يخشى أكاديميون ومختصون أميركيون بالشأن الثقافي من تأثير القرارات التي أصدرها البيت الأبيض مؤخرًا على مجمل الحياة الثقافية في البلاد، خصوصًا مع سعي الرئيس الأميركي دونالد ترمب لفرض السلطة الفيدرالية على المتاحف، وحديثه عن ضرورة إعادة رواية التاريخ الأميركي.
ففي متحف التاريخ الأميركي، تتوزع آلاف الأعمال المكتوبة، والأزياء واللوحات التعريفية بماضي الولايات المتحدة منذ بدء ما يعرف بالرحلات الاستكشافية لكريستوفر كولومبس، مرورًا باضطهاد السكان الأصليين، وللاستعباد، والتمييز العنصري، وغيرها.
وتلخص إحدى مقتنيات المتحف واحدة من محطات الاستعباد للأفارقة في "رحلة الرقيق عبر الأطلسي"، لكن وجود مثل هذه الأعمال بات يزعج الإدارة الأميركية، وخلال بضعة أشهر قد يُحظر عرضها بقرار تنفيذي جديد للرئيس دونالد ترمب.
ترمب يسعى لإعادة رواية التاريخ الأميركي
وطالب القرار بمنع استخدام المتاحف أي أعمال تحط من قيمة تاريخ البلاد حتى في العصر الاستعماري.
وقال ترمب: "نريد أن تتحدث المتاحف عن تاريخ بلدنا بطريقة عادلة، وليس بطريقة متعصبة أو عنصرية"، على حد تعبيره.
ومنذ سقوط نصب ألبيرت بايك، حُفظ التمثال المثير للجدل في مبنى إدارة الحدائق العامة، لكن الإدارة أعلنت عزمها إعادة نصب التمثال وغيره من تماثيل خلافية في أرجاء العاصمة والمدن الأميركية.
وكان ألبيرت بايك شخصية محورية في التاريخ الأميركي خلال القرن التاسع عشر، حيث كان معارضًا بشدة لتحرير العبيد، ولاحقًا عضوًا في تنظيم "كو كاكس كلان" الأبيض الذي نسبت إليه فظائع بحق السود.
وفي بدايات أغسطس/ آب الماضي، وجّه ترمب رسالة إلى مؤسسة المتاحف سميث سنويان يُطالبها فيها بتقديم لائحة بكل مقتنيات المتاحف ليقوم فريق متخصص بمراجعتها، ومن ثم تقرير ما "يلائم عرضه" كجزء من التاريخ الأميركي و"ما لا يعد ملائمًا"، وفق فهم ترمب وتياره السياسي المسمى "ماغا".
وأعرب المختصون في دراسات المتاحف عن قلقهم من هذا التوجه الرسمي لفرض الرقابة على النحو الذي يرى فيه الأميركيون أنفسهم، والقصة التي يرونها عن تاريخهم.
وفي حديث للتلفزيون العربي، قالت ليزا سترونغ رئيسة قسم دراسات المتاحف في جامعة جورج تاون: "نعلم أن التاريخ يشكله الناس على أرض الواقع، وردود أفعالهم وقراراتهم وردود أفعالهم تجاه ما يفعله أصحاب السلطة. ولكن إذا جاء أطفال إلى معرض يروي من منظور أصحاب السلطة فقط، ويحتفي بهم حقًا، فأنت لا تطالب الأطفال، ولا تشجعهم على التساؤل عن التاريخ، ولا على التفكير فيه على نطاق أوسع".
الرقابة على الكتب
ويقول المنتقدون لسياسات ترمب إن قراره مراجعة التاريخ الأميركي يستهدف إعادة تشكيل المجتمع على نحو يشبه ما يحدث في الدول الشمولية، فإلى جانب تشديد الرقابة على المتاحف يتجه اليمين نحو تشديد الرقابة على الكتب أيضًا.
وعلى امتداد البلاد، تواجه العديد من المكتبات العمومية مطالبات متزايدة من الأهالي بحظر كتب بعينها يعتقدون أنها لا تتقاطع مع تصوراتهم، أحيانًا بدعوى عدم ملاءمتها للأطفال، وفي حالات أخرى لأنهم يعتقدون بتشويهها لتاريخ البلاد
وقالت ليزا فيرغا، مديرة الرابطة الأميركية للمكتبات، للتلفزيون العربي: "لقد شهدنا زيادة في طلبات إزالة الكتب في السنوات الأربع الماضية، والمشكلة في ذلك هي أنه ينتهك حقوق التعديل الأول للأشخاص الآخرين في تلك المقاطعات والمجتمعات، لذلك لدينا قلق حقيقي عندما يأتي الناس ويخبروننا أنهم يريدون إزالة الكتب، لكن لم تتح لنا فرصة لإجراء محادثة حقيقية معهم بشأن هذا الأمر.
جدل واسع وخشية من تأثير قرارات البيت الأبيض على الحياة الثقافية في البلاد بعد حديث ترمب عن سعيه لإعادة رواية التاريخ الأميركي تقرير: عماد الرواشدة#التلفزيون_العربي pic.twitter.com/CunphRgbEP
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) September 14, 2025
في العام الدراسي 2023-2024، وجدت منظمة "PEN America" التي تصدر مؤشرًا عن حظر الكتب، أن أكثر من 10 آلاف كتاب جرى حظرها، شملت أكثر من أربعة آلاف عنوان فريد، مع حدوث نحو 45% من عمليات الحظر في فلوريدا، و36% في أيوا.
وعلى الرغم من أن ظاهرة حظر الكتب قديمة قدم التاريخ الأميركي، وكانت قد بلغت أوجها خلال حقبة مكافحة الشيوعية، إلا أن المختصين يلاحظون تصاعدًا في عودتها في السنوات الأخيرة، تزامنًا مع تعمق الانقسام بين اليمين واليسار.
وفي مقابلة مع التلفزيون العربي، قالت هادار هاريس مديرة منظمة "بن أميركا": "هذا الأمر مقلق للغاية، مقلق حقًا. وإذا استمر ذلك، فسيكون جزءًا مما نعرفه بدليل الاستبداد"، وقد رأيناه في دول أخرى بالعالم. حيث يأتي قائد قوي ويريد السيطرة".
وأضافت: "سردية ما يحدث في البلاد تريد إعادة كتابة تاريخ ما حدث في الماضي بهدف الارتقاء بفئة معينة من المجتمع في قيادة معينة".
هكذا، لم يعد الانقسام الأميركي الذي تعمق مع وصول ترمب واليمين المتطرف إلى البيت الأبيض مجرد استقطاب بشأن قضايا الحاضر، مثل القرارات الرئاسية أو الخطاب السياسي، لكنه بات اليوم يمس جوهر تصور الأميركيين عن ماضيهم، عن تاريخهم، وتباعًا عن ذاتهم الجمعية، وفق مراسل التلفزيون العربي من واشنطن عماد الرواشدة.