الأربعاء 23 نيسان / أبريل 2025

من التأسيس حتى اليوم.. ما نعرفه عن تاريخ الأجهزة الأمنية الفلسطينية

من التأسيس حتى اليوم.. ما نعرفه عن تاريخ الأجهزة الأمنية الفلسطينية محدث 10 شباط 2025

شارك القصة

تأسست الأجهزة الأمنية الفلسطينية فعليًا في اليوم الأول لتأسيس السلطة - غيتي
تأسست الأجهزة الأمنية الفلسطينية فعليًا في اليوم الأول لتأسيس السلطة - غيتي
الخط
كان للأجهزة الأمنية الفلسطينية دور محوري في العقود الماضية، في الضفة الغربية وغزة، حيث تداخل واقعها مع التعقيدات المرتبطة بالاحتلال.

مثّل تأسيس السلطة الفلسطينية بما فيها الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعد اتفاقيات التسوية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، مرحلة محورية في تاريخ القضية الفلسطينية، ما زالت حاضرة في تفاعل عميق في الحياة السياسية والاجتماعية الفلسطينية، خاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

فقد نصّ البند الثامن من اتفاقية أوسلو "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي"، تحت عنوان "النظام العام والأمن" على "من أجل ضمان النظام العام والأمن الداخلي لفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة سيشكل المجلس قوة شرطة فلسطينية قوية بينما تواصل إسرائيل تحمل مسؤولية الدفاع ضد المخاطر الخارجية وكذلك مسؤولية أمن الإسرائيليين العام بغرض حماية أمنهم الداخلي والنظام العام". وتأسست الأجهزة الأمنية الفلسطينية فعلياً في اليوم الأول لتأسيس السلطة.

وفي اتفاقية "أوسلو 2" المعروفة باسم "غزة - أريحا" في 4 مايو/ أيار 1994، سمح للسلطة بإقامة أجهزة في إطار (الشرطة)، ووسعت اتفاقية واشنطن صلاحياتها الأمنية نحو مناطق جديدة في الضفة الغربية إلى مناطق (أ) التي للأجهزة الفلسطينية صلاحيات كاملة فيها، و(ب) صلاحيات مقيدة، و(ج) التي تبلغ مساحتها نحو 60% من الضفة للأمن الإسرائيلي الصلاحيات المطلقة.

وأقرت تأسيس أجهزة تحت إطار (الشرطة) هي: الشرطة المدنية، والأمن العام، والأمن الوقائي، وأمن الرئاسة، والمخابرات، والدفاع المدني. واختلط مفهوم الشرطة في هذا التعريف كجهاز مدني بأجهزة ذات طابع استخباراتي. ومنذ البدايات حضر الدور الأميركي في عملية (التنسيق الأمني) والإشراف على بناء الأجهزة الفلسطينية، وهو ما تجلّى بوضوح في اتفاقية "واي ريفير" في العام 1998 التي نصت على إشراك الولايات المتحدة في لجنة التنسيق بين إسرائيل والسلطة.

الأجهزة الأمنية الفلسطينية.. على صورة المنظمة؟

في يوليو/ تموز 1994، أصدر الرئيس الراحل ياسر عرفات مرسومًا بتشكيل الشرطة الفلسطينية بقيادة اللواء غازي الجبالي، وتولى أمين الهندي الذي عمل خلال فترة الثورة الفلسطينية في الأمن مع الشهيد صلاح خلف (أبو إياد) قيادة جهاز المخابرات، واللواء موسى عرفات الاستخبارات العسكرية، وجبريل الرجوب تأسيس الأمن الوقائي في الضفة الغربية ومحمد دحلان في قطاع غزة، وبقي جهاز "17" المسؤول عن حماية أبو عمار خلال فترة الثورة في هيكلية السلطة بالإضافة للأمن الخاص والأمن الوطني.

