مع اقتراب يوم التاسع من مايو/ أيار، وهو التاريخ الذي يحتل مكانة مركزية في الوجدان الروسي باعتباره يوم النصر على النازية، فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجميع، كعادته، بالإعلان عن هدنة مؤقتة على خطوط التماس مع أوكرانيا، في مبادرة تبدو في ظاهرها إنسانية ورمزية، لكنها تحمل في طياتها دلالات سياسية واستراتيجية أكثر تعقيدًا.
وفي موازة ذلك جاءت رسالة الشكر الرسمية التي بعث بها بوتين إلى كوريا الشمالية وزعيمها كيم جونغ أون، لتعزز مشهدًا دبلوماسيًا روسيًا آخذًا في التشكل، وقائمًا على إعادة تموضع الحلفاء والخصوم في زمن التحولات العالمية المتسارعة.
هدنة التاسع من مايو: أداة رمزية ورسالة إستراتيجية
إعلان بوتين لوقف إطلاق النار بمناسبة عيد النصر لا يمكن فهمه بمعزل عن السياقين الداخلي والدولي اللذين تتحرك فيهما روسيا اليوم.
ففي الداخل، يستثمر الكرملين هذه الذكرى لتعزيز السردية الوطنية التي تركز على صمود روسيا التاريخي أمام التهديدات الخارجية، بدءًا من النازية وانتهاءً بما تصفه موسكو بالعدوان الغربي بأيدي أوكرانيا، والذي يهدف إلى إلحاق هزيمة إستراتيجية بالدولة الروسية المتعافية بعد صدمة تفكك الاتحاد السوفيتي الذي هزم النازية. كما أنّ إحياء هذه الرمزية يهدف إلى شد الوحدة الوطنية في وقت تشهد فيه البلاد آثار العقوبات الاقتصادية الغربية وتصاعد استنزاف الموارد في ساحة القتال.
أما دوليًا، فيستهدف بوتين من خلال هذه المبادرة، إرسال رسالتين، الأولى خاصة، إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مع قرب انتهاء الأيام المئة الأولى على ولايته الثانية، مفادها أنّه جاد في التوصل إلى سلام، والثانية إلى العواصم الغربية والمجتمع الدولي بأن موسكو رغم تصعيدها العسكري في ميادين القتال، لا تزال تحتفظ بقدرتها على ضبط النفس وتقدير اللحظات التاريخية الجامعة. ولعلّ هذه الصورة الإنسانية تأتي في توقيت حرج، حيث تتكثف المساعي الدولية، خصوصًا الأميركية، لإحياء مسارات تفاوضية متعثرة، وسط تلميحات أوروبية - ألمانية وفرنسية تحديدًا - بإمكانية مراجعة بعض جوانب الدعم العسكري لكييف مع اقتراب فصل الانتخابات الأوروبية.
غير أن المبادرة الروسية اصطدمت بجدار الصمت الأوكراني والغربي، حيث لم تبادر كييف بإعلان التزام مماثل بوقف إطلاق النار، مما يضفي على المبادرة طابعًا أحادي الجانب ويحدّ من تأثيرها العملي، إن استمر هذا الموقف الأوكراني الغربي. ومع ذلك، فإن القيمة السياسية لهذه الهدنة تبقى قائمة، ولا سيما أنها يمكن أن تُفهم كتمهيد لتهيئة الأجواء لمفاوضات مستقبلية أو في إطار تعزيز الخطاب الروسي القائم على تصوير موسكو كطرف راغب في السلام.. لكنه مضطر إلى القتال.
شكر كوريا الشمالية: تحالف الضرورة.. لا المصادفة
في موازة التحرك الرمزي تجاه أوكرانيا، جاءت رسالة بوتين الموجهة إلى القائد الكوري الشمالي وجيش كوريا الشمالية، وإعلانه رسميًا للمرة الأولى عن مشاركة وحدات من المقاتلين الكوريين إلى جانب الجيش الروسي في كورسك، جاءت لتؤكد أن روسيا لم تعد تكتفي بالدفاع عن مواقعها الدبلوماسية التقليدية، بل تسعى كذلك إلى بناء شبكات تحالفات جديدة، حتى وإن كانت مع أطراف تخضع لعزلة دولية خانقة.
توجيه الشكر لكيم والعسكريين الكوريين الشماليين ليس مجرد لفتة برتوكولية، بل هو إعلان صريح من بوتين عن توثيق علاقة استراتيجية ترتكز إلى قاعدة تبادل المصالح في مواجهة الضغط الغربي، إذ تشير التقارير الاستخباراتية الغربية إلى وجود مؤشرات على تعاون عسكري آخذ في النمو بين الجانبين، قد يشمل تزويد روسيا بكميات من الذخائر أو الاسلحة التقليدية التي تفتقر إليها موسكو بعد أكثر من ثلاث سنوات من العمليات الكثيفة في أوكرانيا، والتي أدت إلى تفريغ المخازن.
في المقابل، تقدم روسيا إلى كوريا الشمالية دعمًا تكنولوجيًا وطاقة رخيصة، إلى جانب تغطية سياسية ضد أي تحرك أممي جديد يسعى إلى تشديد العقوبات على بيونغ يانغ. والأهم من ذلك أن هذه الشراكة تحمل طابعًا إستراتيجيًا يتجاوز المصالح الظرفية، إذ تشكل جزءًا من مشروع أوسع تقوده موسكو وبكين وعواصم أخرى في آسيا وأميركا اللاتينية لإعادة بناء نظام دولي متعدد الأقطاب، بما يحد من الهيمنة الغربية التقليدية.
دلالات متشابكة: موسكو على خطين متوازيين
إذا جمعنا بين إعلان بوتين لهدنة عيد النصر، بعد ساعات من إرسال رسالة الشكر إلى كوريا الشمالية، تتضح أمامنا ملامح سياسة روسية جديدة قوامها العمل على مسارين متوازيين:
- من جهة، الإبقاء على خطاب إنساني دبلوماسي يسعى إلى تحسين صورة روسيا أمام الرأي العام العالمي، خصوصًا في ظل تصاعد الانتقادات في بعض الأوساط الأوروبية والأميركية حول كلفة دعم الحرب الأوكرانية.
- ومن جهة أخرى، بناء تحالفات عسكرية ميدانية مع أطراف لا تزال تعتبرها واشنطن وحلفاؤها "دولاً مارقة"، وهي تهدف بذلك لخلق توازن قوى جديد يعزز من قدرة موسكو على الصمود والمناورة.
وبين هذين المسارين، تظهر روسيا كقوة تسعى ليس فقط للبقاء، بل لإعادة تعريف النظام الدولي وفق معادلات جديدة.
في النتيجة..
بين وقف إطلاق نار رمزي وتحالفات محسوبة مع دول لا تزال معزولة، تمضي موسكو في رسم خطوط استراتيجيتها الكبرى ليس فقط لعام 2025، بل ولما بعده.. في وقت تبدو فيه الساحة الدولية أكثر سيولة وتقلّبًا من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة.
ولعلّ السؤال الأهم الذي تطرحه هذه التحركات الروسية هو: إلى أي مدى تستطيع روسيا المحافظة على هذا التوازن الدقيق بين الانفتاح الدبلوماسي والتصعيد الجيوسياسي في عالم يتغير بوتيرة متسارعة؟!
