السبت 24 مايو / مايو 2025
Close

من التأميم إلى "الرمرمة" ثم الخصخصة.. قصة ملكية القطاع العام في سوريا

من التأميم إلى "الرمرمة" ثم الخصخصة.. قصة ملكية القطاع العام في سوريا محدث 08 مايو 2025

شارك القصة

مع سقوط النظام في سوريا ظهرت الخصخصة كمصطلح متداول وكفعل تسعى الحكومة إلى تطبيقه - غيتي
مع سقوط النظام في سوريا ظهرت الخصخصة كمصطلح متداول وكفعل تسعى الحكومة إلى تطبيقه - غيتي
الخط
في إطار الملكية العامة لمنشآت الدولة؛ شهدت سوريا تحولات في شكل الملكية وفي توجهات الحكومة للنظر إلى الملكية العامة.

مع سقوط نظام الأسد وتسلم السلطة الجديدة للحكم؛ بدأ مصطلح "خصخصة" يطفو على السطح، ليس لأنه مصطلح ذو إيقاع انسيابي من حيث اللفظ، ولكن لأنه مصطلح يحمل الكثير من المصالح والفرص لأطراف تنتظر مثل هذه المرحلة.

لذلك، بدأ وزراء الحكومة السورية الجديدة يردّدونه بكثرة[1]، حيث رأت الحكومة أن التركة المؤسساتية لا يمكن أن تدار من جانبها بسلاسة، وأن الخصخصة هي أداة إصلاح لا بدّ منها، فالخزينة العامة مفلسة، والاقتصاد في أسوأ أحواله، كما أن سوريا الجديدة رأت أن مشاركة مؤسسات الحكومة مع المستثمرين سيقلل من أعبائها ويضمن تشابكات أكبر للمصالح المحلية والدولية، ما يوجب على هؤلاء المستثمرين الدفاع عن مصالحهم، وبالتالي المساهمة في استقرار البلاد.

وفي إطار الملكية العامة لمنشآت الدولة؛ شهدت سوريا تحولات في شكل الملكية وفي توجهات الحكومة للنظر إلى الملكية العامة، ما يطرح السؤال عن طبيعة الخصخصة المتوقع حصولها في سوريا، وكذلك ما حصل في سوريا في سنوات سابقة من خصخصة أو تأميم، وكيف أثرت هذه التحولات في الاقتصاد السوري عمومًا.

قصة الخصخصة

الخصخصة باعتبارها مفهومًا نظريًا هي نقل الملكية التابعة للقطاع العام إلى القطاع الخاص، ولكنها من ناحية التطبيق قد تعني نقلاً جزئيًا أو كليًا أو حتى تعهيد إدارة هذه المنشآت للقطاع الخاص. مثلاً قد يتم منح إدارة مرفأ أو مطار لشركة متخصصة في هذا الجانب مع الحفاظ على ملكيته لصالح الدولة، أو قد يتم تأجيره لشركة أخرى لمدة زمنية، وفي أكثر الأوضاع صراحة يمكن بيعه والتخلي عنه مقابل ثمن.

 عُرفت الخصخصة في القرن الماضي وبدأت تنتشر بشكل سريع بين الدول الغربية والشرقية، فهي وصفة جربت في دولة ونجحت، فلماذا لا تنقلها الدولة الأخرى وتقوم بتطبيقها. ويُعتقَد أن مارغريت تاتشر -رئيسة الوزراء البريطانية- كانت أول من سنّ هذه السنّة، حيث كانت ترى أن إدارة القطاع العام ليست من شأن الدولة، وأن القطاع الخاص سيكون أكثر كفاءة في إدارة هذه المؤسسات، وعملت على التخلص من كل شيء تقريبًا من كهرباء ومياه ومناجم من الدولة إلى القطاع الخاص. ورغم التحديات الجمة التي واجهتها تاتشر -خاصة تلك المتعلقة بالغضب العام في الشارع البريطاني الرافض للخصخصة- إلا أنها استطاعت إقناع الشارع من خلال توزيع جزء من المنشآت العامة على عمال هذه المؤسسات أنفسهم، كما شرحت في مناسبات متعددة فوائد هذه الخطوة على المجتمعات المحلية.