وكان عماد القوة البشرية للأجهزة الأمنية في البدايات ممن أطلق عليهم "العائدين" من كوادر الثورة الفلسطينية وضباطها الذين عادوا، بعد تأسيس السلطة، ونشطاء حركة فتح في الأرض المحتلة، وجزء من أبناء فصائل منظمة التحرير التي أيّدت اتفاقية أوسلو وكان لها وزراء في الحكومات الفلسطينية، في عهد الرئيس ياسر عرفات.

وكان طابع تنسيب العناصر للقوات الأمنية الفلسطينية يدور حول الانتماء التنظيمي في الأساس، والعلاقات الاجتماعية (العائلة)، وجانب ممّا يمكن وصفه بـ"تكريم" لمناضلين خاضوا فترات من العمل السياسي والعسكري ضد الاحتلال واعتقلوا لسنوات في السجون الإسرائيلية(1).

ولم تصدر السلطة في هذه المرحلة تشريعًا ينظم عمل أي من الأجهزة باستثناء الدفاع المدني، في 1998(2)، وتداخلت الصلاحيات(3) بينها نظرًا لاقتراب تخصصاتها من بعضها رغم أنها في الجانب النظري بعيدة إلى حد ما (كما في حالة جهازي الأمن الوقائي والمخابرات)، وفي جانب آخر ارتباطًا بالشكل الذي ولدت عليه السلطة من أجهزة تنظيمية وحركية بقيت تراوح في الغالب بين صورتها القديمة ضمن حركة وطنية كانت تقوم بخدمات في الشتات الفلسطيني ومقسمة بين الدول وسلطة تطمح إلى الوصول لحالة دولة.

وعملت الأجهزة بتوجيه مباشر من الرئيس عرفات الذي أدارها على طريقته في إدارة قوات الثورة الفلسطينية. واتفقت دراسات أكاديمية وبحثية أن القطاع الأمني في السلطة لم يتأسس على اعتبارات مهنية واضحة، وزادت أعداد الأجهزة عن حاجة المجتمع الفلسطيني، ووافق هذا عدم شفافية أنظمة الترقيات والحوافز، وبقيت الرواتب بوجه عام دون مستوى إنفاق الفرد(4).

عملت الأجهزة بتوجيه مباشر من الرئيس عرفات الذي أدارها على طريقته في إدارة قوات الثورة الفلسطينية - غيتي
عملت الأجهزة بتوجيه مباشر من الرئيس عرفات الذي أدارها على طريقته في إدارة قوات الثورة الفلسطينية - غيتي

التنسيق الأمني.. سنوات الصدام

منذ البدايات اصطدمت السلطة بتعقيدات الواقع الفلسطيني، عدا عن استمرار واقع السيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وتقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مناطق داخل السيطرة الفلسطينية وأخرى خاضعة لأجهزة الاحتلال.

بنتيجة ذلك، لم تكن قيادة منظمة التحرير قادرة على ضمان الإجماع الفلسطيني على اتفاقيات التسوية مع إسرائيل، وأعلنت حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية - القيادة العامة وقوى أخرى معارضتها لهذا المسار، فيما واصلت فصائل المعارضة الإسلامية بشكل خاص عملياتها ضد أهداف الاحتلال.

الصدام الفلسطيني الداخلي بين السلطة والقوى المعارضة للتسوية، لم يقع في مساحة بعيدة عن تأثيرات الظروف الخارجية وتعقيدات عملية التسوية، ولا سيما أن عملية (التنسيق الأمني) التي تشكل الجانب المحوري في العلاقة الأمنية في الاتفاقيات مع إسرائيل تقوم على (الحوار ومشاركة المعلومات الاستخبارية، وجهود مكافحة الإرهاب، وتجنب الصراع خلال اقتحامات الجيش الإسرائيلي في المنطقة أ، إعادة الإسرائيليين الذين يضلون الطريق إلى مناطق السلطة، وضبط واحتواء التظاهرات).

تلوّن الصدام بالدم منذ البداية، وكانت (مجزرة مسجد فلسطين)، كما تسميها حماس والجهاد الإسلامي، التي قتل فيها 12 شخصًا وأصيب عدد آخر خلال صدامات بين متظاهرين من الحركتين وعناصر الأمن الفلسطيني، مثالاً صارخًا على طبيعة العنف الذي بدأت فيه العلاقة بين الطرفين. ورغم الاتصالات السياسية التي لم تتوقف بين الرئيس عرفات والقيادة السياسية للمعارضة الإسلامية والوطنية، إلا أن الحالة كانت عبارة عن مشروعين يسيران في خطين لا يلتقيان.

