بعد نحو أسبوعين من سقوط نظام بشار الأسد، كان وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق في دمشق للقاء رئيس الإدارة السورية الجديدة (آنذاك) أحمد الشرع الذي استقبله في قصر الشعب.
لم يقصد جنبلاط دمشق بصفته فريقًا لبنانيًا للبحث في العلاقات السورية-اللبنانية وحسب بل بصفته زعيمًا درزيًا عابرًا للحدود، خاصة أنه يمثّل تيارًا كبيرًا داخل الطائفة التي تتوزع على دول المشرق العربي، وتحديدًا سوريا حيث تقيم الكتلة الأكبر من الدروز، بالإضافة إلى لبنان وإسرائيل والأردن، ما يفسّر اصطحاب جنبلاط شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي أبي المنى، ووفد من المشايخ الدروز في زيارته.

والسبت الماضي، أعلن جنبلاط نيته زيارة دمشق مجدّدًا، للأسباب نفسها التي كانت وراء زيارته الأول في 22 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهي الخشية من قيام إسرائيل بتوظيف الدروز في مشاريع تقسيمية، تتحوّل معها سوريا ظاهريًا إلى دولة فيدرالية (اتحادية) فيما هي في حقيقة الأمر تجمّع دويلات صغيرة، تلعب فيها الأقليات دورًا حاسمًا، بارتباطها بإسرائيل ضمن تحالف أقليات تسعى إليه تاريخيًا.
حريق "جرمانا" الصغير
وشهدت مدينة جرمانا التي تقع على أطراف العاصمة دمشق (جنوبي شرق) الجمعة الماضي، مقتل عنصر من قوات الأمن السورية، وإصابة آخر جراء إطلاق نار مع مسلحين في المدينة.
وبحسب الرواية الرسمية فإن عددًا من المسلحين (الدروز) أقاموا حاجز تفتيش في مدينتهم، ولدى قيام عناصر تابعة لوزارة الدفاع بالذهاب إلى جرمانا (الجمعة) لزيارة أقارب لهم، قام المسلحون بوقفهم وأجبروهم على تسليم أسلحتهم، واعتدوا عليهم بالضرب، وأطلقوا النار على سيارتهم ما أسفر عن مقتل أحد عناصر وزارة الدفاع وإصابة آخر.
وبعد ذلك هاجمت عناصر مسلحة أخرى مركزًا للشرطة في المدينة وطردت العناصر منه، ما ألجأ قوات الأمن للانتشار داخل المدينة.
نتنياهو وكاتس يهدّدان
كان يمكن لأي حادث مشابه ألا يلفت انتباه كثيرين، أو يُدرج وحسب في سياق حالة الفوضى الأمنية التي ترافق عمليات انتقال الحكم في المنطقة والعالم، لولا مسارعة إسرائيل للتدخل، وإدراج الأمر في سياق مختلف تلعب فيه إسرائيل دور الوصي على الأقليات وخصوصًا الدرزية.
ففي اليوم التالي للحادث، هدّد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بالتدخل عسكريًا في سوريا "إذا أقدم النظام على المساس بالدروز".
وقال الوزير الإسرائيلي في بيان: "لن نسمح للنظام الإرهابي الإسلامي المتطرف في سوريا بإيذاء الدروز"، وأضاف: "إذا هاجم النظام الدروز فإنه سيتحمل عواقب من جانبنا. لقد أصدرنا أوامرنا للجيش بالاستعداد وإرسال تحذير صارم وواضح: إذا أقدم النظام على المساس بالدروز فإننا سنؤذيه".
ومن جهته، أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وكاتس الجيش الإسرائيلي "بالاستعداد للدفاع" عن جرمانا التي قالا إنها "تتعرض للهجوم من قبل قوات النظام السوري".

