الأربعاء 9 تموز / يوليو 2025
Close

"هستيريا جماعية".. حين حصد الحرّ أرواح آلاف الأميركيين والفرنسيين

"هستيريا جماعية".. حين حصد الحرّ أرواح آلاف الأميركيين والفرنسيين محدث 04 تموز 2025

شارك القصة

خلال موجة الحر عام 1911، هجر الناس شققهم متوجّهين إلى المنتزهات والنوم تحت ظل الأشجار
خلال موجة الحر عام 1911، هجر الناس شققهم متوجّهين إلى المنتزهات والنوم تحت ظل الأشجار- The Library of Congress
الخط
في صيف 1911، اجتاحت موجة حر قاتلة الولايات المتحدة وفرنسا، فتسببت في وفيات جماعية وأحداث هستيرية غيّرت وجه التاريخ المناخي.

في السنوات الأخيرة، أعادت موجات الحرّ غير المسبوقة الناتجة عن تغيّر المناخ، إلى الواجهة ذكرى صيف 1911، حين حصد الحرّ أرواح آلاف الأميركيين والفرنسيين بصورة دراماتيكيّة.

ففي صيفٍ حارق لم يعرف فيه الناس المكيّفات ولا المراوح، سقط آلاف الضحايا في نيويورك وفي مدينة بوردو الفرنسية، نتيجة موجة حرّ استمرت لأكثر من أسبوعين، وأدّت إلى مقتل أكثر من 46 ألف شخص في فرنسا، وأكثر من ألفي شخص في الولايات المتحدة.

واعتُبرت موجة الحرّ لعام 1911 من بين أخطر موجات الحر التي شهدتها أوروبا وأميركا عبر التاريخ، حيث حاول السكان التأقلم بأساليب يائسة وصلت حدّ الانتحار.

ماذا حصل في يوليو 1911؟

بدأ شهر يوليو/ تموز 1911 بطقس معتدل، إلى أن هبّت رياح حارة وجافة من السهول الجنوبية في اليوم الرابع منه، حجبت نسيم المحيط ورفعت درجات الحرارة إلى نحو 40 درجة مئوية على طول الساحل الشرقي للولايات المتحدة. واستمرّت الحرارة لأيام متواصلة، ما أسفر عن وفاة 211 شخصًا في نيويورك وحدها.

وفي بروفيدنس بولاية رود آيلاند، قفزت درجات الحرارة 11 درجة مئوية في غضون نصف ساعة فقط. أما نيويورك وفيلادلفيا، فشهدتا حالات فوضى شديدة، حيث تدافع الناس في الشوارع للهرب من أشعة الشمس، بينما انهارت خطوط السكك الحديدية في مختلف أنحاء نيو إنغلاند، وتوقّفت خدمات البريد، وسقط الناس ضحايا لضربات الشمس.

أما في مانهاتن السفلى، فقد قفز شاب من رصيف بحري إلى الماء بعد ساعات من محاولته النوم في زاوية مظلّلة، وهو يصرخ: "لم أعد أتحمل هذا".

وفي هارلم، حاول عامل منهك من الحرّ الشديد إلقاء نفسه أمام قطار، ما اضطر الشرطة إلى تقييده بسترة المجانين.

وفيات بين كبار السن والأطفال

لم تكن مدينة نيويورك مهيّأة للتعامل مع الحرارة المرتفعة والرطوبة المصاحبة، ما زاد من اختناق المساكن وسوء التهوية، وأدى إلى وفيات عديدة بين كبار السن والرضّع، حيث فارق الحياة أطفال لا يتجاوز عمرهم أسبوعين.

مع تفاقم الأزمة، غادر الناس شققهم ولجؤوا إلى المنتزهات، في محاولة للعثور على الظلّ والنوم بين الأشجار في "سنترال بارك" وحديقة "باتري". وفي بوسطن، قضى أكثر من 5 آلاف شخص ليلتهم في حديقة "بوسطن كومن"، هربًا من خطر الاختناق في المنازل. وبكى الأطفال طوال الليل... أو لم يستيقظوا أبدًا.

أدت موجة الحر عام 1911 إلى وفاة كبار السن والصغار
أدت موجة الحر عام 1911 إلى وفاة كبار السن والصغار- The Library of Congress

سادت الشوارع حالة من الفوضى غير المسبوقة. وذكرت صحيفة "نيويورك تريبيون" أن الناس أُصيبوا بحالة من "الجنون" بسبب شدة الحرّ، فهاجم بعضهم رجال الشرطة. كما امتلأت الشوارع بالخيول النافقة التي عجزت عن تحمّل الحرارة القاسية.

إزاء ذلك، اضطرت السلطات إلى فتح صنابير إطفاء الحرائق، واستخدمت عربات الحماية المدنية لرشّ الطرقات بالمياه. كما لجأ العديد من الأميركيين، خصوصًا المرضى النفسيين، إلى الانتحار في محاولة للتخلّص من المعاناة.

الرطوبة تُفاقم الوفيات

لكن مع تراجع الحرارة في السابع من يوليو، لم تنته الكارثة. فقد بقيت الرطوبة مرتفعة، ما تسبب في سقوط مزيد من الضحايا. وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن الكثيرين "أصيبوا بالإرهاق وتوفوا في غضون ساعات بين السابعة والعاشرة صباحًا".