مارغريت تاتشر لم تكن الوحيدة في عالم ذلك الزمان المقتنعة بأن الخصخصة لا بد منها، فالرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان كان كذلك مقتنعًا بأهميتها، وتبعهما عدد واسع من المسؤولين وكذلك المفكرين من اقتصاديين وسياسيين، وذلك ليس لأهمية الخصخصة بحد ذاتها، بل اعتقادهم بأنّ دور الدولة لا يجب أن يكون بأي حال من الأحوال متعلقًا بإدارة المنشآت الاقتصادية بل بتطبيق القانون وضمان الحريات العامة والخاصة، وتحقيق الاستقرار والدفاع عن الدولة وحدودها، وهو نهج يتطابق مع جهود مفكري الاقتصاد الحر الذين ناضلوا للوصول إلى أن السوق يستطيع أن يدير نفسه وبأن الحكومة عليها أن تحمي آليات السوق لا أن تنافس داخله.

عمومًا، لم تعتمد قصة الخصخصة على مارغريت تاتشر أو مسؤولين آخرين، بل كانت مدفوعة بصراع فكري بين مدرستين، وحرب بين قطبين؛ سخّرت لها كل الإمكانات التي جعلت منهج الخصخصة ينتصر في النهاية. فالدول الاشتراكية ومن خلفها المدافعون عن القطاع العام وأهمية أن تكون وسائل الإنتاج بيد الحكومة، وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي المدافع الرئيس عن الملكية العامة لوسائل الإنتاج، كانت تعتبر أن المنشآت الاقتصادية الرئيسية يجب أن تدار من قبل الدولة، وأكثرهم تشددًا كان يرى أن كل شيء يجب أن تتم مشاركته في نطاق عام، وأقلهم تشددًا كان يرى أن الدولة يجب عليها أن تدير القطاعات الاقتصادية الرئيسية مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والطرق وغيرها.

على الجانب الآخر، كانت الدول الغربية ترى أن السوق هو الحل لكل شيء، وأن "يدًا خفية" تستطيع تصحيح السوق؛ تتمثل بمصالح الأطراف والفاعلين الرئيسيين داخل هذه السوق، وهو ما يجعل كل شيء يتوازن ويستقر في النهاية. ومع هذه النظرة المتعلقة بالسوق وحريته؛ بدأت تتكون توجهات التخلي عن إدارة القطاع العام التي يتمثل أحدها في التخلي عن كل شيء لصالح القطاع الخاص، بينما يرى آخر أن الدولة لا يجب أن تحتكر القطاعات الاقتصادية، وأن عليها السماح للقطاع الخاص بمنافستها، فيما رأى منهج ثالث أن المشكلة ليست في الملكية بل في الإدارة، ولذلك على الحكومة أن تحتفظ بملكية المنشآت، ولكن عليها أن تسلم الإدارة للقطاع الخاص.

في هذه الأثناء كانت مؤسسات الاقتصاد الدولي قيد التشكل، وبدأت تفرض نفسها لاعبًا في الملفات الرئيسية، حيث تم الاتفاق على تأسيس صندوق للنقد الدولي، وبنك دولي، وكلاهما تبنى موقفًا داعمًا للسوق، بل وضع في أساس أولوياته تخفيف أعباء الحكومات، وأن منهج الإصلاح الاقتصادي يجب أن يقوم على أساس تقليص النفقات والتكاليف الحكومية، ولن يجد البنك الدولي وتوأمه الصندوق أفضل من الخصخصة لتعظيم الموارد الحكومية وتقليص الإنفاق.

