Skip to main content

المعركة القادمة.. شرق سوريا في عين العاصفة بعد الانسحاب الأميركي (1)

قحطان مصطفى |
السبت 19 أبريل 2025
يطرح الانسحاب الأميركي الكامل تساؤلات جدية حول مصير الاستقرار النسبي في مناطق شرق سوريا - غيتي

على مدار السنوات الماضية، شكّلت القواعد والقوات الأميركية المنتشرة في مناطق شرق الفرات عاملًا مهمًا في ضبط التوازن الميداني والحفاظ على قدر من الاستقرار الأمني والاقتصادي في تلك المناطق. فقد أنشأت واشنطن عدة قواعد ونقاط عسكرية في الشمال الشرقي السوري خلال الحرب ضد تنظيم الدولة.

كانت أولى هذه القواعد قاعدة جوية قرب مدينة الرميلان بمحافظة الحسكة، حوّلت فيها الولايات المتحدة مطارًا زراعيًا (مطار أبو حجر) إلى مهبط عسكري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، واستقدمت مروحيات وفرقًا فنية لتنسيق عملياتها ضد تنظيم الدولة. تبع ذلك توسيع القاعدة ومدرجها إلى طول 2500 متر.

وانتشرت قواعد أميركية أخرى في بلدة خراب عشق قرب كوباني (عين العرب) شمال الرقة، تضمّ طائرات حربية ومركز دعم لوجستي، إضافة إلى مواقع عسكرية في تل بيدر بشمالي الحسكة (تواجدت فيها قوات خاصة أميركية)، وفي الشدادي جنوبًا لدعم عمليات قسد، وموقع في منطقة تل تمر الحدودية، فضلًا عن نقاط تمركز في صرّين غربي كوباني. كما حافظت الولايات المتحدة على وجود عسكري في منبج بريف حلب الشرقي وفي محافظة الرقة.

إلى جانب ذلك، أقام التحالف الدولي (بقيادة واشنطن) قاعدة عسكرية استراتيجية في التنف عند المثلث الحدودي السوري-الأردني-العراقي في مايو/ أيار 2016. وقد شكّلت قاعدة التنف حاجزًا أمام توسع النفوذ الإيراني عبر البادية السورية، حيث درّبت فيها قوات التحالف فصائل من الجيش السوري الحر (مثل جيش مغاوير الثورة وأسود الشرقية) للعمل ضد تنظيم الدولة.

ومع أن قوات النظام السابق وميليشيات موالية له تمكنت في منتصف 2016 من تطويق منطقة التنف وصولًا إلى مدينة البوكمال، مما حدّ من دور القاعدة هجوميًا، إلا أنها بقيت ورقة ضغط استراتيجية تمنع التواصل البري الكامل بين إيران وسوريا عبر العراق.

من هنا، ينظر سكان مناطق شرق الفرات إلى الوجود العسكري الأميركي بوصفه صمام أمان أسهم في تفادي انهيار الأوضاع الأمنية، ومهّد لظروف ساعدت على تحسين النشاط الاقتصادي نسبيًا. فخلال السنوات الأخيرة من الحرب، عندما كانت معظم الأراضي السورية تحت نيران المعارك، نعمت مناطق شرق الفرات بهدوء نسبي بفضل التنسيق بين قوات التحالف وقسد، مما سمح بإعادة تشغيل جزئي للمرافق العامة والزراعة والتجارة المحلية.

