في خطوة تعد تحولاً استراتيجيًا في مسار العلاقات الأميركية-الأوكرانية، أعلنت كل من واشنطن وكييف في الأول من مايو/ أيار 2025 عن توقيعهما اتفاقًا مشتركًا، حول الاستثمار في الموارد الطبيعة الأوكرانية.
ورغم غياب النص الرسمي حتى الآن، فإن التصريحات السياسية من الجانبين، وكذلك التسريبات الصحفية، تُظهر أن الاتفاق ليس مجرد آلية إقتصادية بل يحمل دلالات سياسية، والأهم من ذلك، أمنيّة عميقة، ويؤشر على تحول في هندسة النفوذ الأميركي في أوكرانيا، وسط حرب لا تزال مفتوحة ولم تحسم بعد.. وحراك تفاوضي يتصاعد في الخلفية.
فما هو محتوى اتفاق الموارد بين واشنطن وكييف؟
وفق ما صرحت به يوليا سفيريدينكو، والتي تشغل منصب النائب الأول لرئيس الوزراء ووزيرة التنمية الإقتصادية في الحكومة الأوكرانية الحالية:
- سيتم إنشاء صندوق استثمار مشترك لإعادة إعمار أوكرانيا، بنسبة 50/50 بين واشنطن وكييف، بحيث لا يكون لأي من الطرفين حصة مسيطرة.
- الموارد الطبيعية، بما فيها المعادن والنفط والغاز، تظل مملوكة للدولة الأوكرانية.
- لا يمتلك أي طرف من الطرفين حق الفيتو داخل الصندوق المشترك لإدارة هذا الاتفاق، لضمان تكافؤ الشراكة.
- المساعدات الأميركية السابقة لا تعتبر ديونًا على أوكرانيا، ولا تحتسب كجزء من مساهمة واشنطن في هذا الصندوق.
- لا يلزم الاتفاق واشنطن بتقديم استثمارات جديدة، بل يترك ذلك لقرارات منفصلة تتخذ لاحقًا.
وإذا نظرنا إلى ما ذكرته الصحافة الأوكرانية بهذا الخصوص، نرى أنها أشارت إلى أن الاتفاق لا يتضمن أي التزام أميركي صريح بضخ أموال، كما لا يمنح أوكرانيا ضمانات أمنية مباشرة.
في المقابل، قال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، عقب الإعلان عن التوقيع، إن الاتفاق "يوجّه رسالة واضحة إلى روسيا"، بينما قال الرئيس دونالد ترمب من مكتبه إنه قال لنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن "روسيا أكبر وأقوى"، وأن هذه الصفقة "ستجلب لأميركا أكثر مما أنفقت".
هل البعد الأمني هو أساس الاتفاق؟
عقب الإعلان عن توقيع الاتفاق، نشرت صحيفة كييف بوست تقول إن إدارة ترمب قررت رفع القيود عن مبيعات الأسلحة التجارية لأوكرانيا ضمن برنامج DCS (يقصد به نظام Direct Commercial Sales المبيعات التـجارية المـباشرة)، في خطوة تفتح الباب أمام إعادة تسليح من خارج الأطر الحكومية التقليدية.
لكن اللافت أيضًا، وذلك حسبما ذكرت وكالة رويترز تعليقًا على الاتفاق، أنه لم يتضمن أي ضمانات دفاعية، رغم أن ذلك كان هدفًا رئيسيًا لكييف في بداية التفاوض، وأصر زيلينسكي على تكراره في مناسبات عديدة.
ويُفهم من النص (الذي تقول رويترز إنها اطلعت عليه) أن أي مساعدات عسكرية مستقبلية قد تسجل كاستثمارات في صندوق إعادة الإعمار، ما يعني أن واشنطن ستحتفظ بحق إدراتها لأوجه الدعم العسكري ضمن حسابات مالية دقيقة.
الموقف الروسي: امتصاص التصعيد والمراهنة على الثنائية
من موسكو، جاء الرد رسميًا على لسان المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، الذي أكد أن أي تسوية سياسية لا بد أن تتم بين روسيا وأوكرانيا، وليس عبر واشنطن. وصرح بأن موسكو ما زالت مستعدة للحوار المباشر مع كييف من دون شروط مسبقة، وهو ما اعتُبر إشارة تكتيكية جديدة لتخفيف الضغط الدولي.