اتفقت دراسات أكاديمية وبحثية أن القطاع الأمني في السلطة لم يتأسس على اعتبارات مهنية واضحة، وزادت أعداد الأجهزة عن حاجة المجتمع الفلسطيني، ووافق هذا عدم شفافية أنظمة الترقيات والحوافز، وبقيت الرواتب بوجه عام دون مستوى إنفاق الفرد

نفذت كتائب القسام الجهاز العسكري لحماس وخلايا حركة الجهاد الإسلامي عمليات في عمق التجمعات الإسرائيلية، وكان أبرز قيادات الخلايا المسؤولة عن العمل العسكري الشهيد يحيى عياش (المهندس)، الذي انتقل في أوج المطاردة الساخنة من قبل أمن الاحتلال، إلى قطاع غزة، وكانت الأجهزة الأمنية الفلسطينية حديثة عهد في القطاع، وواصل عمله العسكري من هناك بالاشتراك مع عدة خلايا.

اتهمت الحركتان الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشن حملة شرسة طالت قيادات عسكرية وسياسية فيهما، بناء على طلبات الأجهزة الأمنية والعسكرية في جيش الاحتلال، والإدارة الأميركية، وتعرضت الخلايا العسكرية في السنوات من تأسيس السلطة إلى انتفاضة الأقصى لملاحقة واسعة من السلطة، تصاعدت وهبطت وفقًا للتطورات الأمنية، وتوجه الحركتين نحو ترميم جهازهما العسكري.

ولم يتوقف الصدام بينهما في كثير من الحالات كما في قضية اغتيال المهندس محيي الدين الشريف أحد قادة كتائب القسام في الضفة، بينما اعتبرت السلطة أن (عمليات الحركتين تهدف إلى تقويضها ومنح المتطرفين في إسرائيل فرصة تدمير عملية السلام)، وأن الحديث عن عمليات تعذيب في سجونها (ضخمته مؤسسات حقوقية).

ومع هذا الصدام والعمليات الأمنية حاولت السلطة احتواء المطاردين، خصوصًا في قطاع غزة، وحاولت فرز عدد منهم على الأجهزة الأمنية وقد انتسب بعضهم فعلاً للأمن الوقائي، وعاد جزء منهم للعمل العسكري بعد انطلاق الانتفاضة الثانية. وصدرت عدة تقارير من مؤسسات حقوقية وفصائل فلسطينية معارضة تتهم الأجهزة الأمنية بتعذيب كوادرها واحتجازهم في ظروف قاسية، وقد وصلت فترات اعتقال بعضهم إلى سنوات، ولم يستعيدوا حريتهم إلا مع الانتفاضة أو استهداف الاحتلال لمقرات السلطة.

صدرت عدة تقارير من مؤسسات حقوقية وفصائل فلسطينية معارضة تتهم الأجهزة الأمنية بتعذيب كوادرها - غيتي
صدرت عدة تقارير من مؤسسات حقوقية وفصائل فلسطينية معارضة تتهم الأجهزة الأمنية بتعذيب كوادرها - غيتي

السلطة وإسرائيل.. عودة إلى القتال

مرت العلاقة بين السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية مع إسرائيل بفترات من التصعيد، رغم علاقة (التنسيق الأمني).

كان أوج الصدام في (هبّة النفق) في 25 سبتمبر/ أيلول 1996 التي انفجرت بعد إعلان حكومة الاحتلال بقيادة بنيامين نتنياهو عن فتح نفق أسفل المسجد الأقصى، وكان التطور الأبرز في الهبة هو مشاركة عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الاشتباك مع قوات الاحتلال على نقاط المواجهة، بعد دعوة مباشرة من الرئيس ياسر عرفات الذي اجتمع مع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ودعا الشعب الفلسطيني لمواجهة العدوان على الأقصى.