أما "نيويورك تريبيون"، فقد وصفت المشهد بصيغة دراماتيكية:

"لم يستطع الشيطان الوحشي الذي ضغط على نيويورك بإبهامه المشتعل لمدة خمسة أيام، أن ينجو من لعنة أخيرة، وعندما انخفضت درجة الحرارة، استعان بالرطوبة لمساعدته".

في بوسطن، بلغت الحرارة 40 درجة مئوية، وفي مدن مثل بانغور، مين، وناشوا، نيو هامبشاير، وصلت إلى 42 درجة. وفي وودبري، نيويورك، اضطر أحد المزارعين إلى مغادرة حقله بعد أن بلغت درجة الحرارة حدًّا كافيًا لإذابة الشموع.

الهروب إلى المياه.. ومزيد من المآسي

لم يمت الناس من الإرهاق وضربات الشمس فحسب، بل من محاولاتهم الهروب من الحرارة. لكن الهروب إلى المياه لم يكن أكثر أمانًا. إذ لقي نحو 200 شخص حتفهم غرقًا أثناء محاولتهم النجاة من الحرّ في البحيرات والمحيط والأنهار.

وفي هارتفورد بولاية كونيتيكت، لجأ الناس إلى العبّارات أملاً بنسيم بحري، بينما توقّفت المصانع، وتعطّلت وسائل النقل، وانهارت خطوط السكك الحديدية، كما بدأت مادة القار بالذوبان على الطرقات والأسطح تحت أشعة الشمس.

وكتبت صحيفة "هارتفورد كورانت":

"كان سطح الإسفلت في بعض الشوارع يغلي كالشراب تحت أشعة الشمس، ما جعل الأرصفة لزجة للمشاة والعربات على حد سواء".

حتى العواصف الرعدية لم تُنهِ الكارثة. ففي نهاية الأسبوع الأول، ضربت عاصفة نيويورك فجرًا، لكنّها لم تكن سوى زخّات مصحوبة برعد قوي اختفى سريعًا في المحيط، بحسب "نيويورك تايمز".

غرق نحو 200 شخص بعد قفزهم في المحيط والبرك والأنهار والبحيرات لمواجهة موجة الحر عام 1911
غرق نحو 200 شخص بعد قفزهم في المحيط والبرك والأنهار والبحيرات لمواجهة موجة الحر عام 1911- The Library of Congress

أما في بوسطن، فقد ألحقت العاصفة أضرارًا بالممتلكات وأزهقت أرواحًا تاه أصحابها أثناء العاصفة. وفي 13 يوليو تقريبًا، تسببت عاصفة رعدية جديدة بمقتل 5 أشخاص بسبب الصواعق، رغم انخفاض درجات الحرارة بعدها.

فرنسا الأكثر تضرّرًا في أوروبا

انتقلت الموجة لاحقًا إلى أوروبا، وكانت فرنسا الأكثر تضررًا. فقد استمرّت الموجة هناك 70 يومًا، من 14 يوليو/ تموز حتى 13 سبتمبر/ أيلول، وتجاوزت درجات الحرارة 38 درجة مئوية في ليون وبوردو وشاتودون.

أدّت الموجة إلى وفاة نحو 46 ألف شخص في فرنسا، بينهم 30 ألف طفل دون العام الواحد.

وكان حليب الرضّع من أبرز مسبّبات الوفيات، إذ تلوّثت مياه الشرب بفعل الحرارة، في ظل غياب المواد الكيميائية أو المرافق اللازمة للتعقيم. وبحسب موقع CNews، فقد غذّى المزارعون الأبقار بكميات مفرطة من الكعك والبنجر الفاسد، لعدم توفّر الأعلاف، ما أدى إلى فساد الحليب وإصابة الأطفال بالأمراض.

وذكر موقع Ouest-France أن موجة الحر ساهمت في تفشّي أمراض منقولة من الحيوانات، تسببت بدورها في سقوط آلاف الضحايا.

ما الذي تخبرنا به موجة 1911 عن اليوم؟

رغم مرور أكثر من قرن على موجة الحرّ القاتلة في صيف 1911، إلا أن ملامح تلك الكارثة المناخية تبدو مألوفة اليوم أكثر من أي وقت مضى، في ظل تصاعد موجات الحرّ العالمي وتسجيل درجات حرارة قياسية عامًا بعد عام.

لكن المفارقة أن ما عاشه الناس حينها في ظل غياب البنى التحتية والخدمات الصحية، بات يهدد حتى المجتمعات الحديثة المتقدّمة، التي تجد نفسها عاجزة أحيانًا أمام شراسة التغيّرات المناخية.

فهل باتت دروس التاريخ المناخي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى؟ وهل لا يزال أمام العالم متّسع من الوقت لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري، التي لم تعد مجرد إنذار علمي بل واقعًا يضرب بطرق مختلفة؟
تابع القراءة

المصادر

موقع التلفزيون العربي / ترجمات
تغطية خاصة