ورغم أن مشايخ الدروز في جرمانا أصدروا بيانًا مساء السبت الماضي، أكدوا فيه "رفع الغطاء عن جميع المسيئين والخارجين عن القانون"، وتعهدوا بتسليم كل من "تثبت مسؤوليته" الى "الجهة المختصة حتى ينال جزاءه العادل"، إلا أن المخاوف تزايدت من سيناريو استغلال إسرائيل المرحلة الانتقالية في سوريا لإضعاف العهد الجديد، والمضي قدمًا في مشروع تقسيم سوريا إذا تسنى لها ذلك.
دروز سوريا وأماكن سكنهم
تقع جرمانا في ريف دمشق، والاسم آرامي أصلًا ويعني الرجال الأشداء، وبحسب إحصاء المكتب المركزي السوري للإحصاء عام 2004 فإن عدد سكانها 114 ألف نسمة، بينما تقدّر بعض المصادر أن عدد السكان تضاعف عدة مرات منذ ذلك الوقت ليصل إلى نحو 650 ألف نسمة.
يتكوّن سكان جرمانا مثل العديد من مدن المشرق العربي من عدة مكوّنات ديمغرافية (سكانية)، فرغم أن أغلب سكانها من الطائفة الدرزية، إلا أن عددًا كبيرًا من المسيحيين يسكنون المدينة، إضافة إلى عدد آخر من العراقيين يقطنون فيها منذ تسعينيات القرن الماضي.
ولا يُعرف على وجه الدقة عدد السوريين الدروز في جرمانا، لكن إحصاءات تعود إلى عام 2010 تقدّر أعداد المواطنين الدروز في دمشق وضواحيها (جرمانا وصحنايا وجديدة عرطوز) بنحو 250 ألف نسمة.

ووفق معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى عام 2010 فإن عدد المواطنين الدروز في سوريا يبلغ نحو 700 ألف نسمة، يعيش أغلبهم في محافظة السويداء (على بعد 100 كم جنوب مدينة دمشق)، حيث يقيم نحو 375 ألف مواطن درزي في السويداء أو جبل الدروز.
ومدينة السويداء هي أكبر مدن جبل العرب أو محافظة السويداء، ويعيش فيها إلى جانب الدروز مسيحيون يشكّلون نحو 7% من سكان المحافظة، إضافة إلى 3% من المواطنين العرب السُنّة.
تعتبر سوريا موطن ما بين 40 و50% من نحو مليون نصف مليون درزي في العالم، وتقدّر المصادر عددهم في سوريا بأكثر من 700 ألف نسمة (ما بين 800 ألف - مليون نسمة)، يتوزعون على محافظة السويداء حيث يعيشون في نحو 120 قرية.
كما يعيش عدد من الدروز في جبال حازم والمنحدرات الشرقية لجبل الشيخ ومحافظة القنيطرة والجولان وريف دمشق وريف إدلب، حيث يعيشون في نحو 18 قرية في ما يسمى جبل السماق في إدلب.
نتنياهو والمنطقة منزوعة السلاح
فجر 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 أعلنت المعارضة السورية المسلحة سقوط نظام بشّار الأسد، وبينما أُعلن في اليوم نفسه فرار الأسد إلى العاصمة الروسية موسكو، كان هناك من وجدها فرصة سانحة قد لا تتكرر لاستغلال الأوضاع الأمنية الهشة في سوريا.
هكذا، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي في اليوم نفسه الاستيلاء على ما تسمى "المنطقة العازلة" مع سوريا، وفي اليوم التالي أعلن الجيش الإسرائيلي انتشار قواته فيها.
وقال نتنياهو في كلمة مصورة قرب الحدود مع سوريا: "تمت السيطرة على هذه المنطقة منذ نحو 50 عامًا. وانهارت اتفاقية فصل القوات لعام 1974، وتخلى الجنود السوريون عن مواقعهم".

وتم توقيع اتفاقية فصل القوات (فض الاشتباك) بين إسرائيل وسوريا في 31 مايو/ أيار 1974، وأنهت حرب 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وتقرر في الاتفاقية انسحاب إسرائيل من مناطق جبل الشيخ كافة التي احتلتها في الحرب، إضافة إلى مساحة نحو 25 كلم مربعًا تشمل محيط مدينة القنيطرة وغيرها من المناطق الصغيرة التي تم احتلالها في حرب 5 يونيو/ حزيران 1967.
وبناء على إعلان نتنياهو، توغل الجيش الإسرائيلي في مناطق إستراتيجية بمحافظة القنيطرة جنوب سوريا، كما سيطر على قمة جبل الشيخ، وعدد من القرى، والبلدات المحيطة بها داخل المنطقة منزوعة السلاح، بعمق يصل إلى 18 كيلومترًا داخل الأراضي السورية.
الورقة الدرزية
وبعد نحو شهرين ونصف الشهر (23 فبراير/شباط الماضي) أعلن نتنياهو في حفل تخريج ضباط أقيم في مدينة حولون قرب تل أبيب، أنه سيطالب أن تكون "المنطقة إلى الجنوب من دمشق منزوعة السلاح"، بحيث لا يسمح "للجيش السوري الجديد بالانتشار في هذه المنطقة، كما لن نقبل بأي تهديد لأبناء الطائفة الدرزية في جنوب سوريا".
وأضاف أن الجيش الإسرائيلي سيبقى "في قمة جبل الشيخ وفي المنطقة العازلة (السورية) إلى أجل غير مسمى".