صور عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية وهم يشتبكون بالسلاح كانت صورة مصغرة عمّا ستحمله انتفاضة الأقصى، بعد 4 سنوات، من انخراط ضباط وكوادر فيها في العمل العسكري، وكانت انعكاسًا لجيل من الفدائيين الذين عادوا بعد أوسلو إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وبقي جزء منهم يؤمنون بطريق السلاح للضغط على الاحتلال لتحقيق حقوق سياسية للفلسطينيين.

ولجأ الرئيس عرفات إلى تعليق "التنسيق الأمني" في مراحل مختلفة للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة ردًا على التهرب الإسرائيلي من استحقاقات عملية التسوية كما في بداية 1997 احتجاجًا على توسيع الاستيطان في شرق القدس المحتلة(5).

الصدام الأكبر جاء بعد تفجّر الشارع الفلسطيني في وجه الاحتلال، عقب اقتحام أرييل شارون المسجد الأقصى، في سبتمبر 2000. وجه الرئيس ياسر عرفات الأطر التنظيمية في فتح والسلطة إلى تحريك الشارع للمواجهة الشعبية(6)، ومع القمع الوحشي من الاحتلال للتظاهرات والمنتفضين دخلت الانتفاضة في عمل عسكري مسلح، كان لفتح وضباط وعناصر في الأمن الفلسطيني دور فيه.

في النتيجة، تعقدت العلاقة بين أجهزة أمن السلطة وإسرائيل رغم محاولات أميركية عبر زيارات دورية لمسؤولين من مستويات مختلفة لإعادة التنسيق الأمني في صورته السابقة ووقف الانتفاضة، وذكر تقرير لجهاز "الشاباك" الإسرائيلي عقب عملية "السور الواقي"، في 2002، أن "ضباطًا في الأجهزة الأمنية الفلسطينية لهم علاقة بعمليات ضد أهداف إسرائيلية وبعضهم لا يتحرك لمنع الفصائل من تنفيذها"(7).

ورغم محاولات إسرائيل للعثور على أدلة مباشرة تثبت علاقة الرئيس عرفات بالعمليات العسكرية إلا أنها فشلت في ذلك، وبقيت المؤشرات على علاقات متداخلة بين تنظيم فتح وكتائب شهداء الأقصى وضباط في أجهزة الأمن، وترى تحليلات لتلك المرحلة أن "حجم العمليات خرج عن سيطرة قيادة السلطة التي حاولت تحقيق أهداف سياسية من العمل العسكري".

ولعلّ قضية سفينة "كارين A" التي أعلن الاحتلال عن اعتراضها قبل وصولها بالأسلحة التي كانت عليها إلى غزة بتوجيه من عرفات ومشاركة ضباط من الأجهزة بالتنسيق مع حزب الله والحرس الثوري الإيراني، تشكّل دليلاً على التشابك والتعقيدات التي رسمت مسار الانتفاضة، والتباينات بين الأجهزة الأمنية نفسها بين انخراط كبير من جانب جزء من عناصرها في العمليات، خاصة بين المنتسبين للأمن الوطني والقوة "17" التي استخدم ضباط فيها سلاح "RPG"  في مواجهة الاجتياحات، وبين إحجام قادة أجهزة أخرى.

إلا أن الفصائل الفلسطينية بينها حماس والجهاد، اتهمت السلطة باعتقال مطاردين وعناصر عسكريين فيها، بطلب من استخبارات الاحتلال والولايات المتحدة، واعتقلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية خلية من الجبهة الشعبية اغتالت وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي مع الأمين العام للجبهة أحمد سعدات، وشخصيات عسكرية وسياسية أخرى بعد ضغوطات إسرائيلية وأميركية ودولية، خاصة مع الحصار الذي تعرض له الرئيس عرفات.