ويشير مراقبون إلى أن القوات الأميركية لعبت دور قوة ردع، ما حال دون اندلاع مواجهات واسعة بين قسد والقوى الإقليمية المحيطة بها، وخاصة تركيا والنظام السابق في دمشق وحلفائه. ولذلك، فإن قرار الانسحاب الأميركي الكامل يطرح تساؤلات جدية حول مصير هذا الاستقرار النسبي: هل ستتمكن القوات المحلية (قسد والحكومة السورية الجديدة) من ملء الفراغ وضبط الأمن، أم أن خروج واشنطن سيخلق ثغرات تستغلها أطراف أخرى وتعيد المنطقة إلى دوامة الصراع؟

ما بعد الانسحاب الأميركي.. اختبار صعب

الولايات المتحدة نفسها أبدت اهتمامًا باستقرار المناطق المحررة من تنظيم الدولة، إذ تعهّد التحالف الدولي منذ تأسيسه عام 2014 بالالتزام بإعادة الاستقرار وإعادة الإعمار في المناطق التي يُطرد منها التنظيم. وبين عامي 2015 و2018، قدّم التحالف دعمًا ماليًا قارب 400 مليون دولار عبر أكثر من 1200 مشروع إنمائي في شمال شرق سوريا، شملت إعادة تأهيل محطات مياه وكهرباء ومدارس ومشاريع زراعية وصناعية. كما رصدت واشنطن نحو 230 مليون دولار إضافية لمشاريع تحقيق الاستقرار، لكنها علّقتها في أغسطس/ آب 2018 بعد حصولها على تعهدات من دول خليجية بتوفير تمويل بديل بحوالي 300 مليون دولار. اليوم، مع إعلان الانسحاب الأميركي، يصبح مصير هذه البرامج والمشاريع معلقًا على قدرة التحالف والدول المانحة الأخرى على مواصلة الدعم. وهناك مخاوف حقيقية من تراجع التزامات المانحين أو إعادة توزيعها، مما قد يعرقل عجلة إعادة البناء في شرق الفرات ويؤخر تعافيها.

من جهة أخرى، ترى الحكومة السورية الجديدة - التي تسلمت زمام الأمور بعد انهيار النظام السابق - أن استمرار دعم التحالف لجهود الاستقرار ضروري لتعزيز مكتسبات النصر على تنظيم الدولة وترسيخ سلطة الدولة في المناطق المحررة. ويوضح مصطفى العبد عضو مجلس الرقة المدني (التابع للإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا) أن ما تحقق من عمليات إعادة الاستقرار حتى أواخر 2018 لم يتجاوز 20% مما تحتاجه المناطق المحررة. فمدينة الرقة على سبيل المثال، والتي كانت أبرز معاقل تنظيم الدولة وتعرضت لدمار هائل قُدّر بأكثر من 10 آلاف مبنى مدمر، لا تزال بنيتها التحتية متهالكة وتحتاج إلى استثمارات ضخمة لإعادتها إلى الحياة الطبيعية. ويشير العبد إلى أن الطريق لا يزال طويلًا أمام عودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، نظرًا لهول الدمار وآثاره.

وبينما انتشرت إشاعات بأن المشاريع الإنمائية الأميركية في تلك المناطق قد توقفت تمامًا بعد قرار الرئيس دونالد ترمب بالانسحاب، أكد مسؤولون ميدانيون أن العمل مستمر وإن بوتيرة حذرة. وفي هذا السياق، نفى عبد الجليل دلو، مدير أحد المشاريع المدعومة من وكالة USAID في مدينة الطبقة بمحافظة الرقة، صدور أي قرار بوقف برامج الدعم الجاري تنفيذها. لكنه في الوقت نفسه أقرّ بأن قرار الانسحاب قد يؤثر على الجدول الزمني لإطلاق مشاريع جديدة ويُدخل عامل عدم اليقين، ما لم تُحسم الجهة التي ستهيمن على الأمن في المرحلة المقبلة. 

يشير مراقبون إلى أن القوات الأميركية لعبت دور قوة ردع، ما حال دون اندلاع مواجهات واسعة بين قسد والقوى الإقليمية المحيطة بها، وخاصة تركيا والنظام السابق في دمشق وحلفائه. ولذلك، فإن قرار الانسحاب الأميركي الكامل يطرح تساؤلات جدية حول مصير هذا الاستقرار النسبي.