أما وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، فقال خلال الفعالية نفسها إن إسرائيل لن تسمح "بتموضع أي قوة تهدد أمن إسرائيل في المنطقة الممتدة من هنا حتى طريق السويداء- دمشق، والجيش سيتحرك ضد أي تهديد محتمل".
وأضاف أن "قوات الجيش ستظل متمركزة في جبل الشيخ" لضمان "أمن (مستوطنات) الجولان وشمال إسرائيل وسكان الدولة كافة".
وفي اليوم التالي لتصريحات نتنياهو وكاتس، قالت الرئاسة السورية على حسابها على منصة إكس إن الرئيس أحمد الشرع التقى وجهاء وأعيان الطائفة الدرزية، وحدث ذلك بالتزامن مع وقفات ومظاهرات في محافظات ومدن سورية في جنوبي البلاد، وخاصة في القنيطرة ومحافظتي السويداء ودرعا نددت بتصريحات نتنياهو وكاتس.
ويوم الإثنين أكد الزعيم الدرزي اللبناني، وليد جنبلاط، عقب اجتماع استثنائي للهيئة العامة للمجلس المذهبي لطائفة الدروز الموحدين أن "أهل سوريا يعلمون كيف يتصرفون"، وأنه سيذهب إلى دمشق "للتأكيد على مرجعية الشام"، فالمشروع كبير كما قال، وهم "يريدون الانقضاض على جبل العرب، وإما أن نبقى على هويتنا العربية أو أن ينغّر البعض ونسير بالمخطط الصهيوني".
ماذا يعني هذا كله؟
مشروع الكانتون الدرزي
منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ورئيس الوزراء الإسرائيلي يكرّر أن هدفه تغيير المنطقة وليس فقط هزيمة حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وترافقت تصريحاته هذه مع عودة سيناريو الكانتون الدرزي إلى الواجهة مجدّدًا، ما يفسّر حرصه المفاجئ على السوريين الدروز، وتحذيره العهد الجديد في سوريا من استهدافهم، في مسعى إسرائيلي للعب دور الوصي والحامي لهم في سوريا ودول الجوار.
تقوم فكرة الكانتون الدرزي على فصل محافظات الجنوب السوري ومدنها، من السويداء إلى درعا والقنيطرة وجبل الشيخ، تحت إدارة منفصلة ومتصلة بهضبة الجولان المحتلة، رغم أن أغلبية سكان هذه المناطق مجتمعة من السوريين السُنّة، بذريعة حماية الأقليات، وتذهب بعض التقارير إلى أن رقعة المشروع الجغرافية قد تكون أوسع وأكبر وتشمل مناطق في لبنان.

وبينما ترجح تقارير صحافية ان إعادة طرح مشروع الكانتون الدرزي إعلاميًا على الأقل، قد تكون وسيلة ضغط ليس أكثر على العهد الجديد في سوريا لنزع السلاح من جنوبي البلاد، والقبول باحتلال طويل الأمد للمناطق التي سيطرت عليها إسرائيل في أعقاب فرار الأسد، خاصة أن مشروعًا كهذا سيكون مصيره الفشل، نظرًا لرفض التيار الدرزي العام في سوريا، لأي مشاريع قد تُطرح لانفصالهم عن وطنهم- الأم بهذه الذريعة أو تلك.
كما أن تاريخ الدروز العروبي ودورهم في الثورة على بشار الأسد منذ عام 2011 إلى سقوطه، شهد غلبة التيار العروبي والديمقراطي على الانعزالي في صفوف الطائفة، برفض دروز السويداء الانخراط في الجيش السوري خلال تلك الفترة، بل وانشقاق ضباط دروز عن الجيش.
يُعطف على هذا رفض شيوخ وزعماء دروز الانخراط في لعبة النظام السوري لتوظيفهم ضد بقية مواطنيهم، ما اضطر هذا النظام للكشف عن أقنعته باغتياله عام 2015 الشيخ وحيد البلعوس، أحد مشايخ الطائفة الدرزية المعارض في مدينة السويداء، في تفجير سيارة ملغمة.
ويشار إلى أن مدينة جرمانا التي تحاول إسرائيل استغلال حادث يوم الجمعة فيها لصالح مشروعها التقسيمي، كانت من أولى المناطق التي أسقط فيها السكان في 7 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عشية إطاحة حكم بشار الأسد، تمثالًا نصفيًا لوالده حافظ الأسد كان موضوعًا في ساحة تحمل اسمه.