وفي 24 يونيو/ حزيران 2002، أطلق الرئيس الأميركي جورج بوش خارطة الطريق لوقف الانتفاضة وعودة التنسيق الأمني، وكان جزء منها يتعلق بـ"إجراء إصلاحات في السلطة والأجهزة الأمنية"، وواجه الرئيس عرفات ضغوطات لفرض تعيين رئيس حكومة يسلب منه صلاحياته، وأطلق خططًا بينها خطة "100 يوم"، لكن هذه الإجراءات لم تؤت النتائج المرجوة(8).

لجأ الرئيس عرفات إلى تعليق "التنسيق الأمني" في مراحل مختلفة للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة - غيتي
لجأ الرئيس عرفات إلى تعليق "التنسيق الأمني" في مراحل مختلفة للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة - غيتي

الولادة الثانية.. والصدام مع حماس

انطلق محمود عباس عقب انتخابه في الانتخابات الرئاسية بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، في تغييرات داخل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وجرى توحيدها ضمن 3 فئات هي جهاز الأمن الداخلي يضم (الشرطة، والأمن الوقائي، والدفاع المدني) وتتبع لوزارة الداخلية، والمخابرات تابعة للرئاسة، وقوات الأمن الوطني. وأصدر مجموعة مراسيم تنظم عمل الأجهزة الأمنية وقانونًا للخدمة في قطاع الأمن، وحصل خلط فيها بين مهمات الرئيس الذي يجمع إليه أيضًا، صلاحيات "وزير الدفاع"، في الدول المستقرة، بربط المسؤولية عن الأمن الوطني إليه(9).

مثَل "الفلتان الأمني" في الضفة والقطاع، الذي تفشى مع نهايات انتفاضة الأقصى، وذهب ضحيته عشرات الفلسطينيين بينهم قادة في الأجهزة الأمنية كما في حادثة مقتل رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، موسى عرفات، تحديًا أمام الرئيس عباس. وجاء فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية فاتحة مرحلة جديدة في التاريخ الفلسطيني، اندلعت على إثرها صدامات داخلية فلسطينية وسط اتهامات متبادلة بين قيادة السلطة وتنظيمها فتح مع حركة حماس حول تعطيل عمل حكومة الأخيرة، ورفض الأجهزة الأمنية الانصياع لأوامر وزير الداخلية سعيد صيام الذي توجه لتأسيس جهاز موازٍ (القوة التنفيذية).

وخاض الطرفان صراعًا حول الصلاحيات، ووصل الصدام إلى اشتباكات مسلحة لم تتوقف إلا في فترات بعد اتفاقيات مصالحة تدخلت فيها أطراف عربية، قبل أن ينفجر الصراع في يونيو 2007 في اشتباكات ضارية سيطرت خلالها حركة حماس على مقرات الأجهزة الأمنية، في القطاع، وبدأ عهد الحركة في غزة وأسست في الشهور والأعوام اللاحقة أجهزتها الأمنية المنفصلة عن السلطة في الضفة الغربية.

بعد سيطرة حماس على غزة أطلقت السلطة حملة أمنية ضد قيادات وكوادر الحركة، في الضفة الغربية، وتولى سلام فياض القادم من البنك الدولي رئاسة الحكومة وأطلق إصلاحات وتغييرات في الأجهزة الأمنية، ترافقت مع حلّ كتائب الأقصى في إعلان رسمي وملاحقة المجموعات العسكرية التابعة لبقية الفصائل، والاتجاه نحو محاربة "الفلتان الأمني" وإعادة "ضبط الأمن"، وفقًا لتعبير السلطة والمؤسسات الدولية.

وحضر الدور الأميركي بقوة في هذه المرحلة من خلال اللجنة الأمنية بقيادة الجنرال دايتون الذي أشرف على تدريب عناصر في الأجهزة الأمنية في الأردن ودول أخرى، في إطار ما نصت عليه "خارطة الطريق" على تشكيل "مكتب التنسيق الأمني الأميركي" يقوده ضابط (3 نجوم) يقود (الإصلاحات في الأجهزة الأمنية وتجهيزها للحفاظ على القانون ومحاربة الإرهاب). وحصل القطاع الأمني الفلسطيني على نحو 400 مليون دولار حتى 2016، وشارك الاتحاد الأوروبي في دعم أجهزة مثل الشرطة. ومع هذه الإصلاحات بقي التداخل بين الأمن وحركة فتح بوجه عام، وكان للأجهزة الأمنية دور في التعيينات داخل الحكومة، من خلال سياسة "فحص السلامة الأمنية".

