تمثل المذكرات وسيلة مهمة لاستعراض أحداث تاريخية، ولعل مذكرات الموسيقي الفلسطيني واصف جوهرية ومذكرات المناضل الفلسطيني بهجت أبو غربية، مرجعًا لسرد جذور القضية الفلسطينية ابتداء من زمن الانتداب البريطاني على فلسطين ودور بريطانيا في تطبيق وعد بلفور القاضي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مرورًا بالثورات العربية التي واجهت بريطانيا والحركة الصهيونية، وصولًا إلى صدور قرار التقسيم عام 1948.
يذكر جوهرية ذلك اليوم الذي خرج فيه مع عائلته من بيته في القدس. ويقول: "كنا نعتقد أننا سنغيب مدة أسبوعين فقط، لكننا تأخرنا كثيرًا، ومن حسن حظي أنني لم أنسَ العود، أحتفظ به ويحتفظ بي".
قرر جوهرية أن يجمع ذكرياته من شتاته في بيروت، ويضيف: "لم أكن حينها ذلك الكاتب الماهر أو المؤرخ الشهير، كل ما هنالك أن أبواب الدنيا أغلقت بسبب ما حدث، فقررت أن أكتب ما حصل".
أمّا بهجت أبو غريبة، المناضل في الثورة الفلسطينية عام 1936، فكتب: "أعتقد أن أهم ما يكتبه الإنسان هو ترجمة حياته، ففي حياتنا تفاصيل لا تُنسى وستكون مهمة أكثر إذا كانت مرافقة لقضية هامة كالقضية الفلسطينية، عندها سيزيد ذلك من أهمية ما يكتب، لذا بدأت أدون مذكراتي، لقد حضّرت كل شيء وأرغب في الحديث للأجيال القادمة لأبين لهم أن آبائهم وأجدادهم ناضلوا بشرف في سبيل حرية الأمة العربية، بل في سبيل منع وعد بلفور في قيام الدولة الصهيونية".
ويضيف: "بين وعد بلفور وإعلان بن غوريون حكاية لا تنسى".
القدس في يد الإنكليز
يروي جوهرية بداية القضية: "فجر الأحد التاسع من ديسمبر/ كانون الأول يوم لا ينسى، حيث أصبحت القدس في يد الإنكليز".
ويضيف في مذكراته: "لا أستطيع أن أقول إننا كنّا نتوقع ما يحدث، لقد دخل الجنرال اللمبي إلى القدس باحتفال عسكري ضخم، أذكر ذلك اليوم، ثم تلا الجنرال بيانه العسكري. لقد أشار إلى انتهاء الحروب الصليبية، وفورًا احتج زعماء المسلمين حينها، القليل منّا كانوا يعلمون أن أحلام الصهيونية قد باتت على الأبواب، فقد قضوا على كياننا ومستقبل أولادنا وأحفادنا وخسرنا أعز شيء لدينا".
وبحسب جوهرية: "بعد احتلال المدينة أسس الحاكم العسكري حينها رزنالد ستوفز جمعية أهلية أسماها جمعية محبي القدس، هدفها المعلن الحفاظ على طابع المدينة القديمة الأثرية، وكان كاذبًا فسرعان ما بات المشروع الإنكليزي واضحًا. وكانت الجمعية مسؤولة عن إصدار القوانين المشددة ولاسيما على الأماكن المقدسة وأصبح الحاكم العسكري مسؤولًا عن مسجد الحرم الشريف، وأسوأ قرار صدر منهم هو إزالة ساعة باب الخليل عند سور القدس التي صممت وأنشئت في العهد العثماني".
التفريق وشراء الأراضي
كتب جوهرية: "كنت أزور الحرم القدسي الشريف على الدوام بل وأحفظه عن ظهر قلب، كنا نعيش عيشة عائلية حقيقة لا فرق بين مسلم ومسيحي، حتى إن مفتاح كنيسة القيامة كان لدى عائلة مسلمة. ومنذ الفتح الإسلامي لم يتغير شيء في القدس، ولكن عند احتلال بريطانيا، وكعادة المستعمر، عملوا على تعكير الوضع لصالح الحركة الصهيونية، عبر منح دخول المسلمين كنيسة القيامة، ومنع المسيحيين من دخول الحرم القدسي".
