الجمعة 23 مايو / مايو 2025
Close

الثروات النفطية والزراعية: كنز شرق الفرات في ميزان الصراع (2)

الثروات النفطية والزراعية: كنز شرق الفرات في ميزان الصراع (2)

Changed

شارك القصة

تمتلك منطقة شرق سوريا معظم الثروة النفطية والغازية للبلاد - غيتي
تمتلك منطقة شرق سوريا معظم الثروة النفطية والغازية للبلاد - غيتي
الخط
قد يكون الانسحاب الأميركي فرصة نادرة لاستعادة سوريا عافيتها بإرادة ذاتية، لكنه أيضًا قد يكون منعطفًا خطيرًا إن لم يتم الاستعداد له بشكل كافٍ.

تُعد الموارد الطبيعية في مناطق شرق الفرات الجوائز الأثمن التي تتنافس عليها جميع الأطراف التي تطلّعت تاريخيًا للسيطرة على مناطق شرق الفرات في حال انسحاب الأميركيين (راجع الجزء الأول من هذا المقال)، لما لها من أهمية اقتصادية إستراتيجية على المديين المتوسط والبعيد.

ففي هذه المنطقة كنز نفطي وزراعي يمكن أن يغير موازين الاقتصاد السوري بمجرد استثماره تحت إدارة موحدة. وقد استخدم محللون وصف "الكنز" للإشارة إلى حقول النفط والغلال الزراعية التي ستكون من نصيب من يبسط سيطرته النهائية على تلك الأنحاء.

النفط: عصبٌ اقتصادي ينتظر من يستثمره

تمتلك منطقة شرق سوريا معظم الثروة النفطية والغازية للبلاد. فحقول النفط الكبرى مثل الرميلان والجبسة والسويدية والشدادي تقع جميعها في محافظة الحسكة وأقصى ريف دير الزور الشرقي. وقد سيطرت وحدات حماية الشعب الكردية (النواة الأولى لقسد) على هذه الحقول منذ منتصف عام 2012 بعدما انسحب جيش النظام السابق منها. وفي السنوات التالية، أضافت قسد إلى حوزتها حقولًا أخرى انتزعتها من تنظيم الدولة، أبرزها حقلا كونيكو والجفرة للغاز في ريف دير الزور (استعيدت في سبتمبر/ أيلول 2018).

يبلغ عدد الآبار النفطية التابعة لحقل رميلان وحده حوالي 1322 بئر نفط إضافة إلى 25 بئر غاز في حقل السويدية، لكنها بمعظمها متوقفة أو تعمل بطاقة منخفضة بسبب أضرار الحرب ونقص الموارد التقنية. تخضع هذه المنشآت لإدارة محلية تابعة للإدارة الذاتية (إدارة حقول رميلان) حيث يُستخرج النفط الخام بكميات محدودة ويُجرى فصل الغاز والماء عنه بشكل بدائي. وتشير سمر حسين (نائبة هيئة الطاقة في الإدارة الذاتية) إلى أن عدد الآبار العاملة حاليًا محدود جدًا قياسًا بالإمكانات، وأن إعادة تأهيل البنية التحتية النفطية تحتاج إلى معدات حديثة وحفّارات متطورة غير متوفرة حاليًا.

رغم ذلك، استطاعت الإدارة الذاتية خلال السنوات الأخيرة تأمين دخل مالي عبر بيع جزء من النفط المستخرج. وبحسب موقع "عنب بلدي" المحلي، بدأت الإدارة الذاتية منذ 2017 تقريبًا تصدير النفط الخام بشكل غير رسمي إلى إقليم كردستان العراق ومنها إلى الأسواق العالمية، بمعدل إنتاج يتراوح بين 60 و70 ألف برميل يوميًا من حقول رميلان. ويتم تهريب النفط عبر صهاريج وشبكات نقل غير نظامية، وأحيانًا يُخلط النفط المستخرج مع نفط مستورد من أربيل لتمويه مصدره.