هكذا، أصبحت آفاق إعادة الإعمار في شمال شرق سوريا رهينة للاستقرار الأمني والسياسي الذي قد يتأثر مباشرة بغياب الضامن الأميركي. ففي ظل وجود القوات الأميركية، تمكنت وكالات دولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) وUSAID من العمل بالتنسيق مع المجالس المحلية والإدارة الذاتية لتنفيذ مشاريع سريعة الأثر في المجالات الخدمية. أما إذا تدهورت الأوضاع الأمنية أو تغيرت موازين السيطرة فجأة بعد الانسحاب، فقد تُضطر تلك المنظمات إلى تعليق أعمالها حرصًا على سلامة كوادرها، مما يعني تباطؤ عجلة التعافي.

ويشير لقمان الملا، عضو الهيئة الإدارية في الإدارة الذاتية، إلى عقبة إضافية تعترض مسار التنمية حتى في أفضل الظروف، وهي البيروقراطية وتضارب أجندات المانحين. فكل دولة مانحة أو منظمة دولية تعمل بشكل منفصل بمعاييرها وأولوياتها، وتتبدل التزاماتها مع تغيّر إداراتها السياسية، مما يؤدي إلى تباين كبير في وتيرة تنفيذ مشاريع التعافي. وعلى سبيل المثال، ورغم أن الولايات المتحدة تعتبر أكبر مانح إنساني للشعب السوري (قدمت عبر USAID نحو 7.7 مليار دولار منذ 2011 منها 875 مليون دولار لمشاريع الاستقرار و200 مليون في 2017 وحده)، إلا أن تغيّر الموقف الأميركي نحو الانسحاب قلب التوقعات رأسًا على عقب وألزم الجهات المحلية بالتكيف سريعًا مع سيناريوهات جديدة للتمويل والدعم.

باختصار، مثّل الوجود العسكري الأميركي في سوريا عامل اطمئنان وحافزًا للدول المانحة للمشاركة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب. ومع غياب هذه القوات، ستواجه المناطق المحررة اختبارًا صعبًا في الحفاظ على الزخم التنموي ومنع انهيار الخدمات مجددًا - وهو تحدٍ يقع الآن على عاتق الحكومة السورية الجديدة وحلفائها الدوليين المتبقين.

مثّل الوجود العسكري الأميركي في سوريا عامل اطمئنان وحافزًا للدول المانحة للمشاركة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب - غيتي

مصير مناطق قسد بعد الانسحاب الأميركي

وبالحديث عن تداعيات الانسحاب الأميركي، تُطرَح تساؤلات حول مصير مناطق شرق الفرات التي تسيطر عليها حاليًا قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات الأغلبية الكردية والدعم الأميركي. هذه المناطق ليست هامشية، بل تشكل حوالي ربع مساحة سوريا (25% تقريبًا)، وتضمّ القسم الأكبر من الموارد الطبيعية والزراعية للبلاد. فمن جهة المساحة، تمتد سيطرة قسد على أجزاء واسعة من محافظات الحسكة ودير الزور والرقة، ومن جهة الثروات فهي تحوي معظم حقول النفط والغاز السورية إلى جانب أخصب الأراضي الزراعية ومخزون الحبوب في الشمال الشرقي. لذلك، فإن أي تغير في السيطرة على هذه الرقعة ستكون له انعكاسات جوهرية على اقتصاد سوريا ومستقبلها السياسي.

حتى الآن، بقيت قسد الشريك المحلي الأبرز للوجود الأميركي في محاربة تنظيم الدولة وحفظ الأمن شرق الفرات. وقد استفادت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (التي أسستها قسد وحلفاؤها) من هذا الدعم لترسيخ نموذج من الحكم الذاتي وتسيير شؤون الحياة اليومية في مناطقها طوال سنوات الحرب. لكن مع غياب القوات الأميركية، تجد قسد نفسها أمام مفترق طرق استراتيجي. فبقاء الوضع كما هو عليه أصبح مستبعدًا؛ ومن المرجح - بحسب معظم السيناريوهات - أن تنحسر سيطرة القوات الكردية تباعًا، لتحل محلها قوى جديدة ستسعى لملء الفراغ وجني المكاسب العسكرية والسياسية والاقتصادية.