وبحسب الموسيقي الفلسطيني: "كانت القوانين البريطانية المتعلقة ببيع الأراضي وتسجيلها، التي نظّم معظمها المندوب السامي الصهيوني هربرت صامويل محور الحديث بين الفلسطينيين آنذاك".
ويضيف جوهرية: "كنّا نعرف أنّه صهيوني متعصب جاء لتطبيق وعد بلفور، ووضع كل القوانين التي تسهل البيع تدريجيًا لليهود، لكنهم لم يفلحوا، وكان صديقي يحيى حمودة يعمل في دائرة تسجيل الأراضي، لقد عمل وكثيرون غيره بجرأة ضد كل من سوّلت له نفسه بيع شبر من أرضه للصهاينة، كما أصدر المفتي فتوى تحرم تلك البيوع وتحرم دفن البائع في مقابر المسلمين. كان الويل لذلك الخائن فيفضح في السر والعلانية ويصبح منبوذًا".
ويقول السمسار الصهيوني، يوسف نحماني، في مذكراته: "هناك مسألتان أساسيتان يتوقف عليهما نجاح إقامة وطننا، الهجرة والأرض... الهجرة لا تتوقف وباستطاعتنا ترتيب الإبحار دون أن نكون بحاجة لأحد، لكن في مسألة الأرض فنحن مرتبطون بالعرب ورد فعلهم".
ويضيف: "إن مسألة الأرض لم تكن يومًا تجارية وإنما سياسية، ففي السنوات الأخيرة اتخذ العرب إجراءات كثيرة لوقف السماسرة عن البيع، كنّا نرصد الأراضي كلّها ونأتي بأوراقها، لكنهم سرعان ما أقاموا مؤسسات مالية كالبنك العربي القومي وصندوق الأمة العربية بهدف شراء الأراضي التي كانت على وشك البيع ليهود".
ويتابع: "وكان العرب على الرغم من حاجتهم للأموال يمتنعون عن بيع أراضيهم".
تطبيق وعد بلفور
علّق جوهرية في مذكراته: "باتت نوايا بريطانيا واضحة لا تخفى على أحد، كانوا يعملون على تطبيق وعد بلفور. وكان قد هاجر إلى فلسطين حايين ويزمان، علمت لاحقًا أنه من كبار الصهاينة، كان يقول: إن بين العرب أقلية حاقدة تنكر حقوق الشعب اليهودي بفلسطين، وهم من يقفون حجر عثرة بوجه تحسين حياة الجموع العربية، ولمّا بدأ اليهود يتوافدون على فلسطين بأعداد متزايدة واجهوا ما كان يتوقعون حصوله وحصل أول صدام عام 1920".
وكتب جوهرية: "في تلك السنة وفي يوم أحد الشعانين بالقدس وهو اليوم نفسه الذي يحتفي به المسلمون بالنبي موسى، كنت أنتظر مرور موكب أهالي مدينة خليل الرحمن، وكان الموكب ينشد الأناشيد ضد الصهاينة والإنكليز، الأمر الذي استفز اليهود في المدينة، وأصبحت المدينة كساحة حرب، والشرطة الإنكليزية تقمع الموكب، وازداد الوضع توترًا عندما ارتفعت صورة فيصل الأول بيد أحد الحرار، فثار الناس ثورة عظيمة وقتل وجرح الكثيرون".