كما استمرت قنوات التواصل مع النظام السابق في بيع جزء من النفط للنظام نفسه مقابل عوائد مالية؛ حيث أفادت معلومات أن حكومة الأسد منحت الوحدات الكردية مع بداية سيطرتها ميزات تشغيل الحقول مقابل أن تحصل دمشق على قسم من الإنتاج. وقد ظل الاتفاق الضمني بين الطرفين غامضًا لكنه قائم على قاعدة تبادل المنفعة: الأكراد يحصلون على السيولة والمواد التشغيلية، والنظام ينال نفطًا هو بأمس الحاجة إليه من دون أن يتكلف عناء حمايته.

يعلّق الدكتور عبد المنعم الحلبي (أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية) على ذلك بالقول إن "كل العمليات في قطاع النفط حاليًا تتم عبر كوادر كانت تعمل سابقًا بموافقة النظام، مع الاستعانة بخبرات استشارية غربية"، بمعنى أن النظام السوري السابق حقق استفادة كبيرة من نفط شرق الفرات خلال الأعوام الماضية دون تحمل كلفة السيطرة العسكرية على تلك المناطق التي تولتها قسد.

لكن هذه الوضعية ستتغير جذريًا في المرحلة المقبلة. فإذا نجحت الدولة السورية الجديدة في بسط سيطرتها على الحقول النفطية بعد انسحاب الأميركيين وتراجع قسد، فسيصبح النفط ورقة بيد الحكومة الشرعية المركزية للمرة الأولى منذ 2012. وهذا سيناريو يحمل إغراءً هائلًا: فإنتاج عشرات الآلاف من البراميل يوميًا قد يؤمن دخلاً بملايين الدولارات تحتاجه خزينة الدولة لإعادة الإعمار. بيد أن استغلال النفط تجاريًا يتطلب اعترافًا دوليًا ورفعًا للعقوبات وتعاونًا مع شركات كبرى، وهي أمور لن تتأتى بسرعة.

يشير أحد خبراء الاقتصاد المحليين، ديروك ملا بشير (نائب هيئة الاقتصاد في الإدارة الذاتية سابقًا)، إلى أن النفط رغم أهميته "لا يمكن أن يكون ركيزة الاقتصاد في شمال سوريا لأنه ليس سلعة تجارية متاحة بل مرتبطة بموافقات سياسية لدول". فبيع النفط وتصديره رسميًا يستلزم ترتيبات معقدة ورفع حظر وفتح منافذ حدودية، بينما اقتصاد المناطق الشرقية اعتمد خلال الحرب على الزراعة كمورد أساسي. ويتفق الدكتور الحلبي مع ذلك جزئيًا، إذ يرى أن الإدارة السابقة لمنطقة شرق الفرات اعتمدت فعليًا على عائدات النفط والرسوم التي تتقاضاها على مرور البضائع عبر حواجزها أكثر من اعتمادها على إنتاج زراعي مستقر.

وفي المحصلة، سيبقى قطاع النفط السوري رهينة التوازنات الإقليمية والدولية. فإذا انخرطت روسيا أو شركات غربية في تطوير الحقول، سيغضّ المجتمع الدولي النظر عن إعادة تشغيلها لصالح الحكومة الجديدة. أما إذا حاولت إيران الانفراد بها، فقد تواجه عقوبات وتعطيلاً مستمرًا. الأكيد أن النفط السوري سيكون محور مساومات في الفترة المقبلة، خاصة مع اشتداد حاجة كل الأطراف له: الحكومة السورية الجديدة لإعمار البلاد، وروسيا لتعويض تكاليف تدخلها، وإيران للتخفيف من أثر العقوبات الأميركية عليها.

