يُهدي المخرج المصري محمد خان، الباكستاني الأصل البريطاني الجنسية، فيلمه "موعد على العشاء" الذي أخرجه عام 1981 إلى "نوال"، وهي بطلة فيلمه التي قامت بدورها سعاد حسني.
وهذه من المرات النادرة وربما الوحيدة في تاريخ السينما المصرية التي تُهدى فيها شخصية روائية "متخيّلة" عملًا فنيًا، ما يكشف عن مزاج خاص ورؤية للمخرج يصبح فيه حضور الشخصية الروائية بقوة الشخصية الحقيقية، الواقعية، قبل تحوّلها إلى رمز يعمل على تطويره أو تعميق معانيه في أعماله السينمائية اللاحقة.

كان حضور سعاد حسني (1943-2001) في ذلك الفيلم هو الوحيد في أعمال خان التي زادت على العشرين، وهو من أفلامه المبكرة، ولم يتعاونا بعدها في أي فيلم آخر، لكن يبدو أن حسني التي تعتبر من أعظم المواهب في تاريخ السينما العربية ظلت مترسّبة في لا وعي خان الذي أهدى فيلم "فتاة المصنع" الذي أخرجه عام 2014 إليها، بعد ثلاثة عقود على تعاونهما السينمائي الوحيد.
يفتتح خان فيلمه "موعد على العشاء" بحفل زفاف يظهر فيه الزوج رجل الأعمال عزّت (حسين فهمي) معتدًا بنفسه إلى جوار عروسه نوال (سعاد حسني) التي تُظهرها الكاميرا حزينة، بعينين شبه دامعتين وبعيدتين، كأنما تنظران إلى داخلها أو إلى ماض بعيد.
وعندما يهمّ المصور بالتقاط صورة الزفاف يضطر إلى إدارة وجهها لتواجه عدسة الكاميرا، ورغم ذلك فإن نظرات نوال لا تتجه إلى العريس الأنيق، الواثق من نفسه حد الغرور، الذي يقف إلى جوارها.
المتسلّط والجميلة في "موعد على العشاء"
ليس ثمة حب هنا بل إكراه. شعور قاس بأنه تم بيعها، وها هي تنظر بعد مرور ست سنوات على زواجها من شرفة شقتها إلى الشارع فترى بحزن وأسى فتاة صغيرة تلعب.

بعد ذلك تذهب مع صديقاتها إلى مزاد علني فتستوقفها لوحة معروضة للبيع. في اللوحة فتاة صغيرة بضفيرتين تسير مع والدها في طريق محفوف بالأشجار.
تبدو عينا نوال حزينتين وهي تنظر إلى اللوحة كأنها تذكّرها بأب غائب، وهو ما يدفعها لمحاولة شراء اللوحة، وعندما تفشل تجهش بالبكاء أمام صديقاتها اللواتي يستغربن اهتمامها المفاجئ باللوحة.
ونعرف من المشهد أنها يتيمة الأب من دون أن تقول، وأن أمها زوّجتها رجلًا ثريًا لتطمئن عليها، ولكن ليس ثمة حب هنا.
كل نساء محمد خان يبحثن عن الحب، يُقمن في أحلامهن، ورغم جمالهن وهشاشتهن الظاهرة إلا أنهن صلبات وعنيدات فيما يتعلق بأحلامهن في الحب والانعتاق.
تطلب نوال الطلاق فيوافق الزوج الثري المشغول بإدارة أعماله على كُره، لكنها رغم ذلك ترفض تنازله عن الشقة الفاخرة لها، كما ترفض نفقة مجزية قرّر تخصيصها لها، لأنها كانت تبحث عن ذاتها، وتجدها في العمل سكرتيرة في مكتب محام، ولاحقًا في حب عمرها الذي تصادفه في شكري (أحمد زكي) خريج الفنون الذي يعمل في صالون تجميل للنساء.
لكنّ الزوج المتسلّط يرفض أن تُسلب منه ملكيته (نوال) رغم انفصالهما، فيعمد إلى قتل شكري، أي حلم نوال وخيارها، فتدبّر لطليقها موعدًا على العشاء، وتحضّر طعامًا مسمومًا له ولها، لينتهي الفيلم بموتهما، كأن حرية نوال لا تتحقق إلا بالموت.
هشاشة ظاهرة وصلابة في الداخل
لم يحظ فيلم خان بإيرادات كبيرة في شبّاك التذاكر في حينه، ككثير من أفلامه التي اكتشفها جمهوره والنقاد لاحقًا، ربما لأنه قائم على المشاعر، على سيكلوجيات مقموعة لا تعبّر عن نفسها بالطرق المألوفة، وهو ما تكرّر معه في "الحرّيف" عام 1984 الذي تسبّب في قطيعة بين خان وبطل الفيلم عادل إمام طيلة حياة الأول.
أُخذ الفيلم كما يروي بشير الديك كاتب سيناريو "موعد على العشاء" عن قصة حقيقية، ويروي أن خان اقترح عليه تطوير القصة التي قرأها في الصحف اللبنانية عن زوجة تقتل زوجها بالسم لتتحرر من علاقة أُكرهت عليها، لتصبح ما أنتجه الاثنان سينمائيًا.