أما الدول النامية فكان موقفها صعبًا للغاية، فالطموحات التي أتت بها حكومات الدول الخارجة من الاستعمار كانت عالية، أمام موارد محدودة، وبالتالي، كان أمام حكومات الدول النامية أمران: إما أن تحصل على قروض أو مساعدات من دول أخرى تتبع لها أو تقبل بشروطها، أو أن تعرض هذه المشاريع على القطاع الخاص في إطار إنشاء - تشغيل - إعادة، أو ما بات يُعرَف بعقود (BOT) التي تعطي القطاع العام حق إنشاء وتشغيل مرفق أو مؤسسة، ثمّ إعادته للدولة بعد سنوات محددة من الاستفادة منه، ليصبح لدى الحكومة أصل أو مشروع من هذه المشاريع الطموحة، والتي هي نوع من الخصخصة بطبيعة الحال، وقد سعت بالفعل إلى تطبيق كل من الخيارين المطروحين.

كانت مارغريت تاتشر ترى أن إدارة القطاع العام ليست من شأن الدولة، وأن القطاع الخاص سيكون أكثر كفاءة - غيتي
كانت مارغريت تاتشر ترى أن إدارة القطاع العام ليست من شأن الدولة، وأن القطاع الخاص سيكون أكثر كفاءة - غيتي

وراء كل هذا كانت "اليد الخفية" كما أسماها علماء الاقتصاد، والمتمثلة بالسوق والقوى الفاعلة فيه، تعمل من أجل تشجيع هذا الاتجاه، لأنه يصب بصالحها بطبيعة الحال، فالأموال المتركزة بيد المستثمرين تبحث عن استثمارات تدر الربح في أي قطاع من القطاعات، ولماذا لا تكون مؤسسات الدولة التي تعطي مكاسب كبيرة؛ هكذا استطاعت هذه القوى أن تدفع بكل قوتها نحو الخصخصة لتتمكن من كسر احتكار الحكومة على أقل تقدير، أو الحصول على استثمارات كبيرة من جهة أخرى.

إذًا، اجتمعت مصالح قوى دولية، وأخرى محلية، ومصالح حكومات، ومصالح مستثمرين، وكذلك مصالح شعوب في موضوع الخصخصة، أما الدول الاشتراكية المعارضة لفكرة الخصخصة فقد قدمت أكبر خدمة لأصحاب مصالح الخصخصة عن طريق فشلها في إدارة المنشآت العامة، والتي تكدس إنتاجها في المخازن، وتدهورت أوضاعها الاقتصادية.

قصة التأميم

كانت أيام أعياد كما يقول المصريون، مما أضفى على الموقف كثيرًا من المشاعر الجياشة. في ذلك الوقت من عام 1956 وقف الرئيس جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية ليلقي خطابًا حمل رموزًا وكلمات سر جعلت القوى العسكرية تتحرك للسيطرة على قناة السويس ومنشآتها، فيما عرف بتأميم قناة السويس التي سيطرت من خلالها الحكومة المصرية على حصص الملاك مقابل تعويضهم بالقيمة السوقية للأسهم التي يحملونها، ولعل تأميم قناة السويس هو النموذج الأكثر شهرة في عالمنا العربي.

التأميم أتى من خلال فكرة ملكية الأمة لموارد الدولة، واستخدم المصطلح في سبيل تحويل أملاك القطاع الخاص أو الأفراد إلى ملكية عامة، وقد استخدم مرات متعددة أداة اقتصادية وسياسية في الوقت نفسه، لجعل الحكومة تسيطر على منشآت حيوية يتم إدارتها من قبلها.