تقع جميع حقول النفط الكبرى في محافظة الحسكة وأقصى ريف دير الزور الشرقي - غيتي
تقع جميع حقول النفط الكبرى في محافظة الحسكة وأقصى ريف دير الزور الشرقي - غيتي

القمح والزراعة: سلة الغذاء السورية بيد من؟

إلى جانب النفط، تتمتع منطقة الجزيرة السورية (شمال شرق سوريا ولا سيما محافظة الحسكة) بأهمية استثنائية باعتبارها الخزان الغذائي للبلاد. فقبل اندلاع الثورة السورية 2011، كانت محافظة الحسكة وحدها تنتج 36% من إجمالي محصول القمح السوري سنويًا وفق بيانات وزارة الزراعة في عهد النظام السابق. وكانت سوريا تحقق اكتفاءً ذاتيًا من القمح إلى حد كبير، بل وتصدر الفائض أحيانًا خلال مواسم الخير.

لكن بعد 2011، تراجع الإنتاج بسبب الحرب وهجرة الفلاحين وموجات الجفاف، لتصل محاصيل مناطق الإدارة الذاتية (قسد) عام 2018 إلى ما بين 550 و600 ألف طن فقط من القمح - أي حوالي نصف المعدل السابق (كان الإنتاج قبل الثورة نحو مليون طن سنويًا وسطيًا). يشرح الدكتور عبد المنعم الحلبي أن مناطق الجزيرة الزراعية تمتلك إمكانيات كبيرة، لكن طريقة الإدارة والحكم خلال سنوات الحرب إضافة للظروف الأمنية أدت إلى خسارة جزء كبير من القوى العاملة الخبيرة نتيجة هجرة الشباب.

ورغم انخفاض الإنتاج، ظلت حبوب القمح محور تجاذب بين الإدارة الذاتية والنظام السابق. فهذه المادة أساسية لأمن سوريا الغذائي ولا يمكن الاستغناء عنها. لذا سعى النظام في دمشق عام 2018 لشراء أكبر كمية ممكنة من محصول القمح في الحسكة عبر خطة حكومية رصدت لها 80 مليار ليرة سورية. وبالفعل أرسل وفودًا وقدّم إغراءات للفلاحين لبيع محاصيلهم لمراكز الشراء التابعة له بدلاً من بيعها للإدارة الكردية.

في المقابل، دخلت الإدارة الذاتية على خط المنافسة أوائل 2019، فرفعت سعر الشراء واستهدفت شراء 200 ألف طن من القمح لتحقيق الاكتفاء الذاتي. كما أصدرت قرارات بمنع إخراج القمح من مناطق سيطرتها إلى بقية المناطق السورية أو إقليم كردستان، في حين سمحت بتصدير الشعير والبقوليات فقط. وأدّى هذا التجاذب في بعض الحالات إلى توتر أمني على الحواجز، لكن الأهم أنه أظهر للجميع أن من يسيطر على حقول القمح يمتلك ورقة ضغط حيوية.

ستحدد الأشهر الأولى التي تلي الانسحاب الأميركي شكل التوازنات القادمة. فإذا نجحت الدولة السورية (بثوبها الجديد) في تثبيت وجودها شرق الفرات وتطمين جيرانها واستثمار مواردها، فسينطلق قطار التعافي فعليًا، وستتحول سوريا من ساحة حرب إلى ورشة إعادة إعمار وبناء.

من هنا، فإن عودة منطقة الجزيرة إلى سلطة الدولة السورية الجديدة ستعني الكثير. فهي ستمكن الحكومة من التخطيط مركزيًا من جديد لتأمين المخزون الإستراتيجي من القمح وتوزيع المحاصيل على جميع المحافظات بشكل عادل. كما ستفتح المعابر النظامية لنقل الحبوب جنوبًا وغربًا، بدل اضطرار الإدارة السابقة لشحنها بطرق ملتوية عبر كردستان العراق. وبذلك قد تنخفض أسعار الخبز وتكاليف نقل الغذاء، مما ينعكس إيجابًا على الأمن الغذائي للسوريين ككل.