وعمومًا، يمكن الحديث عن ثلاثة أطراف رئيسية تطلّعت تاريخيًا للسيطرة على مناطق شرق الفرات في حال انسحاب الأميركيين، وفقًا لما يلي:

الطرف الأول: تركيا وحلفاؤها المحليون

تعتبر أنقرة وجود وحدات حماية الشعب الكردية - العمود الفقري لقسد - على حدودها الجنوبية تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي نظرًا لارتباطها بحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تصنّفه إرهابيًا. من هذا المنطلق، لم تُخفِ تركيا عزمها على تنفيذ عمليات عسكرية لتأمين شريطها الحدودي بعمق شمال سوريا إذا انسحبت أميركا. وقد نفذت بالفعل عمليتين عسكريتين (درع الفرات 2016 في ريف حلب، وغصن الزيتون 2018 في عفرين) ثم عملية "نبع السلام" في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 سيطرت خلالها على منطقة حدودية تمتد بين رأس العين وتل أبيض.

وتعلن أنقرة أن هدفها الرئيسي هو منع إنشاء كيان إداري تديره قسد بمحاذاة حدودها. وفي تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أواخر 2018، اعتبر أن الثروات النفطية والزراعية في شرق الفرات هي مصدر تمويل أساسي لقوات قسد، ورأى أنه يتوجب حرمانها منها لـ"قطع دابر" هذا التهديد. لكنه في الوقت نفسه أكد أن أطماع تركيا الجغرافية محدودة بشريط حدودي ضيق (بعمق نحو 30 كم) وأن المدن ذات الكثافة العربية مثل تل أبيض ورأس العين هي ضمن نطاق عملياته، وهي مناطق لا تحوي موارد تُذكر مقارنة بغيرها. بكلمات أخرى، تريد أنقرة تأمين حدودها ومنع قيام حكم ذاتي كردي معاد، أكثر من رغبتها في الاستحواذ على نفط القامشلي أو رميلان.

في هذا الإطار، برز الحديث عن اتفاقية أضنة الأمنية (1998) بين تركيا وسوريا كأداة قانونية محتملة لتنظيم الوضع الحدودي في غياب الأميركيين. فهذه الاتفاقية الموقعة زمن حافظ الأسد تنص على التزام دمشق بمنع أي نشاط معادٍ لتركيا ينطلق من الأراضي السورية، وتمنح أنقرة حق التوغل العسكري حتى 5 كم داخل سوريا لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني إذا قصّرت سوريا في كبحهم. وفي الأعوام الأخيرة، خصوصًا عقب عملية نبع السلام 2019، سعت روسيا لإحياء اتفاق أضنة كإطار تفاهم بين أنقرة ودمشق. لكنّ وجود النظام السابق كطرف موقع على الاتفاقية عقّد الأمور، إذ طالبت أنقرة بتعديلات عليها أو باتفاق جديد يراعي المعطيات الحالية.

الآن وبعد زوال النظام القديم، قد تكون الحكومة السورية الجديدة أكثر استعدادًا للتعاطي إيجابًا مع المخاوف التركية ضمن اتفاق جديد أو معدل. فهذه الحكومة منبثقة جزئيًا من فصائل معارضة حليفة لتركيا، وبالتالي هناك أرضية تفاهم أمنية أفضل. ولذلك، فإنّ إحياء التفاهمات وفق "روح أضنة" يمكن أن يحقق مصلحة مشتركة: تركيا تحصل على ضمانات أمنية موثوقة بكبح نشاط حزب العمال الكردستاني عبر الحدود، والدولة السورية الجديدة تستعيد سيادتها على المناطق الحدودية بالتدريج بدل أن تبقى في وضع شبه مستقل تحت سيطرة قسد. 