ولعل تأميم قطاع الطاقة بمنشآته في الجزائر يعد مثالاً على هذا التوجه، حيث أعلن الرئيس هواري بومدين عام 1971 عن تأميم قطاع المحروقات في البلاد، ودوليًا كان الاتحاد السوفيتي قائد عمليات التأميم؛ منطلقًا من أن ملكية وسائل الإنتاج يجب أن تكون عامة، كما أن الدولة هي صاحب المصلحة الوطنية في إدارة موارد الدولة وهي المستأمن الوحيد على هذه المقدرات، ولعل هذه الفكرة تحديدًا انتقلت إلى العالم الثالث بقوة لتطبق في الدول الاشتراكية كما هي الحالة السورية، ولم تمت فكرة التأميم كليًا، بل مارست بعض الدول مثل المغرب تأميمًا لبعض المؤسسات الخاصة[2].

سوريا في القرن العشرين: من التأميم إلى "الولاء مقابل الملكية"

أطل القرن العشرون برأسه على سوريا وهي تحت حكم الدولة العثمانية التي كانت تشهد آخر سنواتها، وهي فترة بدأ فيها ظهور مشاريع كبيرة كمشروع سكة الحجاز، وفي ذلك الوقت كان الاقتصاد الزراعي مقسمًا بين ما يمتلكه الولاة، وما يمتلكه الأغوات من الإقطاعيين، إضافة لملكيات زراعية صغيرة في قرى متناثرة من سوريا، وكان القطاع المالي بيد الحكومة فعليًا، وفي حمص وحدها كان هناك حوالي 5000 عامل في مجال صناعة النسيج، إضافة لورشات متنوعة في مجال الحرف والصناعات اليدوية في معظم مناطق سوريا؛ تطورت في وقت لاحق لتصبح مصانع كبيرة.

في فترة الانتداب الفرنسي لسوريا؛ لم تتدخل فرنسا في الملكيات الخاصة بالمجمل، ولكنها أسست لمؤسسات حكومية إدارية أكثر من كونها اقتصادية، وبعد الاستقلال صدر دستور 1950[3] ليؤكد في مادته الرابعة والعشرين أنّ "للدولة أن تؤمّم بقانون كل مؤسسة أو مشروع يتعلق بالمصلحة العامة مقابل تعويض عادل"[4]، كما أشارت المادة 22 من الدستور إلى تشجيع الملكيات الخاصة المتوسطة والصغيرة، في تجاهل للملكية الخاصة الكبيرة، وتضمين أنها غير مرضي عنها كثيرًا، كما أكدت المادة 22 ذاتها أن الدولة توزع من أراضيها على من سيعمل بها من أجل ضمان كفايتهم.

وما هي إلا سنة واحدة بعد صدور الدستور حتى بدأت عمليات التأميم، حيث صدر القانون رقم 85 لعام 1951 القاضي بتأميم شركة الحافلات الكهربائية (الترام) وشركات الكهرباء والمياه في المدن الكبرى، ثم انتقل التأميم بعدها للسكك الحديدية وشركة التبغ وصولاً لتأميم البنك المركزي (بنك سوريا ولبنان) عام 1956.

وفي فترة الوحدة مع مصر تم تأميم شركات مختلفة في كل من سوريا ومصر، وشمل تأميم الشركة الخماسية التي كانت تعمل بالنسيج والطباعة، وشركة الشهباء للغزل، ثم تم تأميم خمسين بالمئة من شركات كبرى في سوريا أبرزها مصارف خاصة، ولكن الأمر لم يطل كثيرًا فما هي إلا بضعة أشهر حتى حصل الانفصال وأصدرت الحكومة السورية قرارًا بإلغاء عمليات التأميم الحاصلة في زمن الوحدة[5].