ويشير أحد المعنيين في قطاع الحبوب (رفض ذكر اسمه) إلى أن سوريا ما بعد الحرب تحتاج إلى ثورة زراعية لاستعادة إنتاج القمح إلى سابق عهده، تبدأ بإعادة آلاف المزارعين المهجّرين إلى أراضيهم وتأمين البذار والمحروقات بأسعار مدعومة. ولن يكون هذا ممكنًا دون استقرار أمني وتوحيد إدارة تلك المناطق. وبالتالي، فإنّ أي خلل أمني أو نزاع جديد هناك سيعني استمرار هدر ثروة القمح. ولعل أفضل دليل هو ما حصل خلال سيطرة تنظيم الدولة: أحرقت آلاف الدونمات من حقول القمح إما بالمعارك أو عمدًا كوسيلة حرب نفسية (مشهد حرائق القمح 2017 في صور الإعلام لا يزال حاضرًا). لذا فإن إنهاء حال الانقسام وترسيخ سيطرة حكومية مركزية سيجعل ثروة القمح المهدورة موردًا مستدامًا يعزز اقتصاد سوريا ويخفف اعتمادها على الاستيراد في لقمة عيش شعبها.

الموارد المحلية بين أيدي من؟

رغم كل ما تقدم، يجدر التنبيه إلى أن مجرد السيطرة العسكرية لا تعني تلقائيًا استثمارًا فعّالًا للموارد. فقد رأينا أن الإدارة الذاتية رغم تحكمها بالآبار والحقول لم تستطع تحقيق ازدهار اقتصادي، بل بالكاد حافظت على الحد الأدنى بسبب المعوقات العديدة. فالموارد الزراعية مثلاً عانت من إغلاق المعابر مع مناطق النظام السابق ومع العراق، وتضررت مساحات واسعة بسبب المعارك. وكذلك الثروة النفطية بقيت معطلة إلى حد كبير نتيجة تهالك البنية التحتية وخروج الشركات الأجنبية.

وبالتالي، فإنّ التحدي أمام الحكومة الجديدة ليس فقط بسط اليد على هذه الكنوز، بل توفير مناخ آمن واستقدام استثمارات وخبرات لإعادة تشغيلها بكفاءة. وربما يكون أفضل ما في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي هو إمكانية توحيد الجهود بين السوريين أنفسهم لاستغلال موارد بلادهم بعيدًا عن استراتيجيات دولية متضاربة. فإذا نجحت تفاهمات دمشق الجديدة مع القوى الكردية من جهة، ومع أنقرة من جهة أخرى، في تجنيب المنطقة صدامًا واسعًا، فسيمكن حينها التفرغ لإعادة إعمار البنى التحتية وتحويل شرق الفرات إلى قاطرة للاقتصاد الوطني كما كان ممكنًا أن يكون دائمًا.

عانت الموارد الزراعية من إغلاق المعابر مع مناطق النظام السابق ومع العراق، وتضررت مساحات واسعة بسبب المعارك - غيتي
عانت الموارد الزراعية من إغلاق المعابر مع مناطق النظام السابق ومع العراق، وتضررت مساحات واسعة بسبب المعارك - غيتي

السياحة وعودة الحياة: بارقة أمل في ظل السلطات الجديدة

وسط هذه الصورة المعقدة للتجاذبات السياسية والاقتصادية، برز بصيص أمل مع عودة النشاط السياحي إلى سوريا بشكل مفاجئ وسريع بعد سقوط نظام الأسد. فعلى مدار سنوات الحرب، انعدمت تقريبًا السياحة الخارجية إلى سوريا بسبب الأوضاع الأمنية والقمع الذي مارسه النظام السابق. لكن مع بداية 2025، وبعد شهور قليلة من تولي الحكومة الانتقالية زمام الحكم، بدأت شركات السياحة الدولية تضع سوريا مجددًا على خارطة وجهاتها.

وأعرب أصحاب شركات سياحية عن تفاؤلهم الكبير بالنشاط السياسي الجديد في سوريا، مشيرين إلى بوادر انتعاش غير مسبوقة في القطاع. في هذا السياق، يقول أيوب الصمادي صاحب شركة "سيريا سكوب" للسياحة: "كل شيء الآن أفضل من ذي قبل، والجميع متفائل بعد سقوط الأسد، خاصة مع الشتاء الجميل". ويلخّص هذا التصريح حال التفاؤل الشعبي بمرحلة ما بعد الاستبداد، حيث يأمل السوريون أن يعود بلدهم مقصدًا آمنا وجاذبًا للزوار كما كانت سابقًا.