الطرف الثاني: الحكومة السورية الجديدة وقوى الثورة

مع زوال حكم الأسد، تُواجه دمشق اليوم معضلة توحيد البلاد تحت سلطة واحدة بعد سنوات الانقسام. وتعتبر السلطات السورية الحالية أن استعادة المناطق الشرقية الغنية هدف استراتيجي لإعادة بناء الدولة واقتصادها. فبالنسبة لأي حكومة مركزية في دمشق - حتى لو كانت وليدة الثورة - لا يمكن القبول باستمرار سيطرة قوة عسكرية مستقلة (قسد) على ربع البلاد بدعم أجنبي.

وقد أكدت القيادة الجديدة أكثر من مرة نيتها دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الجيش الوطني السوري أو تفكيكها سلميًا، لضمان بسط سيادة الدولة على كامل الأراضي السورية. لكن تحقيق ذلك يواجه تعقيدات؛ أبرزها الرفض المحتمل من جانب بعض مكونات قسد لأي انتشار لقوات عربية معارضة في مناطقهم خوفًا من الانتقام أو ضياع المكاسب السياسية التي حققوها في الحكم الذاتي. كذلك هناك العامل الأميركي نفسه: فعلى الرغم من قرار الانسحاب، قد تحاول واشنطن إعادة ترتيب وضع قسد عبر تفاهمات مع أنقرة أو مع قيادات المعارضة السورية، لتجنيب شركائها الأكراد عملية اجتثاث شاملة.

ولذلك، فإنّ السيناريو المطروح هو مفاوضات دمشق (الجديدة) مع الإدارة الذاتية الكردية للتوصل إلى صيغة حكم محلي ضمن إطار الدولة، تضمن للأكراد حقوقًا ثقافية وإدارية، وتضمن بالمقابل ولاءهم للوحدة السورية. وكانت مثل هذه المفاوضات مستحيلة في عهد الأسد نتيجة انعدام الثقة؛ أما الآن فهناك بوادر مختلفة، علمًا أن وفودًا كردية بدأت بالفعل الحوار مع قيادات المعارضة السورية منذ أواخر 2024 برعاية أميركية غير مباشرة، وفق تقارير إعلامية، بهدف الوصول لتفاهم قبل اكتمال الانسحاب الأميركي.

في المحصلة، تجد الحكومة السورية الجديدة نفسها في سباق مع الزمن: فإما أن تتوصل لتسوية مع قسد تُعيد المنطقة الشرقية لسلطتها سلميًا، أو أن تخاطر بسيناريوهات أسوأ تشمل تدخل تركيا عسكريًا وتوسع نفوذ خصوم آخرين (روسيا وإيران) هناك. ومن الواضح أن هذه الحكومة تولي أولوية لاستعادة الموارد الحيوية في الشرق لما لها من دور محوري في إنعاش الاقتصاد الوطني المنهك؛ وسيأتي تفصيل ذلك في قسم لاحق عن الثروات النفطية والزراعية.

الطرف الثالث: روسيا وإيران (حلفاء الأمس للنظام السابق)

ينظر كل من موسكو وطهران إلى الانسحاب الأميركي بوصفه فرصة ثمينة لتعزيز مكاسبهما التي حققاها خلال تدخلهما لدعم نظام الأسد سابقًا. فعلى مدى سنوات، سعت روسيا وإيران لترسيخ موطئ قدم اقتصادي وعسكري في سوريا من خلال اتفاقيات طويلة الأمد: روسيا حصلت على قواعد عسكرية دائمة على الساحل (قاعدة حميميم الجوية ومرفأ طرطوس) وعقود حصرية في استخراج الفوسفات وإعادة تأهيل منشآت النفط، وإيران وقّعت مذكرات تفاهم لبناء مصفاة نفط في حمص واستثمار حقول زراعية ومناجم، بل وحتى الحصول على امتياز إنشاء ميناء بحري على الساحل السوري. بيد أن تلك المكاسب بقيت ناقصة طالما ظلت أجزاء واسعة من البلاد خارج سيطرة حليفهم (أي النظام السابق) وتحت الحماية الأميركية.