مرت العلاقة بين السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية مع إسرائيل بفترات من التصعيد، رغم علاقة (التنسيق الأمني)، وكان أوج الصدام في (هبّة النفق) في 25 سبتمبر/ أيلول 1996 التي انفجرت بعد إعلان حكومة الاحتلال بقيادة بنيامين نتنياهو عن فتح نفق أسفل المسجد الأقصى

اتهمت حماس ومؤسسات حقوقية فلسطينية ودولية الأجهزة الأمنية، في سنوات ما بعد 2007، بتعذيب معتقلين على خلفية (قضايا سياسية)، مما أدى لوفاة عدد منهم كما في حالة الشيخ مجد البرغوثي من بلدة كوبر قرب رام الله، ووضع الخطاب الرسمي للسلطة ملاحقة كوادر الحركة وآخرين من تنظيمات معارضة في إطار "الضبط الأمني ومنع السلاح".

واستمرت هذه الاتهامات حتى الوقت الحاضر، ورغم فترات التهدئة وانخفاض نسبة الاعتقالات لكوادر حماس، بعد تفاهمات المصالحة التي عقدت عدة مرات بين الجانبين، إلا أن المؤسسات والنشطاء اتهموا السلطة، في السنوات الأخيرة، بتوسيع دائرة القمع لتطال فئات أخرى في المجتمع، ويشيرون إلى حوادث فض تظاهرات في رام الله خرجت لأهداف مختلفة (احتجاجات على زيارة وزير جيش الاحتلال السابق موفاز، المطالبة برفع العقوبات عن غزة، قتل الناشط نزار بنات وغيرها).

ووصل الصراع إلى أطراف في فتح نفسها بعد الخلاف بين الرئيس عباس والقيادي محمد دحلان الذي قال تياره إن "السلطة اعتقلت محسوبين عليه". وفي شمال الضفة الغربية اصطدمت السلطة لعدة شهور مع مجموعات مسلحة، في مخيم بلاطة، وعناصر من الدائرة المحسوبة على فتح في البلدة القديمة بنابلس.

انطلق محمود عباس بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، في تغييرات داخل الأجهزة الأمنية الفلسطينية - غيتي
انطلق محمود عباس بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، في تغييرات داخل الأجهزة الأمنية الفلسطينية - غيتي

الاحتقان… والمستقبل المفتوح على الاحتمالات

عاد (التنسيق الأمني) في هذه السنوات إلى قوته، واعتبر ضباط في جيش الاحتلال ومراكز أبحاث إسرائيلية أن دور الأجهزة الأمنية شديد الأهمية للأمن الإسرائيلي، من خلال منع (سيطرة الفصائل، خصوصًا حماس، وملاحقة الخلايا العسكرية)، إلا أن سياسات حكومات الاحتلال الساعية لإطباق السيطرة على الضفة التي أدت لإضعاف السلطة، والأزمة المالية التي تعيشها جراء استيلاء إسرائيل على أموال الضرائب، مع استمرار الاستيطان وبرنامج حكومة نتنياهو التي تسيطر أحزاب "الصهيونية الدينية" على مراكز مهمة فيها، كلّ ذلك وضع شرعية استمرار العلاقات الأمنية محط تساؤلات واسعة في الشارع الفلسطيني.

وتملك الأجهزة الفلسطينية، خصوصًا المخابرات، علاقات عالمية، بينها مع الاستخبارات الأميركية، تتعلق بالتنسيق وتبادل المعلومات، ولا يتوقف دور بعض قادتها كما في حالة اللواء ماجد فرج على الدور المهني المباشر، بل له نفوذه من خلال قربه من الرئيس محمود عباس، وتدخله في ملفات تتعلق بالشأن السياسي والعلاقة مع حماس وبعض القضايا الإقليمية. وفي هذه السنوات اكتسب ضباط كبار مثل اللواء نضال أبو دخان قائد الأمن الوطني نفوذًا واسعًا بسبب علاقاته مع الرئيس ودوره في الحملات الأمنية.

