الجمعة 23 مايو / مايو 2025
Close

"أصور لأوثق".. تجارب تختصر مآسي الحرب على غزة

"أصور لأوثق".. تجارب تختصر مآسي الحرب على غزة

Changed

شارك القصة

تزخر يوميات الحرب على غزة بمئات الصور التي تعبّر عن مآسي سكان القطاع - غيتي
تزخر يوميات الحرب على غزة بمئات الصور التي تعبّر عن مآسي سكان القطاع - غيتي
الخط
تختصر صور الحرب على غزة، الكثير من المآسي الإنسانية والتجارب المرّة، ومنها قصّة أم وليد، تلك المرأة التي فقدت كلّ أولادها، واحدًا تلو الآخر.

في طريق العودة من مشوار قريب من مشفى شهداء الأقصى، كانت الطفلة ميرا تركب في سيارة نقل عمومي، وقد وضعَت يديها في أذنيها. كانت تتّجه إلى المستشفى من أجل المراجعة الطبّية بعد إصابتها جراء قصف إسرائيلي قريب من منزلها. لكنّ المفارقة أنّ ميرا كانت تضع يديها طوال الوقت في أذنيها، خشية حدوث انفجارات، وقد صوّرتها مستأذنًا والدها.

هي واحدة من الصور التي أستحضرها اليوم من يوميات الحرب على غزة، وفي الذاكرة صور كثيرة لا تقلّ وقعًا، من الأطفال الذين كانوا يحملون ألعابهم فارين من قصف حي الرمال وسط مدينة غزة، أو أطفال مخيم الشاطئ للاجئين الذين يتابعون إطلاق الصواريخ بينما منازلهم من الصفيح، وأولئك الأطفال القادمين في سيارات الإسعاف يرتجفون، ينادون على آبائهم وأمهاتهم، الذين لا يعلم أحد مصيرهم.

"أصوّر لأوثّق"

تحت وسم "أصوّر لأوثّق"، نشرت مئات الصور من حرب غزة على حسابي في موقع "إكس"، حيث كنت أقضي وقتًا طويلاً في صياغة وصف للصورة التي أضعها، استشعارًا منّي لأهمية هذه الصورة، على صعوبتها.

ولمّا كان العمل المنوط بي كمراسل تلفزيوني صحفي توثيق الأحداث بالفيديو كتقارير تلفزيونية مصورة، كنت أجد نفسي في كثير من الأحيان أوثق بالصورة الفوتوغرافية ما أمرّ به من تفاصيل، باعتبار أنّ مشهد الفيديو السريع عاجز عن الإدلاء بتفاصيل قصّة تبدو فيها كل حركة كأنها حكاية منفصلة لوحدها.

فملامح الطفلة التي تذهب إلى طابور المياه في الصباح نشيطة، ليست هي ذاتها بعد ساعة أو ساعتين، وقد توقف الطابور لعدم توفر المياه، وكذلك الحال مع الطفل الواقف في طابور المخبز، وفي الدكان والصيدلية.

في الأثناء، بِتّ أعرف، أكثر من أي وقت مضى، أنّ هذه الصور التي تسكن بداخلي، أصبحت جزءًا من مساحة ذاكرتي، ولم يعد بوسعي نسيانها أو تجاهلها.

كم هو مؤلم مثلاً مشهد ذلك الرجل الذي قادني إلى غرفة العناية المركزة للأطفال الخدج حديثي الولادة، يقول لي إن طفله يحتاج لعملية جراحية في القلب وعلاج عاجل خارج القطاع. سارعت حينها لإنجاز تقرير تلفزيوني عن حالة الطفل، والتقطت إلى جانب ذلك، صورًا للطفل على سريره. وبعد أقل من 48 ساعة جاءني الرجل وهو يصرخ في ساحة المشفى في ساعات الليل، يناديني باسمي، يقول لي: "طفلي مات". مات الطفل ولم يستطع أحد إنقاذ حياته.

مهمّة غاية في الصعوبة

التصوير من أجل التوثيق، مهمّة غاية في الصعوبة، يعمل عليها فريق كامل، مدرَّب مسبقًا، وحينما تتاح له الفرصة والسلامة الشخصية. لكن في غزة، ومع تسارع الأحداث، بدا الأمر صعبًا للغاية.

تتجلّى هذه الصعوبة مثلاً في قصّة أم وليد، تلك المرأة التي قابلتني في الخيمة المخصصة للصحفيين، بمستشفى شهداء الأقصى صباح أول أيام شهر أبريل/ نيسان 2024، وهي من سكان مخيم البريج للاجئين، حيث عشت سنوات طفولتي هناك.

التصوير من أجل التوثيق، مهمّة غاية في الصعوبة، يعمل عليها فريق كامل، مدرَّب مسبقًا - غيتي
التصوير من أجل التوثيق، مهمّة غاية في الصعوبة، يعمل عليها فريق كامل، مدرَّب مسبقًا - غيتي

نادتني بلهجة لائم، تقول لي إن القصص التي أنشرها لم تتطرق لبناتها، فاستشعرت حينها أن مشكلة ما قد حدثت، أو أن تقصيرًا قد وقع، فبدأت السيدة تروي لي ما حلّ بها، من باب العتب. قالت لي إن ابنها وليد عاش سنوات طفولته مريضًا بالسرطان، وتوفي بعد رحلة علاج داخل القطاع وخارجه، ولم يوثّق صحفي قصته، كونه واحد من عشرات الحالات.