مع تغير المعادلة برحيل الأسد، أصبحت حسابات موسكو وطهران أكثر تعقيدًا: فهما خسرا حليفًا مطيعًا في دمشق، واختبرت العلاقة مع القيادة الجديدة حدودًا مختلفة. لكنّ هدف الطرفين لم يتغير في جوهره - كلاهما يريد منع الولايات المتحدة وحلفائها المحليين من وراثة النفوذ في الشرق السوري. ومن المتوقع أن تحاول روسيا استمالة الحكومة السورية الجديدة وإبداء الاستعداد للتعاون معها اقتصاديًا وأمنيًا، بغية إبقائها ضمن مدار التأثير الروسي وعدم تركها بالكامل للحضن الغربي. وفي الوقت ذاته، ستسعى موسكو لضمان تنفيذ العقود التي أبرمتها سابقًا مع دمشق (في حقول الفوسفات وقطاع الطاقة) بغض النظر عن تبدّل النظام. فهي تعتبر هذه العقود "استحقاقًا سياديًا" لروسيا نظير تدخلها العسكري الذي غيّر موازين الحرب منذ 2015.

لذلك قد تمارس روسيا ضغوطًا على أي حكومة سورية قادمة لاحترام هذه الالتزامات، أو على الأقل ستفاوض للحصول على امتيازات بديلة. وقد صرّح ديمتري روغوزين نائب رئيس الوزراء الروسي في ديسمبر/ كانون الأول 2017 بلهجة حازمة أن بلاده دون غيرها ستساعد سوريا في إعادة بناء منشآت الطاقة - في إشارة واضحة إلى إقصاء إيران وأي طرف آخر من هذا القطاع. وقد تطفو هذه المنافسة الروسية الإيرانية الخفية على موارد سوريا، على السطح مجددًا مع خروج الأميركيين؛ فإذا استعادت دمشق (الجديدة) حقول النفط شرقًا، سيتعين عليها الاختيار بين العروض الروسية والإيرانية لاستثمارها أو ربما إفساح المجال لشركات غربية، ما قد يشعل سباق نفوذ اقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب.

مثّل الوجود العسكري الأميركي في سوريا عامل اطمئنان وحافزًا للدول المانحة للمشاركة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب. ومع غياب هذه القوات، ستواجه المناطق المحررة اختبارًا صعبًا في الحفاظ على الزخم التنموي ومنع انهيار الخدمات مجددًا - وهو تحدٍ يقع الآن على عاتق الحكومة السورية الجديدة وحلفائها الدوليين المتبقين.

أما إيران، فهي ترى في الانسحاب الأميركي مكسبًا استراتيجيًا مباشرًا لها، سواء بقي النظام السابق أم لا. فطهران لطالما اعتبرت الوجود الأميركي في شرق سوريا عائقًا أمام مشروعها الإقليمي المتمثل في فتح ممر بري من طهران إلى البحر المتوسط عبر الأراضي العراقية والسورية. فمن شأن هذا الممرّ تسهيل نقل الإمدادات إلى حليفها حزب الله في لبنان، كما يتيح لها منفذًا لتصدير بضائعها (وربما نفطها وغازها مستقبلًا) إلى الأسواق المتوسطية والأوروبية دون الاعتماد الكامل على المضائق البحرية الخاضعة للرقابة الأميركية، علمًا أنّ وجود قاعدة التنف الأميركية كان حجر عثرة أمام تحقيق هذا التواصل الجغرافي؛ وبالتالي فإن انسحاب واشنطن منها يعني فتح الطريق البري طهران-دمشق بلا عوائق للمرة الأولى منذ سنوات الحرب.