ثورة البراق
تابع جوهرية: "كانت الحالة بين الشعب والإنكليز بين مد وجزر وكان لليهود محاولات مستمرة لتغيير الوضع القائم، خاصة في القدس لتحقيق سيطرة يهودية على الأماكن المقدسة والحرم الشريف، حتى جاء عام 1929، يوم تجمع اليهود للاحتفال بيوم الغفران وأخذوا ينفخون في الأبواق عند حائط البراق، الأمر الذي أثار حفيظة المسلمين وهواجسهم، واعتبروا ذلك مقدمة لاستملاك اليهود للمسجد الأقصى، وعندها وقع الصدام الكبير، خاصة بعد أن قامت مجموعة من اليهود برفع العلم الصهيوني عند حائط المبكى وشتموا المسلمين، وكانت هذه شرارة اندلاع ثورة البراق التي تعتبر أول ثورة فلسطينية في وجه المحتل".
وعن أحداث تلك الثورة، كتب أبو غريبة في مذكراته: "كنت مشاركًا في تلك المظاهرات وكانت المرة الأولى التي أتعرض فيها لإطلاق النار، فقد كنت في الصفوف الأولى معرضًا للموت في كل لحظة، وسقط من حولي القتلى والجرحى".
وأضاف: "لقد بدى واضحًا أن الحكومة البريطانية قد قررت أن تستعمل أقصى درجات القوة لإخماد الانتفاضة الفلسطينية... لقد عمّت المظاهرات أرجاء فلسطين وانتشرت أخبار الثورة في كل مكان".
ثورة 1936
وصف أبو غريبة في مذكراته الثورة الفلسطينية عام 1936 "بأعظم ثورة" وأضاف: "كانت بريطانيا قاسية.. في هذه الفترة بدأت حياتي النضالية المسلحة، كانت جماعتنا في مقدمة المشاركين في ثورة 1936، كنّا نشتري الأسلحة والذخيرة من مالنا الخاص ونتدرب على استخدامها بسريّة".
وتابع: "الكثير من الشهداء والتضحيات، وإذا وجد الجيش طلقة في أي منزل يصدر قرار الهدم فورًا، لكن الشعب احتضن الثورة والثوار".
وأردف أبو غريبة: "انتهت الثورة وأصيب الكل بالتعب والإحباط.. لكننا لم نتخيل ما آلت إليه أمورنا في أقل من عام، فالكارثة الكبرى كانت في قرار التقسيم عام 1947".
وتابع: "لقد قررنا تجميع ما تبقى من ثورتنا وسافرت إلى القاهرة للقاء القائد الشهيد عبد القادر الحسيني الذي كان يقوم بنشاط واسع لإعادة تنظيم المقاتلين الثوريين في جيش الجهاد المقدس، التنظيم الذي سيحاول الدفاع عن القدس حتى اللحظة الأخيرة، ثم انطلق الحسيني بلجنة الدفاع المشتركة التابعة لجامعة الدول العربية في دمشق، لقد أراد الحصول على الامداد العسكري لكن خاب أمله وكتب رسالته الأخيرة الشهيرة - إني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي دون عون أو سلاح - واستشهد عبد القادر بعد أن عاد إلى القدس.. وبات طريق العصابات الصهيونية نحو دير ياسين دون عقبات".
حلم العودة
أمّا جوهرية، فوصف تلك الفترة قائلًا: "كانت حربًا قاسية... هرب الناس من قراهم تحت ضرب المدافع حيث حاول اليهود تنفيذ قرار التقسيم بالقوة بمساعدة بريطانيا، ولكن أسوأ ما حدث كان في دير ياسين، مجزرة رهيبة اعتبرها النكبة قبل النكبة، كان خبرًا مفزعًا حمل الناس على الهروب".
وأضاف: "في صباح 18 أبريل/ نيسان 1948، قررنا أن نترك القدس حزينين والدموع تجري من عيوننا على أمل ألَّا نغيب عن الدار أكثر من أسبوعين.. لم نتخيل أن العودة ستغدو حلمًا لعلمنا أن فلسطين سترجع إلى أصحابها، كيف لا وعن قريب ستدخل جيوش سبع دول عربية لاحتلالها وتسليمها إلى أهل البلاد، لكننا ما زلنا ننتظر".