كان حزب البعث الذي حكم البلاد منذ ستينيات القرن الماضي اشتراكيًا، وبالتالي كانت رؤيته للملكية منطلقة من هذا المبدأ، وقد جاء في المنطلقات التي أقرها في مؤتمر 1963: "فليس فقط الرأسماليون والإقطاعيون هم أعداء الشعب العربي بل أيضًا السياسيون الذين يتمسكون بالتجزئة..."[6]، وجاء في منطلقاته أيضًا: "ونظرًا لأن العناصر البرجوزاية الصغيرة تشكل إحدى القوى الأساسية التي تنهض بأعباء النضال، وبسبب اتساعها العددي فإن إدخالها في القطاع الاشتراكي يجب أن يتم بصورة إيجابية بعد أن يحقق القطاع نجاحات تحقق نموه ورسوخه.."، أي أن الحزب كان يرى أن الاشتراكية بطبيعتها لا تقبل القوى القادمة من القطاع الخاص سواء في شكلها "البرجوازي" الصناعي أو في شكلها "الإقطاعي" الزراعي، وحتى ما أسماه الحزب بالبرجوازيات الصغيرة فإنه مقبول بسبب عدم القدرة على التخلي عنه "لاتساع عدده"، ولكن هذا القبول والإدماج الإيجابي يجب أن يأتي بعد مرحلة تمكين الاشتراكية.

ولم يكتفِ الحزب بهذه الإشارات، بل ذهب إلى تناول التأميم على أنه "الخطوة الثورية الأولى نحو الاشتراكية... ويتيح للسلطة الثورية قيادة الاقتصاد الوطني"[7]، أي أنه مسألة لا بد أن تتم على أقل تقدير في القطاعات الرئيسية.

على إثر هذه الأفكار أو ما سمي بالمنطلقات النظرية بات التخوف الأكبر من قبل السوريين هو إبقاء أموالهم في سوريا، ويُعتقَد أن 800 مليون ليرة سورية خرجت من البلاد في عام 1964[8]، وبالفعل أمم البعث بعض الشركات الخاصة، وتبعه حافظ الأسد بسياسة مماثلة لم تبقِ رجل أعمال أو ملكية خاصة إلا وطالها من التأميم أو "السلبطة" ما طالها. وقد ذهب حافظ الأسد إلى أبعد مما يتعلق بالتأميم، بل جعل هناك مركزية شديدة لإدارة القطاع الحكومي، فقام بحكم هذه المؤسسات من خلال توزيعها كحصص على المقربين والمحسوبين على نظامه، ليتصرفوا بها وكأنها ملك تام لهم، في إطار ما يمكن تسميته: "الولاء مقابل الملكية" أو "الولاء مقابل السلطة".

كما وضع ضابط أمن في كل مصنع أو منشأة لنقل الأخبار للأفرع الأمنية والتجسس على الموظفين والمدراء، أي أنه وزعها كأعطيات لمن يعطونه الولاء ووضع عليهم عنصر أمن لمراقبتهم، وضمان أن لا يتحركوا خارج المربعات المرسومة لهم، ولم يكن هناك أي قسم رقابي أو إداري للتفتيش خلف هذه المؤسسات، فقد تركت هذه المهمة لجهاز مرتبط بمجلس الوزراء، ولكن رقابته كانت شكلية ولم تكن تظهر إلا في الوقت الذي يأمر الأسد أن يتم فتح الملف لعدم رضاه عن تصرفات معينة تتعلق بالولاء وليس بالكفاءة أو الإدارة، وكانت النتيجة أن خسرت معظم المعامل، وتراكم الإنتاج، وتعطلت المكنات، وبدلاً من أن تصبح هذه المعامل والمؤسسات الاقتصادية رافدًا ومساهمًا في الاقتصاد السوري، أصبحت تأكل الاقتصاد وتساهم في هدمه.

أسست فرنسا في فترة الانتداب لمؤسسات حكوميةأسست فرنسا في فترة الانتداب لمؤسسات حكومية إدارية في سوريا أكثر من كونها اقتصادية - غيتي إدارية في سوريا أكثر من كونها اقتصادية - غيتي
أسست فرنسا في فترة الانتداب لمؤسسات حكومية إدارية في سوريا أكثر من كونها اقتصادية - غيتي

من التأميم إلى "الرمرمة"