على أن المرأة الحالمة الباحثة عن الحب وحسب، عما يحرّرها لا ما أو من يستعبدها، تعود مع محمد خان في واحد من أبرز وأهم أفلامه على الإطلاق: "زوجة رجل مهم".
إنها هنا "منى" التي يفتتح خان الفيلم عليها وهي طالبة صغيرة السن، تهرب في شتاء عام 1962 من المدرسة لتشاهد برفقة إحدى صديقاتها فيلمًا لعبد الحليم حافظ (فيلم بنات اليوم- إنتاج 1957)، لتقيم منذ ذلك العمر في أحلامها عن الحب، في زمن عبد الحليم حافظ، الذي نشاهده في ربيع 1975 يغني على شاشة التلفزيون بالأسود والأبيض بينما منى (ميرفت أمين) جالسة في بيت أهلها ومنسرقة إزاء الأغنية نفسها التي كان يغنيها في الفيلم، وهي "أهواك".

تتزوّج منى من الضابط في مباحث أمن الدولة هشام أبو الوفا، المتغطرس، الذي يحوز سلطات استثنائية بحكم منصبه، والذي يشبه عزّت زوج نوال في "موعد على العشاء"، فكلاهما يحب السيطرة، ويعتبر المرأة ملكية خاصة، وكلاهما يؤمن بالعنف أيضًا حين تعترض طريقه في التملك أو السيطرة أي معوّقات، وكلتاهما نوال ومنى تقيمان في وهم الحب أو تبحثان عنه ولا تجدانه في الزوج.
الانفتاح وانتفاضة الخبز
تتحرك أحداث "زوجة رجل مهم" في حقبة ما بعد حرب 1973 وبدء الانفتاح على الغرب مع تبعات ذلك على قيم المجتمع المصري التي بدأت بالانهيار، وتزامن ذلك مع إحكام نظام الرئيس الراحل أنور السادات قبضته الأمنية على البلاد.
وفي تلك الفترة يموت المطرب عبد الحليم حافظ (1929-1977)، وتندلع ما تسمى انتفاضة الخبز (العيش) في 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977.

وبحدوثهما تحدث القطيعة مع ماض جميل، والانتقال إلى واقع خشن تنهار فيه الأحلام، ومنها أحلام منى في الحب والحياة الطبيعية، عندما تكتشف أن زوجها هشام أبو الوفا وظّفها للتجسس على زملائها في الجامعة من دون أن تعلم، ولاحقًا حين يرفض هو التأقلم مع وضعه الجديد بعد إحالته إلى التقاعد لدوره العنيف في قمع طلاب الجامعات والمشاركين في انتفاضة الخبز.
وينتهي به الأمر إلى إطلاق النار على أبيها حين تقرر الانفصال عنه، كما فعل بطل "موعد على العشاء بقتله الرجل الذي أحبته طليقته، ومن ثم إطلاق النار على نفسه.
الواقعية الجديدة
قدّم خان عددًا من أهم الأفلام المصرية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وكان في طليعة موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية التي أصبحت تُعنى أكثر بواقع مواطنيه الذي شهد تحوّلات عاصفة في عصر الانفتاح على الغرب والسلام مع إسرائيل، ولا تكتفي بقصص الطبقة الارستقراطية بل الطبقة الوسطى أو العمالية كما في عدد من الأفلام.

