دخول العدوان الإسرائيلي على إيران يومه الرابع الإثنين الماضي، دقّ المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" فيليب لازاريني، ناقوس الحذر: يجب ألا تنسى الناس المآسي في غزة.
يقول لازاريني إن المآسي تتواصل في قطاع غزة بلا هوادة بينما يتحول الانتباه إلى أماكن أخرى. والصورة بالغة القتامة بحسب ما ما يرى مفوّض وكالة الغوث السويسري-الإيطالي، فالعشرات قتلوا في غزة وأصيبوا في الأيام القليلة الماضية، من بينهم من يتضوّر جوعًا وكان يسعى للحصول على طعام في ظل نظام توزيع مساعدات قاتل.
ويخلص المفوض العام للأونروا: "لقد آن الأوان لتحقيق سلام دائم في غزة وفي أنحاء المنطقة كلها".

يبدو نداء لازاريني صرخة في الفراغ، فبينما يشتد تبادل القصف بين تل أبيب وطهران، وهما من أقوى دول الإقليم عسكريًا وتمتلكان ترسانتي أسلحة مميتة على نطاق واسع، فإن عدد قتلى الحرب بينهما لا يكاد يذكر بالمقارنة مع أعداد الشهداء في قطاع غزة بالقصف الإسرائيلي، الذي لم يتوقف رغم انخراط تل أبيب في حرب مدمرة مع طهران.
وبلغ عدد القتلى في إسرائيل جرّاء القصف الإيراني الذي بدأ الجمعة ردًا على هجمات إسرائيلية استهدفت المنشآت النووية الإيرانية وقادة في الحرس الثوري وعلماء نووين، نحو 27 شخصًا بحسب ما أعلن مسؤول إسرائيلي عصر الإثنين الماضي.
تهاجم في إيران وتقتل في غزة
أما في إيران فقد وصل عدد القتلى خلال أربعة أيام من الحرب إلى 224، وفقًا لمتحدث باسم وزارة الصحة الإيرانية التي قالت إن 90% منهم مدنيون.
في المقابل، أعلن الدفاع المدني في قطاع غزة استشهاد 41 فلسطينيًا يوم السبت الماضي فقط، وهو اليوم الذي أعقب أول يوم للعدوان الإسرائيلي على إيران، وانضم هؤلاء إلى نحو 300 شهيد آخرين قضوا منذ افتتاح مراكز لتوزيع المساعدات تديرها "مؤسسة غزة الإنسانية" الأميركية في 27 مايو/ أيار الماضي، إضافة إلى أكثر من 2600 مُصاب.

تبدو صرخة لازاريني بعدم نسيان المآسي في غزة في محلها، فقد استغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حربه على إيران، وقبل ذلك تحريضه على ضربها، في تهميش مأساة غزة، والتملّص من ضغوط أوروبية (فرنسية وبريطانية وكندية على وجه الخصوص) كانت في ذروتها.
نتنياهو ينجو من سيناريو حل الحكومة
إضافة إلى ذلك، وفّر التحريض على إيران لنتنياهو باب طوارئ للخروج والنجاة من مسعى للمعارضة كان سيفضي إلى انتخابات برلمانية مبكرة، فقد نجت حكومته من حل البرلمان الخميس الماضي (12 يونيو الجاري)، بتصويت 61 نائبًا من أصل 120 ضدّ اقتراح قانون لحل الكنيست، بعد التوصل إلى اتفاق بشأن خلاف حول التجنيد الإجباري لليهود المتديّنين.

وكان من الممكن أن يصبح هذا التصويت خطوة أولى نحو انتخابات مبكرة تشير استطلاعات الرأي إلى أن نتنياهو سيخسرها.
أما المكسب الثاني الذي أحرزه نتنياهو من خلال التصعيد ضد إيران فالعدوان عليها، فهو إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجمعة الماضي تأجيل المؤتمر الدولي بشأن حلّ الدولتين الذي كان من المقرّر عقده في الأمم المتحدة في 17 من الشهر الجاري، وتترأسه بلاده والسعودية.
وقال ماكرون في مؤتمر صحافي عقده في اليوم الذي بدأت فيه إسرائيل عدوانها على إيران: "إننا مضطرون لتأجيل هذا المؤتمر لأسباب لوجستية وأمنية"، إذ "ما الجدوى من مثل هذا المؤتمر إذا بقي جميع قادة المنطقة، لأسباب واضحة، في ديارهم؟".
تأجيل مؤتمر حل الدولتين
وأوضح ماكرون أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الفلسطيني محمود عباس أبلغاه أنهما ليسا في وضع لوجستي أو مادي أو أمني أو سياسي يسمح لهما بالسفر إلى نيويورك.
ولكن التأجيل وفقًا للرئيس الفرنسي لا يعني أن المؤتمر لن يعقد "في أقرب وقت ممكن"، إذ "لا يجب ان يُشكّك بتصميمنا على الدفع قدمًا بحل الدولتين" على حد قوله، مكرّرًا عزمه على الاعتراف بدولة فلسطين، قائلًا: "أيًا تكن الظروف، أنا مصمم على الاعتراف بدولة فلسطين"، واصفًا ذلك بأنه "قرار سيادي".

