تخيل أنك تستيقظ كل يوم وأنت قادر على تذكر كل لحظة تقريبًا من حياتك. هذا هو حال المصابين بما يُعرف بـ"فرط التذكر" (hyperthymesia)، وهو اضطراب يسمح بذاكرة ذاتية مفصلة للغاية.
تستيقظ إميلي وهي مصابة بـ"فرط التذكر" الساعة السابعة صباحًا، وبينما تتمدد، تتذكر استيقاظها في الوقت نفسه قبل خمس سنوات، وتتذكر الطقس الممطر واختبار الرياضيات الذي أصابها بالتوتر.
وبينما تنظف أسنانها، تتذكر أول مرة استخدمت فيها هذا النوع من معجون الأسنان قبل عام، ونكهته.
ما هو فرط التذكر؟
فرط التذكر، المعروف أيضًا باسم الذاكرة الذاتية الفائقة (HSAM)، هو حالة نادرة يتذكر فيها الشخص جزءًا كبيرًا من أحداث حياته بتفاصيلها الواضحة.
وتُمكّن هذه المهارة غير العادية الشخص من تذكر عدد كبير من الأحداث أو التجارب الشخصية وتواريخها بدقة وتفصيل ملحوظين.
في 8 يونيو/ حزيران عام 2000، أرسلت امرأة تُدعى "جيل برايس" بريدًا إلكترونيًا إلى عالم الأعصاب وباحث الذاكرة ومدير مركز البيولوجيا العصبية للتعلُّم والذاكرة التابع لجامعة كاليفورنيا جيم ماكغو، تخبره أنها تستطيع أن تتذكر كل يوم من حياتها منذ كانت في الثانية عشرة من عمرها، وطلبت منه المساعدة.
وعلى الأثر، دعاها الطبيب إلى مختبره، وبدأ باختبارها: كان يُحدد لها موعدًا ويطلب منها أن تُخبره عن أحداث ذلك اليوم. وفي كل مرة تقريبًا، كانت مُحقّة.
وكانت برايس قد دوّنت مذكراتها طوال تلك الفترة، مما سمح للباحثين بالتحقق من ذكرياتها عن الحوادث الشخصية أيضًا؛ ومرة أخرى، كانت مُحقة في معظم الأحيان. بعد بضع سنوات من هذه الدراسات المتفرقة، قرروا إخضاعها لاختبار تلقائي آخر: "اذكري تواريخ كل مرة زرتِ فيها مختبرنا". في لحظة، سردَت قائمةً بمواعيدهم. لاحظ ماكغو وزملاؤه: "لم يستطع أيٌّ منا تذكر هذه القائمة"، ولكن بمقارنة روايتها بسجلاتهم الخاصة، وجدوا أنها دقيقة تمامًا.
السبب العلمي وراء فرط التذكر
لا يزال سبب فرط التذكر غير معروف؛ إذ يعتقد بعض المتخصصين أن له أساسًا وراثيًا، بينما يُشير آخرون إلى أنه قد يكون مرتبطًا بعوامل جزيئية.
وشُخِّص 61 شخصًا فقط حول العالم بفرط التذكر، من بينهم الممثلة ماريلو هينر، المعروفة بدورها في المسلسل الكوميدي "تاكسي".
وغالبًا ما يُظهر الأفراد المصابون بفرط التذكر تراكيب دماغية وأنماط نشاط مميزة، لا سيما في النواة المذنبة (Caudate nucleus) والفص الصدغي (Temporal lobe) وهما منطقتان مسؤولتان عن معالجة الذاكرة وتنظيم الانفعالات.

تُظهر دراسات التصوير الوظيفي (الفسيولوجي) أن هؤلاء الأشخاص يستخدمون نصفي الدماغ لاسترجاع الذكريات، مما يشير إلى آلية استرجاع أكثر تكاملًا.
بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يكون لدى المصابين بفرط التذكر ردود فعل عاطفية أقوى، ويميلون إلى تنظيم ذكرياتهم، مما يجعل ذكرياتهم أكثر تفصيلًا ووضوحًا.
ومن خلال دراسة هذه الجوانب، يمكن للباحثين فهم آلية عمل الذاكرة بشكل أفضل، وربما تطوير أساليب جديدة لتحسينها وعلاج مشاكلها.
وأظهرت دراساتٌ باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أن المصابين بفرط التذكر يُظهرون أنماطًا فريدة من نشاط الدماغ عند استرجاع تجارب الماضي.
وغالبًا ما يُشغّل هؤلاء الأفراد نصفي الدماغ الأيمن والأيسر، مما يُشير إلى نظام استرجاع ذاكرة أكثر تكاملًا وفعالية. إضافةً إلى ذلك، غالبًا ما تكون ذكرياتهم أكثر وضوحًا وديمومةً نظرًا لامتلاكهم استجابات عاطفية أقوى للأحداث، مما يُساعد على تكوين آثار ذاكرة أطول أمدًا.
تجارب المصابين بفرط التذكر
قد يكون العيش مع فرط التذكر نعمة ونقمة في آنٍ واحد، وغالبًا ما يتفوق المصابون بهذه الحالة في المهن التي تعتمد على مهارات ذاكرة متقدمة، مثل التاريخ والقانون وبعض المجالات العلمية، لأن قدرتهم الاستثنائية على تذكر تجارب الماضي بوضوح تُتيح لهم رؤى فريدة، مما يساعدهم على ربط أحداث وأفكار تبدو غير مترابطة.
مع ذلك، قد يسبب فرط التذكر مضاعفات خطيرة، فالتدفق المستمر للذكريات قد يكون مُرهقًا، مما يُصعّب التركيز على الحاضر.
وقد يُواجه الأشخاص المُصابون بفرط التذكر صعوبة في التحكم في مشاعرهم لأنهم يتذكرون بوضوح صدمات الماضي والأحداث غير السارة التي تُسبب لهم قلقًا أو حزنًا مُزمنًا.