وكان خان بالإضافة إلى عاطف الطيب وداود عبد السيد وخيري بشارة وسواهم، من نقلوا السينما إلى الشارع، لا بالمعنى المجازي بل الواقعي، فكثير من مشاهد أفلامهم صوّرت في الشوارع وخارج الاستوديوهات، ومنها "موعد على العشاء" و"زوجة رجل مهم".
وأنتج هؤلاء ما يمكن وصفها بالحساسية الجديدة في السينما، وسعوا لإنتاج حالة سينمائية مختلفة تتحرّر من هيمنة شركات الإنتاج، فأنشأوا (خان وبشير الديك وعاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبد السيد وآخرون) شركة إنتاج سمّوها "جماعة أفلام الصحبة" في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
لكنّ تلك التجربة لم تصادف النجاح المرجو، وإن أثمرت عن فيلم وحيد، هو "الحرّيف" من إخراج محمد خان، والذي يعتبر من بين الأهم على الإطلاق في مسيرة بطله عادل إمام.
وتدور أحداثه حول بطله "فارس"، لاعب كرة القدم الشعبية المعروفة بـ"كرة الشراب"، وعلاقته بطليقته وربّ عمله في مصنع الأحذية، وسماسرة المراهنات الصغار الذين يديرون شبكة علاقات معقدة تقتات على نتائج مباريات هذا النوع الشعبي من كرة القدم في الحارات والملاعب الصغيرة.
"سوّاق الأتوبيس" بين خان وعاطف الطيب
وبالإضافة إلى الإخراج فقد قام خان بكتابة قصص نحو اثني عشر فيلمًا قام بإخراجها، ويُسجّل له تقديم قصة "سواق الأتوبيس" إلى زميله عاطف الطيب الذي يعتبر من أفضل أفلامه، واحتل الرتبة الثامنة في قائمة أفضل مئة فيلم مصري.
ولمحمد خان أربعة أفلام مدرجة في القائمة، هي: "زوجة رجل مهم" و"أحلام هند وكاميليا" و"خرج ولم يعد" و"سوبر ماركت"، والفيلمان الأولان من بطولة أحمد زكي الذي شكّل مع خان ثنائيًا في أربعة أفلام أخرى، هي: "طائر على الطريق" و"موعد على العشاء" و"مستر كاراتيه" و"أيام السادات".
ولد خان في حي السكاكيني الشعبي بالقاهرة عام 1942 لأب باكستاني الأصل بريطاني الجنسية وأم مصرية، وهو وحيدهما.
عُرف بهوسه بالسينما منذ طفولته، حيث كان والداه يسكنان بالقرب من دار سينما مكشوفة، ومنها تعرّف إلى أحدث الافلام التي كانت تُعرض في مصر، ومنها أفلام أجنبية.

وعندما سافر إلى لندن عام 1956 لدراسة الهندسة المعمارية، وجد نفسه منجذبًا إلى السينما، عشق حياته، فترك الهندسة والتحق بمعهد السينما في لندن.
وأتاحت له إقامته في العاصمة البريطانية التي استمرت سبع سنوات، التعرف إلى تيارات السينما العالمية التي كانت تشهد حركات تجريبية كبرى خاصة في أوروبا، وهناك اكتشف أفلام فيدريكو فلليني ومايكل أنجلو أنطونيوني والياباني أكيرا كيروساوا.
الجنسية المصرية قبل وفاته
عاد إلى القاهرة عام 1963، وعمل لنحو عام في قسم السيناريو في شركة إنتاج سينمائي كان يديرها المخرج صلاح أبو سيف، قبل أن يسافر إلى لبنان حيث عمل مساعد مخرج في عدد من الأفلام التجارية.
ومن لبنان عاد مجددًا إلى لندن. وتسبّبت هزيمة عام 1967 في إحباطه، وانصرافه عن السينما، حيث افتتح هناك محلًا لبيع الملابس، وكان يمكن أن يظل على هذه الحال لولا تعرّفه إلى المونتيرة نادية شكري التي كانت في زيارة لبريطانيا.
وعندما زارته في بيته وجدت أفيشات الأفلام وكتب السينما تملأ جدرانه، فسألته عمّ يفعل في بريطانيا ما دام مهووسًا بالسينما إلى هذا الحد، وطلبت منع العودة إلى مصر لتحقيق أحلام حياته.

في تلك الفترة كانت قد كتب قصة "ضربة شمس"، فباع محله في لندن وعاد إلى القاهرة، وعرض القصة على الممثل نور الشريف الذي تحمّس لها وقام بإنتاجها عام 1978 ، وبعد ذلك أخرج "طائر على الطريق" عام 1981.
ونال الفيلمان استقبالًا حسنًا جماهيريًا ولدى النقاد، وعبّدا طريق خان إلى عالم الفن السابع واحدًا من أهم فنانيها في القرن العشرين.
ورغم إسهاماته السينمائية المتميّزة وتمثيله مصر في العديد من المهرجانات الدولية، بل وتعبيره في أفلامه عن الشخصية المصرية في تحوّلاتها الكبرى وتقلباتها، إلا أنه لم يحصل على الجنسية المصرية إلا عام 2014، قبل عامين من وفاته.
وكثيرًا ما كان يروي بأسى بالغ، شعوره بالمرارة عندما كان يعود إلى مصر فيُسأل عن جنسيته في المطار، فيقدّم جواز سفره البريطاني ليدخل إلى بلاده التي ولد فيها، وكان من بين قلة عبّروا عن روحها وشخصيتها.