ويشرح ملهم جزماتي الباحث الاقتصادي ذلك بالقول إن إيران (التي تمتلك ثاني أكبر احتياطيات غاز في العالم) تخطط منذ زمن لمدّ خط أنابيب بري عبر العراق فسوريا وصولًا إلى الساحل السوري، بدل الطريق البحري الطويل عبر الخليج وباب المندب وقناة السويس. إن تحقق هذا المشروع سيختصر الوقت والتكلفة على طهران بشكل هائل، ويفتح لها بابًا لتصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر المتوسط. كما أن الطريق البري سيعزز تنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية المتنوعة التي وقعتها إيران مع النظام السابق خلال السنوات الماضية، خاصة في مجال استخراج النفط من البادية السورية وبناء مصفاة حمص. وليس ذلك فحسب، بل إن إيران تخطط منذ 2017 لإنشاء ميناء بحري خاص بها على الساحل السوري (منطقة مساحتها 5 آلاف هكتار تم الاتفاق عليها مبدئيًا مع حكومة النظام السابق)، ما يمنحها موطئ قدم استراتيجي على البحر المتوسط لأول مرة في تاريخها الحديث.

لكل ما سبق، يُرجّح الخبراء أن إيران ستكون الرابح الأكبر من الانسحاب الأميركي ما لم يتم تدارك الأمر باتفاقات سياسية موازية. غير أن طموحات طهران تلك لن تمر دون منافسة أو مقاومة: فكما ذكرنا، روسيا لها حساباتها الاقتصادية التي قد تتضارب مع إيران - ظهر ذلك جليًا عندما انتزعت موسكو امتياز الفوسفات من طهران بعد أن ظنت الأخيرة أنه من نصيبها. كذلك فإن الفاعلين الإقليميين الآخرين، وعلى رأسهم إسرائيل، لن يقفوا متفرجين. فقد أعرب مسؤولون إسرائيليون عن قلق بالغ إزاء تداعيات الانسحاب الأميركي، إذ يخشون أن يشكل فرصة ذهبية لإيران لتعزيز وجودها العسكري في سوريا وتعميق نقل الأسلحة النوعية إلى حزب الله.

وترى تل أبيب أن انفراد روسيا وإيران بالساحة السورية يهدد بإعادة إحياء الجبهة الشمالية ضدها. ولذلك كثّفت إسرائيل في السنوات الأخيرة ضرباتها الجوية على مواقع إيرانية داخل سوريا - بوجود القوات الأميركية - فكيف إذا ما رحلت؟ ليس مستبعدًا أن تقدم إسرائيل على تصعيد حملتها العسكرية لضرب أي تحركات إيرانية مريبة عقب الانسحاب الأميركي، مما يفتح باب مواجهة إقليمية أوسع على الأرض السورية.

هذا السيناريو يرفع من احتمالات اندلاع حرب بالوكالة على الأراضي السورية بين إيران وإسرائيل، قد تتطور إلى صدام مباشر إذا لم يتم احتواؤها دبلوماسيًا. وبالطبع، السلطات السورية الجديدة ستكون في موقف حرج: فهي من جهة لا تملك موارد عسكرية لردع الاختراقات الإسرائيلية لأجوائها، ومن جهة أخرى لا ترغب قطعًا في أن تُستخدم أراضي سوريا مجددًا كساحة صراع بين طهران وتل أبيب بما يعرّض عملية إعادة الإعمار والاستقرار للخطر. وقد يحتاج الأمر إلى تفاهمات دولية – ربما بضمانة روسية أميركية مشتركة – لإبقاء إيران ضمن حدود معينة وتطمين إسرائيل أمنيًا، وإلا فإن فراغ القوة الناتج عن الانسحاب الأميركي قد يغري إيران وخصومها على حد سواء لملئه بالقوة، مع ما يحمله ذلك من مخاطر انفجار إقليمي جديد.

ترقّبوا في الجزء الثاني من هذا المقال.. الثروات النفطية والزراعية: كنز شرق الفرات في ميزان الصراع.
المصادر:
خاص موقع التلفزيون العربي
شارك القصة