فقبل الحرب، استقبلت سوريا عام 2010 أكثر من 10 ملايين سائح أجنبي جالوا في مدنها التاريخية من دمشق وحلب إلى تدمر وعمريت على الساحل. وكانت السياحة حينها تساهم بنسبة ملموسة في الناتج المحلي وتؤمن دخلًا كبيرًا لآلاف العاملين في القطاع. ومع أن اندلاع الحرب في 2011 قضى على هذا النشاط تمامًا، إلا أن المستثمرين لم يفقدوا الأمل في عودته بمجرد توفر الظروف الملائمة. وبالفعل، ما إن أعلنت عدة دول رفع التحذير عن سفر مواطنيها إلى سوريا أواخر 2024 حتى بدأ منظمو الرحلات بتنظيم جولات سياحية تجريبية.

جيمس ويلكوكس مؤسس شركة “أنتيمد بوردرز” (Untamed Borders) البريطانية، أشار في حديث إعلامي إلى أن السياحة "أداة قوية بشكل لا يُصدق لمساعدة المدن على التعافي من سنوات الحرب"، كاشفًا أنه يعد برنامج رحلات إلى سوريا في المستقبل القريب. كما قام ديلان هاريس مؤسس شركة "لوبين Travel" بزيارة تقييم أمني لمدة 10 أيام إلى سوريا تحضيرًا لجولات سياحية في مايو/ أيار المقبل. وقد صرّح هاريس بعد جولته قائلاً: "في ظل الوضع الحالي في المناطق التي نزورها، فهي أكثر أمانًا مما كانت عليه منذ 14 عامًا. البلاد مستقرة حاليًا، لكننا ندرك أن الوقت ما زال مبكرًا وأن الوضع قد يتغير بسرعة. ستتضح الأمور أكثر في مارس وأبريل بعد مرور بضعة أشهر على تولي الحكومة الانتقالية السلطة". ويعكس هذا التصريح حذر المستثمرين: فبالرغم من الأمان النسبي المستجد، يدركون هشاشة المرحلة الانتقالية وضرورة ترقب كيفية ترسيخ السلطات الجديدة حكمها وإدارة الأمن.

من جهتهم، بدأ السوريون أنفسهم يلمسون الفرق في مناخ البلاد. يقول عدنان حباب وهو مدير شركة سفر وسياحة اضطر لإغلاق فندقه في دمشق القديمة عام 2011 مع بدء الاضطرابات: "كلما أحضرتُ سياحًا إلى سوريا سابقًا، كانت مخابرات النظام تؤم مكتبي لتسألني من هم؟ أين ذهبوا؟ ماذا فعلوا؟… لقد افترض نظام الأسد أن جميع السياح جواسيس حتى يثبت العكس. كان وقتًا صعبًا للعمل في السياحة". هذا الكلام يسلط الضوء على عقلية الأمن المفرط التي طبعت حقبة الأسد وجعلت ازدهار السياحة أمرًا شبه مستحيل رغم غنى سوريا بالآثار والمقومات السياحية.

أما اليوم، في ظل السلطات الحالية المنفتحة، فتأمل شركات السياحة أن يتحسن الجو العام وتنتهي عراقيل الماضي الأمنية. وقد شرع بعض المستثمرين بالفعل بالعودة: على سبيل المثال، قام عدنان حباب نفسه بإعادة ترميم وتشغيل فندق بيت الزعفران التراثي في حي سوق ساروجة الدمشقي بعدما غادر إلى عمان خلال الحرب. وينتظر حباب مثل غيره اللحظة التي يرفع فيها العالم شعار "اذهبوا إلى سوريا" بدل التحذير السابق "لا تذهبوا إلى سوريا"، مؤكدًا أن انتعاش السياحة مرتبط بتطبيع العلاقات الدولية مع سوريا الجديدة ورفع العوائق الدبلوماسية.