مع الأزمة الاقتصادية في السلطة، ومرحلة "كورونا"، ظهرت إشكاليات في الضفة الغربية تتعلق بالشجارات العائلية التي تصل إلى القتل واستخدام الأسلحة النارية من قبل عائلات كبيرة، وإحراق المنازل، مع زيادة نفوذ للعشائر خاصة في مناطق الجنوب، في ظاهرة يربطها محللون بتراجع الأمن وتأخر القضاء في حل بعض الإشكاليات، بينما تربطها السلطة بمحاولات لإضعافها، بالتوازي مع فشل محاولات إعادة توحيد الأجهزة في الضفة الغربية وقطاع غزة جراء استمرار الانقسام الذي لم تحله المبادرات واللقاءات بين فتح وحماس والفصائل.

وفي شهر ديسمبر/ كانون الأول، أطلقت الأجهزة الأمنية حملة في جنين سمتها (حماية وطن)، استهدفت المجموعات العسكرية التابعة للفصائل، وبينما قالت الأخيرة إن الهدف هو إنهاء المقاومة، حمّلت السلطة عمليتها خطابًا يتركز على "محاربة الفلتان"، بينما كان وزير الداخلية زياد هب الريح يربطها بـ"التغييرات في الإقليم ومنع الخروج على برنامج منظمة التحرير". وكانت هذه الحملة تعبيرًا على الصدام الفلسطيني الداخلي الذي أساسه الاختلاف في برنامجين، في ظل حرب الإبادة على غزة، والتوجه الإسرائيلي نحو حسم الصراع بالسيطرة على الضفة الغربية.

في الخلاصة..

منذ بدايات السلطة نما قطاع الأمن الفلسطيني بقوة وبلغ نحو 44% من مجموع الموظفين، وتشير دراسات إلى أن ميزانية الأمن تبلغ نحو 23%، وكان للأجهزة دور محوري في العقود الماضية من حياة الفلسطينيين(10)، في الضفة الغربية وغزة، وتداخلت مع تقلبات تاريخهم المرتبطة بالاحتلال بين الانتفاضات أو العودة إلى البحث عن حلول سياسية، وفي الصراعات الداخلية ومواجهة الفصائل. ويظهر التحليل أنها ستحافظ على دور محوري، في المستقبل، المتعدد الاحتمالات، في ظل تهديد الاحتلال لوجود السلطة من أساسه.


المراجع

(1) حابس أحمد الشروف، دور المؤسسة الأمنية في بناء الدولة الفلسطينية، رسالة ماجستير، جامعة القدس، ص46.

(2) عاصم خليل، الإطار القانوني للعلاقة بين المجتمع المدني الفلسطيني والأجهزة الأمنية، جامعة بيرزيت، ص8.

(3) عزيز كايد، تداخل الصلاحيات في مؤسسات السلطة الفلسطينية، الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن.

(4) حابس الشروف، مرجع سابق.

(5) الملف الأمني بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل"، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، ص22.

(6) شهادة القيادي الفلسطيني الراحل ممدوح نوفل في برنامج "حكاية ثورة" على قناة الجزيرة.

(7) الملف الأمني بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل"، مرجع سابق، ص26.

(8) إبراهيم خطاطبة، إصلاح القطاع الأمني في السلطة الوطنية الفلسطينية من وجهة نظر العاملين فيها وأثر ذلك على التنمية السياسية - الضفة الغربية أنموذجا، رسالة ماجستير، جامعة النجاح، ص 31.

(9) عاصم خليل، مرجع سابق، ص9.

(10) صابرين عمرو، علاء الترتير، بعد حرب غزة أي ثمن لقطاع الأمن في فلسطين؟، شبكة السياسات الفلسطينية، ص2.دو

تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي
تغطية خاصة