بدأ بشار الأسد عهده بوعود إصلاحية، ففي خطاب القسم عام 2000، دعا إلى التطوير والتحديث، وقال: "التطوير المجتزأ لا يحقق الغايات المرجوة"[9]، وبناءً عليه بدأت تنتشر حالة من الطمأنينة السياسية تمثلت في منتديات فكرية وبيانات ومقالات صحفية، سرعان ما تراجع عنها الأسد ووضع من قدّمها وقام بها في السجن أو أجبره على مغادرة البلاد، ولتعويض ما نكل به من وعود في الجانب السياسي؛ راح إلى الاقتصاد والمؤسسات الحكومية ليبدأ فيها إصلاحًا مؤسساتيًا كما أسماه، فانتقل إلى ما عرف باقتصاد السوق الاجتماعي وبدأ بتحويل المصالح الاقتصادية إلى رجال أعمال من طبقة محسوبة عليه أو مقربة منه أو من مسؤوليه الرئيسيين، أي أنه بدلاً من أن يعطي مناصب جديدة في مؤسسات الدولة، منح مصالح جديدة وامتيازات جديدة لمستثمرين مقربين منه، مقابل دعمه في وقت الحاجة، أي أننا تحولنا من الولاء مقابل السلطة إلى مبدأ الولاء مقابل الامتياز، فكان رامي مخلوف صاحب أكثر الامتيازات في البلاد وأكثرهم ولاءً، تلاه رجال أعمال من أبناء رجال المخابرات والجيش الذين استحوذوا على كل شيء تقريبًا، ولم يبقَ قطاع أو منطقة جغرافية إلا واتسع إليه نفوذهم، مقدمين كل ما يمكن تقديمه من ولاءات.

لم تكن مرحلة الأسد مرحلة خصخصة، ولكنها كانت تمثل نوعًا من الخصخصة، حيث أن الامتياز يشكل أحد أنواع الخصخصة، فعندما تعطي الدولة حقوق الانتفاع أو الامتياز للقطاع الخاص فهذا نوع من الخصخصة. على سبيل المثال، حصل رامي مخلوف على حقوق كانت مناطة بالحكومة، ومنها حق الاتصالات اللاسلكية، كما أنشأ شركات مملوكة له أو محسوبة عليه، وحصل على حق الانتفاع من المعابر البرية والبحرية عبر مؤسسة راماك[10]، كما حصل على عدد واسع من الامتيازات مثل الحصول على عطاءات من الدولة على شكل أراضٍ أو مناقصات خاصة به.

ولم يقتصر الأمر على رامي مخلوف حقيقة، ولكن الأخير كان الرجل الأول والأهم في سوريا، حتى إنّه في سوريا كان هناك نكتة يتبادلها البعض عن أنّ الخصخصة تعني نقل ملكية القطاع العام للخاص، والتأميم يأتي بالعكس، ولكن في سوريا يوجد لدينا "رمرمة" وهي تحويل ملكية القطاع الخاص والعام إلى رامي مخلوف، وهو أمر حدث بالفعل، لدرجة أن رامي مخلوف كان يحصل على حصص من أملاك المستثمرين أو يفاوضهم على الدخول معهم في شراكات من أجل الحصول على الرخصة الاستثمارية[11].

عودة الخصخصة

لم تكن الخصخصة حاضرة تمامًا في سوريا، ولكنها كمسألة وقضية تعود إلى الواجهة، فمنذ الأيام الأولى لسقوط النظام السوري بدأ الحديث بشأنها، حيث أن الحكومة الجديدة تسعى إلى أن تجعل من الخصخصة مجالاً لإشراك القطاع الخاص في بناء الاقتصاد من جهة، ومن جهة أخرى تخفف الأعباء المتعلقة بالإدارة عن كاهلها، كما أن الخصخصة تتناسب مع تخفيض حالة المركزية الشديدة التي كانت تسود في عهد النظام السوري، فكثير من الناس كان يرى أن الاشتراكية في عهد الأسد الأب لم تكن لأجل الاشتراكية نفسها بقدر ما كانت من أجل السيطرة على مفاصل السلطة في كل جانب من جوانب الحياة، أي أن الاشتراكية وافقت نهج الأسد الأمني فطبقها.

