كثيرة هي الاختلافات بين الزيارة الأولى التي قامت بها نائبة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط مورغان أورتاغوس إلى لبنان وبين زيارتها الثانية.
في المضمون، الاختلافات ليست كثيرة، لكنها في الشكل تكشف عن تحوّل أو أقلّه تعديل في طريقة تعاطي الإدارة الأميركية مع الملف اللبناني. فأورتاغوس بدت أكثر دبلوماسية، وهي تجنّبت لغة التهديد والاستفزاز التي اعتمدتها في زيارتها قبل شهرين، وبدت وكأنّها عرفت أكثر عن تفاصيل المعادلة اللبنانية خلال المدة الفاصلة بين الزيارتين.
ففي الزيارة الأولى ومن القصر الرئاسي في بعبدا ومن دون مقدمات، استعدت أورتاغوس بشكل فجّ شريحة مقدّرة من اللبنانيين حين أعربت عن امتنانها "لنجاح حليفتنا إسرائيل من هزيمة حزب الله"، وعارضت بشكل واضح مشاركة الحزب في الحكومة التي كان الرئيس نوّاف سلام يعمل على تشكيلها.
لكن في زيارتها قبل أيام، وإن كررت موقف بلادها من ضرورة سحب الدولة سلاح حزب الله على كامل الأراضي اللبنانية، إلا أنها تجنّبت تحديد جدول زمني لذلك، كما حرصت على عدم الاستفزاز، وفي هذا الإطار يمكن فهم إخفاء قلادتها التي تتوسطها "نجمة داوود" خلال لقائها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، فبدت كمن بات أكثر خبرة بتعقيدات السياسة اللبنانية وموازين القوى الداخلية.
تركيز أميركي على الملف المالي في لبنان
اللافت في زيارة نائبة المبعوث الأميركي هذه المرة، أنها بموازاة اهتمامها بالأزمة القائمة مع إسرائيل، وقضية تشكيل لجان لترسيم الحدود البرية، وبحث ما تعتبره "خروقات" حزب الله لاتفاق وقف إطلاق النار متجاهلة الاعتداءات الإسرائيلية اليومية للبنان، واستمرار احتلال إسرائيل خمس نقاط على الأراضي اللبنانية، بموازاة كل ذلك، أبدت نائبة المبعوث الأميركي تركيزًا لافتًا على الملف المالي.
وفي هذا السياق، برز تكرار دعوة المسؤولين اللبنانيين في أكثر من مناسبة ومقابلة تلفزيونية لتنفيذ الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي، وفي مقدم هذه الإصلاحات رفع السرية المصرفية وإعادة هيكلة المصارف، "وإلا سنترككم وحدكم ولن نهتم بكم"، مع ما يعنيه ذلك من حجب الشرعية الدولية عن الدولة اللبنانية، وما يستتبعه ذلك من عزلة وامتناع المؤسسات الدولية كما الدول الصديقة عن تقديم الدعم المالي للبنان التزامًا بتوجيهات واشنطن.
حتى جدول لقاءات مورغان أورتاغوس كان هذه المرة مختلفًا، فهو لم يقتصر على رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة والوزراء المعنيين بتطبيق القرار 1701، وانتشار الجيش اللبناني على الحدود، بل تضمن لقاءات بعيدًا عن الإعلام مع كل من وزيري المالية والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان المعيّن حديثًا.

خطة أميركية إسرائيلية لإحكام السيطرة على موارد حزب الله
اهتمام نائبة المبعوث الأميركي بالإصلاحات المالية وتركيزها على ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي -حسب البعض- لا ينبع من حرص واشنطن على الاقتصاد اللبناني والسعي لتأمين مصالح اللبنانيين ومساعدتهم على تحرير ودائعهم المحجوزة في المصارف، بقدر ما يندرج ضمن خطّة أميركية-إسرائيلية لإحكام السيطرة على موارد حزب الله، وتجفيف مصادره المالية، ومنعه من مداواة الجراح التي أصابته خلال الحرب الإسرائيلية، والحؤول دون إعادة بناء ترسانته العسكرية التي دمر العدوان الإسرائيلي قدرًا مهمًّا منها، إضافة لإبقاء بيئته الشعبية في وضع اجتماعي ومعيشي صعب، بعد تأخر عملية إعمار ما خلفه العدوان الإٍسرائيلي، وبقاء آلاف الوحدات السكنية مدمرة، سواء في الضاحية الجنوبية لبيروت، أو في قرى الجنوب.
وهذا الأمر يكون من خلال تنفيذ الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي. فبعد الأزمة المالية التي أصابت لبنان عام 2019، وامتناع المصارف عن تسليم اللبنانيين لودائعهم، تجنّب اللبنانيون استخدام المصارف، ولجأوا إلى ما صار يُعرف بـ"اقتصاد الكاش"، الذي يقوم على التبادلات النقدية المباشرة من دون المرور بالتحويلات عبر المصارف. وحسب واشنطن فإنّ الاستمرار في الاعتماد على "الكاش" بعيدًا عن المصارف، يعني أن هذه التبادلات ستجري من دون أي رقابة بعيدًا عن أعينها، وهو ما يتيح لحزب الله حرية نقل أمواله، واستخدامها بعيدًا عن أي رقابة داخلية وخارجية.
لذلك، تسعى الإدارة الأميركية للمسارعة بإصلاح القطاع المصرفي لتعود عجلته للدوران من جديد، ويعود الركيزة الأساسية في الحركة المالية، وبالتالي مراقبة حركة الأموال والمساعدات التي تدخل لبنان، سواء من خلال صندوق النقد الدولي أو من الدول المانحة التي تنتظر الضوء الأخضر الأميركي لتقديم مساعداتها، لإعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي، أو لإعانة الاقتصاد اللبناني على النهوض من جديد بعد الانهيار المالي الذي مازال يعاني تبعاته، وهو ما يجعلها قادرة على منع وصول أي أموال أو مساعدات إلى حزب الله.