وليس خافيًا على أحد أنّ عودة السياح تعني عمليًا عودة الحياة إلى المدن والأسواق والمطاعم، وتعني فرص عمل جديدة لشباب أنهكتهم البطالة خلال الحرب. دمشق - إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم - بدأت تستعيد بريقها شيئًا فشيئًا؛ وكذلك ساحل المتوسط الأخضر الذي كان يومًا مقصد المصطافين. وبالطبع، لا تزال هناك تحديات أمنية ولوجستية ينبغي تجاوزها. فتنظيف البلاد من مخلفات الحرب كالألغام وتأهيل مرافق النقل (المطارات والطرق الدولية) أمور ضرورية لجذب السياح بأعداد كبيرة. كما يتعين على الحكومة السورية الجديدة أن تواصل تحسين صورتها الدولية عبر الالتزام بالقانون وحقوق الإنسان، لأن كثيرًا من السياح الغربيين يراقبون سلوك السلطة الجديدة قبل الإقدام على زيارة بلد مزقته حرب طويلة.

ومع ذلك، فإن مجرد حدوث هذا التعافي السياحي السريع يعد مؤشرًا بالغ الدلالة: فهو يدل على مستوى الاستقرار الذي تحقق عقب إنهاء عهد النظام السابق وإدارة دفة الحكم بطريقة أكثر قبولًا داخليًا وخارجيًا. وقد عبّرت عن ذلك منظمة السياحة العالمية بتقرير أشارت فيه إلى سوريا كوجهة واعدة يمكن أن تشهد "نموًا سياحيًا متسارعًا إذا استمر الاستقرار السياسي والأمني الحالي". ولعلّ أفضل خاتمة لهذا المشهد ما قاله أحد منظمي الرحلات الأوروبيين: "سوريا كنز سياحي مختبئ تحت أنقاض الحرب؛ متى ما أزيحت الأنقاض وانقشعت سحابة الخوف، سيُبهر العالم بجمال هذا البلد من جديد".

بدأت شركات السياحة الدولية تضع سوريا مجددًا على خارطة وجهاتها - غيتي
بدأت شركات السياحة الدولية تضع سوريا مجددًا على خارطة وجهاتها - غيتي

خاتمة: سوريا إلى أين بعد رحيل الأميركيين والنظام القديم؟

لا شك أن انسحاب القوات الأميركية من سوريا سيشكل نقطة تحول مفصلية في مسار الأزمة السورية، خاصة أنه يتزامن مع مرحلة سورية جديدة أعقبت إسقاط نظام الاستبداد وبروز حكومة وطنية تحاول لملمة الجراح. هذه اللحظة تحمل في طياتها فرصًا ومخاطر على حد سواء. فمن جانب، تستطيع سوريا اليوم - بفضل حكومتها الجديدة المدعومة شعبيًا - أن تستعيد كامل سيادتها على أراضيها للمرة الأولى منذ سنوات من دون وجود قوات أجنبية على الأرض (باستثناء التواجد الروسي المحدود في قواعد معروفة). وهذا قد يمنحها مساحة أوسع للتحرك السياسي والاقتصادي المستقل، ويتيح للمؤسسات الوطنية تولي مسؤولياتها مباشرة في إدارة المناطق التي كانت سابقًا خارج السيطرة. 

لكن في المقابل، يحمل الانسحاب الأميركي اختبارًا صعبًا لوحدة الصف الداخلي وقدرة السوريين وحكومتهم الجديدة على ملء الفراغ الأمني ومنع استغلاله من قبل الطامعين. فالقوى الإقليمية والدولية لم تغادر المشهد بعد: تركيا تترقب وتأمل بتأمين حدودها وضمان تحجيم عدوها الكردي، وإيران تتحفز لاستغلال كل ثغرة لترسيخ مشروعها الإقليمي، وروسيا تسعى للحفاظ على مكاسبها وضمان نفوذها، وإسرائيل تراقب عن كثب أي تحرك إيراني لتقوم بردعه عسكريًا. كل هؤلاء قد يجدون في سوريا ساحة لتصفية الحسابات إذا ضعفت قبضة الدولة السورية مرة أخرى. لذا فإن مسؤولية القيادة السورية الحالية تاريخية في تفادي عودة البلاد إلى دائرة الصراع الدولي، من خلال حسن إدارة التوازنات: تنسيق أمني مع تركيا يبدد هواجسها (وربما عبر اتفاق جديد مستوحى من أضنة)، حوار وطني مع المكون الكردي يضمن حقوق الجميع ضمن سوريا موحدة، تفاهمات واقعية مع موسكو تحفظ مصالحها دون ارتهان كامل للقرار السوري، وضبط للإيقاع الإيراني بحيث لا يتجاوز حدود السيادة السورية ولا يجر البلاد لمواجهة لا حاجة لها.