وقبل نحو أسبوع من الموعد المقرر لمؤتمر حل الدولتين، قالت باريس في العاشر من يونيو الجاري إنها حصلت على تعهدات جديدة من السلطة الفلسطينية بالإصلاح.
وقال قصر الإليزيه إن الرئيس ماكرون تلقى رسالة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس استنكر فيها هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وأوضح مكتب ماكرون، أن رسالة عباس تضمنت تعهدات "غير مسبوقة".
ونقل مكتب ماكرون عن عباس قوله في الرسالة: "لن تحكم حماس غزة بعد الآن، وعليها تسليم أسلحتها وقدراتها العسكرية لقوات الأمن الفلسطينية التي ستشرف على إخراجها من الأراضي الفلسطينية المحتلة بدعم عربي ودولي".
وتبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 2024 قرارًا يدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعقد مؤتمر دولي في يونيو المقبل تترأسه فرنسا والسعودية، للدفع قدمًا باتجاه حلّ الدولتين.
وبموجب القرار الذي صدر بأغلبية 157 عضوًا مقابل ثمانية أعضاء صوّتوا ضدّه (بينهم إسرائيل والولايات المتحدة والمجر والأرجنتين)، فإنّ الجمعية العامة "تؤكّد دعمها الثابت، وفقًا للقانون الدولي، لحلّ الدولتين، إسرائيل وفلسطين، بحيث تعيشان جنبًا إلى جنب في سلام وأمن داخل حدود معترف بها، على أساس حدود ما قبل العام 1967".

وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أكد ترؤس بلاده والرياض للمؤتمر قبل يوم واحد من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وقال ماكرون خلال قيامه بزيارة دولة إلى السعودية: "قررنا أن نترأس بشكل مشترك في يونيو المقبل مؤتمرًا بشأن الدولتين"، مشيرًا الى أن البلدين سيعملان خلال الأشهر المقبلة على "مضاعفة وتوحيد مبادراتنا الدبلوماسية لاستقطاب كل العالم الى هذا المسار".
وعقدت باريس والرياض في مايو الماضي، اجتماعين متوازيين في باريس ونيويورك، تحضيرًا للمؤتمر، حيث استضاف وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو في باريس، نظراءه من المملكة العربية السعودية ومصر والأردن لجلسة عمل مخصصة للتحضير للمؤتمر، وتزامن ذلك مع انعقاد اجتماع مماثل، بقيادة فرنسية - سعودية، في مقر الأمم المتحدة بنيويورك.
واشنطن تحرّض على مؤتمر حل الدولتين
وكشفت وكالة رويترز في 11 يونيو الجاري عن برقية دبلوماسية اطلعت عليها "تفيد أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تحث حكومات العالم على عدم حضور مؤتمر حل الدولتين.