تعود الخصخصة اليوم، وتأتي معها فرص استثمارية لرجال أعمال سوريين وأجانب، ودخل متوقع للحكومة يأتي من موارد هذه الخصخصة. لا يتوقع أن تكون الخصخصة بشكلها الصريح، أي أنه من غير المتوقع أن تبيع الدولة أصولها الاقتصادية، ولكن يتوقع أن تبدأ العمل مع القطاع الخاص من خلال استثمارات أو من خلال تأجيرها أو تعيدها لشركات خاصة لإدارتها، وهي لا شك نوع من أنواع الخصخصة ولكنها درجة أقل بكثير من درجة الخصخصة الصريحة.

وفي النهاية، يمكن القول إن رحلة سوريا الطويلة من تاريخ استقلالها إلى تاريخها الراهن شهدت تأميمًا لبعض المؤسسات وهذا يلاحظ في فترة تأسيس سوريا كدولة مستقلة، ثم محاولات تأميم وتراجع عن هذه المحاولات في نهاية عهد الوحدة بين سوريا ومصر ومن ثم انفصال سوريا عن مصر، إلى أن بدأت تركز أعمال القطاع الحكومي مع الدولة تارة باسم الاشتراكية التي أتى بها حزب البعث وجعلها أهم منطلق نظري له، وتارة أخرى في سبيل تشديد القبضة على الدولة وتعزيز المركزية، وهذا كان واضحًا في عهد الأسد الأب، ثم تراجعًا عن هذه المركزية لصالح قطاع خاص محسوب على السلطة، فلم يكن بالإمكان أن نطلق عليه اسم خصخصة، بل عملية تحويل ونقل وتعهيد المؤسسات العامة لشخصيات محسوبة على السلطة فحسب. ومع سقوط النظام ظهرت الخصخصة كمصطلح متداول وكفعل تسعى الحكومة إلى تطبيقه، ربما بشكل أقل صراحة مما هو متعارف عليه، ولكنه قد يكون أمرًا واقعًا في وقت قريب.


المراجع

[1] الحكومة السورية تعتمدها..هل تنقذ الخصخصة الاقتصاد السوري؟ عربي21، يمان نعمة، يناير 2025، الرابط.
[2] راجع:  المغرب.. تأميم 3 محطات تلفزيونية محلية يثير الجدل، تلفزيون العربي، مايو 2023، الرابط.
[3] راجع: الإعلان الدستوري هل يمهد لنظام يرقى لتطلعات السوريين، تلفزيون العربي، مارس 2025، الرابط.
[4] الدستور السوري عام 1950، التاريخ السوري المعاصر، الرابط.
[5] راجع في هذا الإطار مذكرات معروف الدواليبي، مكتبة العبيكان، إعداد عبد القدوس أبو صالح، 2005: من الصفحة 156 إلى صفحة 175، وهي مرحلة يشرح فيها الدكتور الدواليبي رأيه بعبد الناصر وماقام به في سوريا.
[6] بعض منطلقات حزب البعث العربي الاشتراكي التي أقرت في مؤتمر 1963، القيادة القومية، ص: 7.
[7] المرجع السابق ص 48.
[8] التأميم "رصاصة أذار" في صدر الاقتصاد السوري، الاقتصاد، 09 أذار 2013، الرابط.
[9] راجع خطاب القسم عام 2000 على اليوتيوب، الرابط.
[10] يمكن مراجعة قرار فسخ العقود المتعلقة بالمعابر البرية مع رامي مخلوف والتي صدرت بعد التخلي عنه عام 2020، موقع عبر العدالة، حزيران 2020، الرابط.
[11] راجع ما نقل عن نجيب ساويرس رجل الأعمال المصري حول استيلاء رامي مخلوف على استثماراته في سوريا، موقع صورة لايف، ديسمبر 2024، الرابط.
تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي
تغطية خاصة