وتضيف السيدة أن طفلتيها مرام وشيرين استشهدتا في الحرب جراء قصف مركبة في سوق مخيم النصيرات للاجئين قبيل أذان المغرب في شهر رمضان. قلت لها معتذرًا إنني نقلت الخبر في حينه من دون ذكر جزئية أنهما شقيقتان، ولم أكن أعرف أنهما ابنتاها، لأنه كان يومًا داميًا، وقد وصل للمشفى عشرات الشهداء، ثم أخبرتني أنها تعيش الآن مع توفيق، ابنها الوحيد المتبقي لها في منزل بمخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة.

لامتني أم وليد، واللوم هنا قاسٍ جدًا، تقول إن لطفلتيها حقًا في نقل قصتهما وصورهما للعالم، فوعدتها جازمًا أن أكتب عنهما ما أستطيع كتابته، وبعد أيام جاءني خبر الموافقة على سفري عبر معبر رفح البري، ولهذا التفصيل حكاية سأكتب عنها لاحقًا، لكن لم يحدث أي اتصال بيننا من ذلك الوقت، سوى أننا تبادلنا أرقام الهواتف.

مأساة أم وليد

من مشاهد ويوميات الحرب، لا يُنسى الثامن من يونيو/ حزيران، في اليوم الأخير من زيارة قصيرة قمت بها إلى الدوحة. حينها، ارتكبت إسرائيل مجزرة بحق المدنيين في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. كان وقع هذا الحدث كبيرًا عليّ. فبيما كان المسافرون في المطار يستمتعون برحلتهم، كانت عيناي تنتقلان من هاتفي المحمول إلى شاشة التلفزة في المطار التي تبث صورًا مباشرة من مشفى شهداء الأقصى، الذي أقمت فيه سبعة أشهر وأيام.

لكن يحدث ما هو أغرب من الخيال. أشاهد مقطع فيديو على هاتفي، من إحدى مجموعات الواتسأب. فيه يظهر شبّان أمام ثلاجات الموتى، وهم يحملون طفلاً صغيرًا، يقولون إنه ما زال حيًا، ويركضون به إلى داخل المشفى. أعرف بعد ذلك أهله من خلفه، فتكون أم وليد هي الأم، والطفل هو توفيق، آخر من تبقى لعائلته الصغيرة.

ركبت الطائرة وانقطعت الأخبار. وصلت لمطار القاهرة، وهمّي أن أعرف مصير توفيق أكثر من أي شيء آخر. وبعد اتصالات تأكدت أن الطفل حي، ودخل غرفة العناية المركزة. لكنّه القدر، القدر الذي لم يسمح لي بتصوير توفيق حيًا، كما لم أصوّر شقيقه مريض السرطان، وشقيقتيه الشهيدتَين، فتوفيق استشهد متأثّرًا بجراحه بعد أقلّ من أسبوع.

قدمت التعازي لوالدته هاتفيا على خجل وحزن، لم أنبس ببنت شفة عن تفاصيل الحكاية، وأي تفاصيل أريد أن أعرفها، وقد أصبح توفيق الذي كنت سأكتب عنه شهيدًا، وأن الصورة التي كانت تريدها أمه له وهو الوحيد بالنسبة لها، أصبحت قصة يعرفها العالم كله.

نَم يا توفيق إلى جوار شيرين ومرام، وقد رقد من قبلكم أخوكم وليد. ألوم نفسي كثيرًا، ولم يعد بوسعي التحمل، عن تلك القصص التي فاتتني ولم أصورها، وأقول إن عمق حزني لا يوازي عمق المأساة التي ما زالت تحيط بنا من كل جانب.

المصادر

موقع التلفزيون العربي
تغطية خاصة
سياسة - سوريا

شارك القصة

Share
نشرت السفارة الأميركية في أنقرة بيانًا رسميًا بشأن تعيين توماس باراك مبعوثًا خاصًا إلى سوريا - غيتي
نشرت السفارة الأميركية في أنقرة بيانًا رسميًا بشأن تعيين توماس باراك مبعوثًا خاصًا إلى سوريا - غيتي

جاء تعيين توماس باراك مبعوثًا خاصًا إلى سوريا، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قبل أيام رفع العقوبات الأميركية على سوريا.

سياسة - العالم

شارك القصة

Share
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وديفيد زيني
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وديفيد زيني - وسائل إعلام عبرية

قرر نتنياهو الخميس تعيين اللواء ديفيد زيني رئيسًا للشاباك، خلفًا للمقال رونين بار الذي ينهي مهامه في 15 يونيو المقبل.

سياسة - أميركا

شارك القصة

Share
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي خلال لقائه وزير الخارجية العماني بدر بن حمد البوسعيدي - غيتي
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي خلال لقائه وزير الخارجية العماني بدر بن حمد البوسعيدي - غيتي

قال عراقجي إن المفاوضات النووية معقدة جدًا إلى درجة لا يمكن إنجازها في اجتماعين أو ثلاثة، واصفًا التواصل مع واشنطن بأنه "مهني" جدًا.