لقد دفع السوريون ثمنًا باهظًا في العقد الماضي، وكان أحد أبرز دروسه أن الاحتراب الداخلي واستدعاء التدخلات الخارجية كاد يفتت الوطن. واليوم حان الوقت ليقطفوا ثمار صمودهم عبر البدء فعليًا بورشة البناء الوطني. فإذا أحسن صناع القرار السوريون استثمار لحظة انسحاب الأميركيين لإعلاء شأن السيادة السورية الجامعة، فسيكون بإمكانهم مطالبة بقية القوى الأجنبية (كإيران وتركيا) أيضًا بخروج مماثل أو بتنسيق مبني على احترام استقلال سوريا. وفي ظل الدعم الدولي الخجول حاليًا، قد تلجأ الحكومة السورية الجديدة إلى دبلوماسية متوازنة: فهي من جهة ستطلب من واشنطن الاستمرار في دعم الاستقرار اقتصاديًا وإنسانيًا حتى بعد سحب الجنود (وقد قدمت الولايات المتحدة بالفعل مليارات الدولارات كمساعدات للسوريين خلال الحرب، ويمكن أن تواصل ذلك عبر القنوات المدنية). ومن جهة أخرى قد تنفتح أكثر على دول الخليج وأوروبا لجذب الاستثمارات في إعادة الإعمار وملء الفراغ الذي سيتركه تقلص الدور الأميركي.

باختصار، سوريا تقف اليوم على مفترق تاريخي. قد يكون الانسحاب الأميركي فرصة نادرة لاستعادة سوريا عافيتها بإرادة ذاتية إذا تضافرت جهود أبنائها وحسنت إدارة التحولات، في ظل غياب هيمنة أجنبية مباشرة. لكنه أيضًا قد يكون منعطفًا خطيرًا إن لم يتم الاستعداد له بشكل كافٍ، فقد تنزلق الأوضاع إلى فوضى أو صدامات جديدة يستغلها أعداء الاستقرار. إن التجارب الحديثة في المنطقة (كما حدث في العراق بعد الانسحاب الأميركي 2011) تدق ناقوس الحذر من خطر ترك فراغ أمني يُنعش قوى التطرف أو يسمح بعودة فلول النظام البائد لإثارة الفوضى. بيد أن الفارق هذه المرة هو وجود وعي سوري جماعي وإدراك إقليمي بأن مرحلة ما بعد الأسد يجب أن تكون مختلفة. لذا نلمس حراكًا دبلوماسيًا لإيجاد ترتيبات جديدة - من اجتماعات دولية حول إعمار سوريا، إلى محادثات أمنية بين أنقرة ودمشق الجديدة برعاية موسكو، وغيرها - الهدف منها ضمان انتقال سلس يمنع الانزلاق إلى الهاوية مجددًا.