وقالت البرقية: "نحث الحكومات على عدم المشاركة في المؤتمر، الذي نعتبره غير مُجدٍ للجهود المبذولة لإنقاذ الأرواح وإنهاء الحرب في غزة وتحرير الرهائن".
وأضافت البرقية إن الولايات المتحدة تعارض "أي خطوات من شأنها الاعتراف من جانب واحد بدولة فلسطينية مفترضة، مما سيضيف عراقيل قانونية وسياسية كبيرة أمام الحل النهائي للصراع ويضغط على إسرائيل في أثناء حرب، وبالتالي يدعم أعداءها".
وجاء في البرقية أن واشنطن عملت دون كلل مع مصر وقطر للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة وتحرير الرهائن وإنهاء الصراع، ومن شأن "هذا المؤتمر أن يُقوّض هذه المفاوضات الحاسمة، ويُشجّع حماس في وقت رفضت فيه الجماعة الإرهابية مقترحات المفاوضين التي قبلتها إسرائيل".
ورغم أن الولايات المتحدة كانت تدعم لعقود حل الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والذي من شأنه أن ينشئ دولة للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة إلى جانب إسرائيل، إلا أن ترمب بدا في ولايته الأولى غير متحمس لحل الدولتين.
موقف أميركي غامض من حل الدولتين
وفي 11 يونيو الجاري قال سفير واشنطن في إسرائيل مايك هاكابي إنه لا يعتقد أن قيام دولة فلسطينية مستقلة لا يزال هدفًا للسياسة الخارجية الأميركية، مما دفع الخارجية الأميركية للقول بأن السفير كان يعبّر عن رأيه، بينما أشار البيت الأبيض إلى تصريحات سابقة للرئيس الأميركي دونالد ترمب عبر فيها عن تشككه إزاء حل الدولتين.

وفي مقابلة مع وكالة بلومبرغ، قال السفير عندما سئل عما إذا كانت الدولة الفلسطينية لا تزال هدفًا للسياسة الأميركية: "لا أعتقد ذلك".
ونقلت الوكالة عن هاكابي قوله: "ما لم تحدث بعض الأمور الجوهرية التي تغيّر الثقافة، فلن يكون هناك مجال لذلك". وأضاف أن هذه التغييرات لن تحدث على الأرجح "خلال حياتنا".
واقترح هاكابي اقتطاع أرض من دولة إسلامية بدلًا من مطالبة إسرائيل بإفساح المجال، وسأل: "هل يجب أن تكون (الدولة الفلسطينية) في يهودا والسامرة؟"، وهو تعبير تستخدمه الحكومة الإسرائيلية للإشارة إلى الضفة الغربية المحتلة.
وردًا على سؤال حول تصريحات هاكابي، أشار البيت الأبيض إلى تصريحات لترمب العام الماضي قبل فوزه في انتخابات عام 2024 عندما قال: "لم أعد متأكدًا من أن حل الدولتين سينجح بعد الآن".
ولدى سؤالها عما إذا كانت تصريحات هاكابي تمثل تغييرًا في السياسة الأميركية، رفضت المتحدثة باسم وزارة الخارجية تامي بروس التعليق، قائلة إن صنع السياسات أمر يخص الرئيس والبيت الأبيض.
برلين تعارض
وكان وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول اعتبر في الخامس من يونيو الجاري الاعتراف "الآن" بدولة فلسطينية "مؤشرا خاطئًا"، في موقف معارض لموقف فرنسا والمملكة المتحدة وكندا التي أعلنت تأييدها هذا الأمر.
وقال فاديفول في مؤتمر صحافي في برلين مع نظيره الإسرائيلي جدعون ساعر: "ينبغي إنجاز هذه العملية في إطار مفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين قبل أن نعترف بدولة فلسطينية، ونرى أن اعترافًا بدولة فلسطينية الآن سيكون مؤشرًا خاطئًا".
واعترفت إسبانيا وأيرلندا والنرويج العام الماضي بدولة فلسطينية، وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعمه للفكرة، مما دفع إسرائيل إلى اتهامه بشن "حملة صليبية ضد إسرائيل".
يُذكَر أن أكثر من 150 بلدًا تعترف بدولة فلسطين التي تحظى بصفة عضو مراقب في الأمم المتحدة، أي أن عضويتها غير كاملة إذ لم يصوّت مجلس الأمن على قبولها بهذه الصفة.

وفي مايو 2024، اعترفت أيرلندا والنرويج وإسبانيا بدولة فلسطين، وتبعتها أرمينيا وسلوفينيا في يونيو الماضي، ولكن أهمية اعتراف هذه الدول تظل رمزية ما دامت إسرائيل ترفض الاعتراف بدولة فلسطينية، وربما لا تكون تل أبيب هي العقبة الوحيدة التي تحول دون إقامة دولة فلسطينية، فبمقدور مجلس الأمن الدولي الاعتراف بهذه الدولة ما يجعل إسرائيل في عزلة دولية.
لكن الدعم الأميركي لإسرائيل يجعل مجلس الأمن مقيّد اليدين، خاصة أن أربع دول من الخمس التي تمتلك حق النقض (الفيتو) على استعداد للاعتراف بالدولة الفلسطينية.