وفي تطور مواكب أعلن المدير العام لشركة روس آتوم الروسية، أليكسي ليخاتشوف، وهو من المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استعداد موسكو لمناقشة آليات التعاون مع الولايات المتحدة بشأن محطة زابوروجيا النووية، ما بدا فتحًا لقناة موازية خلف التوترات.
إلا ان الخارجية الروسية، وعلى لسان الوزير سيرغي لافروف، أوضحت أن المحطة تخضع لسيادة روس آتوم، ولا يمكن نقلها لإشراف خارجي، وذلك تعليقًا على تقارير أميركية عن نية إدراة ترمب إقامة منطقة منزوعة السلاح حول المحطة تكون تحت إشراف أميركي.
تحليل تقديري: أبعاد الاتفاق وأهدافه غير المعلنة
1- الولايات المتحدة تُعيد تعريف دورها في أوكرانيا، من داعم مباشر إلى شريك اقتصادي مهيمن، دون التزامات أمنية حقيقية، ما يسمح لها بتحقيق مكاسب استراتيجية دون تكلفة عسكرية إضافية.
2- أوكرانيا تسعى لتثبيت الدعم الأميركي دون الدخول في التزامات مالية مستقبلية، لكنها قد تجد نفسها – فعليًا- في وضع يشبه "التعهيد السياسي" لثرواتها مقابل الغطاء السياسي والعسكري.
3- روسيا تدرك أن الاتفاق لا يغير واقع الحرب ميدانيًا، لكنها تتابع بقلق من زاوية النفوذ الاقتصادي الطويل الأجل لواشنطن في دولة كانت سابقًا ضمن مجالها الحيوي.
4- الاتفاق لا يتناول مستقبل النزاع بوضوح، لكنه يضع أساسًا لحضور أميركي طويل الأمد في الاقتصاد الأوكراني، وقد يُستخدم كورقة ضغط في أي مفاوضات مقبلة مع موسكو.
التوصيات
1- فهم التحولات في مفهوم الدعم الغربي:
-
الدعم بات يترجم إلى آليات اقتصادية واستثمارية تتضمن حضورًا سياسيًا ناعمًا، وهو نموذج مرشح للتكرار في أكثر من ساحة عربية.
2- تعزيز التشريعات الوطنية لحماية الموارد:
-
وجوب تحصين الثروات السيادية عن طريق تبني أطر قانونية واضحة وشفافة تضمن الرقابة الوطنية على الصناديق الاستثمارية المشتركة.
3- الحذر من الديون غير المسجلة:
-
المساعدات التي لا تُحتسب كديون قد توظف لاحقًا كوسيلة ضغط سياسي أو اقتصادي في المفاوضات المستقبلية.
4- تأسيس وحدات رصد للعقود الحالية:
-
خاصة تلك المرتبطة بالموارد الطبيعية، وذلك لفهم ابعادها الحقيقية وتأثيراتها على السيادة الوطنية.
5- الاستثمار في المعرفة الاستراتيجية:
-
دعم مراكز الدراسات الوطنية لاستباق التوجهات الغربية الجديدة التي توظف الاقتصاد كأداة هيمنة ناعمة، لا تقل خطرًا عن التدخل العسكري المباشر.
وفي الختام
ما يبدو على السطح اتفاقًا اقتصاديًا لإعادة إعمار أوكرانيا، هو في العمق تأسيس لمرحلة جديدة من النفوذ الأميركي طويل الأمد، لا من بوابة القواعد العسكرية، بل من بوابة إدارة الثروات والبنى التحتية.
وفي لحظة فارقة من إعادة ترتيب موازين القوى العالمية، علينا كعرب أن نقرأ هذا الاتفاق لا كمجرد حدث بعيد عنا جغرافيًا، بل كإشارة محتملة لتوجهات سياسات القوى الكبرى مستقبلاً تجاه منطقتنا.