في المحصلة، ستحدد الأشهر الأولى التي تلي الانسحاب الأميركي شكل التوازنات القادمة. فإذا نجحت الدولة السورية (بثوبها الجديد) في تثبيت وجودها شرق الفرات وتطمين جيرانها واستثمار مواردها، فسينطلق قطار التعافي فعليًا، وستتحول سوريا من ساحة حرب إلى ورشة إعادة إعمار وبناء. وحينها سيكون انسحاب واشنطن مجرد تفصيل في مسار طويل تستعيد فيه سوريا مكانتها الإقليمية تدريجيًا كدولة قوية موحدة. أما إن أخفقت الترتيبات واندلعت صراعات على ملء الفراغ، فقد نكون أمام فصل جديد من الأزمة لا قدر الله. غير أن روح التفاؤل التي بثتها مشاهد السياح العائدين إلى تدمر وأحياء دمشق القديمة توحي بأن سوريا، برغم كل شيء، تتوق للسلام وعودة الحياة الطبيعية. وهو ما يأمل السوريون أن يتحقق بدعم المجتمع الدولي، لتطوى صفحة الحرب إلى غير رجعة وتنطلق مرحلة البناء على أسس جديدة شفافة وديمقراطية تلبي تطلعات الشعب الذي عانى طويلاً. وحدها الأيام القادمة ستجيب بشكل حاسم على سؤال: هل كان الانسحاب الأميركي بداية لنهاية الأزمة أم بداية لفصل جديد منها؟ السوريون والعالم يترقبون بحذر، لكن بصيص الأمل يبقى حاضرًا بأن القادم أفضل.


المصادر والمراجع:

  • تقارير عنب بلدي التحليلية حول شرق الفرات والثروات (كانون الأول/ديسمبر 2018) .
  • تصريحات المسؤولين والخبراء في نفس السياق ، ومقابلات أجرتها عنب بلدي مع قياديين في الإدارة الذاتية .
  • تقرير عربي21 حول ازدهار السياحة بعد رحيل النظام (شباط/فبراير 2025) .
  • تصريحات شركات سياحة دولية عن عودة النشاط السياحي (CNN Travel) .
  • تقارير وكالات عالمية عن خطط الانسحاب الأميركي وتداعياته (رويترز وبلومبيرغ وغيرها) .
  • بيانات الأمم المتحدة عن حجم الدمار في الرقة وتقديرات التحالف الدولي بشأن مشاريع الاستقرار .
  • اتفاقية أضنة 1998 وبنودها كما أوردتها المصادر الروسية والتركية .
  • تصريحات المسؤولين الروس (روغوزين) حول الاقتصاد السوري ، وتسريبات عن عقود الفوسفات والنفط (فونتانكا الروسية) .
  • تخوفات إسرائيل المعلنة من الفراغ الأميركي في سوريا على لسان مسؤوليها .
  • أرقام المساعدات الأميركية للسوريين عبر USAID منذ 2011 .
  • أرقام إنتاج القمح السوري قبل الحرب (وزارة الزراعة 2007) .
  • إحصائيات السياحة السورية قبل 2011 (وزارة السياحة السورية) وعدد السياح عام 2010

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي
تغطية خاصة
اقتصاد - أميركا

شارك القصة

Share
الأبقار في الولايات المتحدة
تراجعت صادرات لحوم الأبقار الأميركية إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 12% في 2024، وصادرات الدواجن بنسبة 15% - غيتي

سجلت صادرات اللحوم الأميركية إلى دول الاتحاد الأوروبي تراجعًا بسبب اشتراطات الاتحاد الأوروبي والرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس دونالد ترمب.

اقتصاد - مصر

شارك القصة

Share
الاقتصاد المصري
خفض البنك المركزي المصري في أبريل أسعار الفائدة بمقدار 225 نقطة أساس، في أول خفض لها منذ العام 2020- رويترز

قال البنك المركزي المصري إن خفض أسعار الفائدة سيكون بمقدار 100 نقطة أساس، مشيرًا إلى استمرار تعافي النشاط الاقتصادي وتراجع نسب التضخم.

اقتصاد - تونس

شارك القصة

Share
البرلمان التونسي
يجرم النص القانوني كل مرتكب لمخالفة إبرام عقود المناولة - مجلس النواب التونسي/ فيسبوك

يمنع مشروع القانون التونسي الجديد العقود المحددة زمنيًا وتحويلها إلى عقود من دون سقف زمني مع فترة تجربة لـ6 أشهر تمدد لفترة واحدة.