عندما زار اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر بيلاروسيا برفقة أولاده وأصهاره في شهر فبراير/ شباط الماضي، خلّفت زيارته الكثير من الانتقادات والتعليقات الساخرة، حتى إنّها البعض وصفها بـ"الرحلة العائلية"، أو زيارة "للجيش العائلي".
لكنّ زيارته بعد أسبوع إلى قصر الإليزيه في باريس تناولتها الصحافة، تحديدًا الفرنسية، بكثير من الحرص والجدية، حيث قالت إن فرنسا ناقشت تطورات العملية السياسية في ليبيا وسبُل الوصول إلى رؤية مشتركة قائمة على التعاون المتبادل بين البلدين.
وبعد هاتين الزيارتين بأيام، تحديدًا في التاسع من مارس/ آذار الجاري، عادت بيلاروسيا إلى الواجهة عبر زيارة نائب الرئيس الوزراء البيلاروسي فيكتور كارانكفيتش إلى مدينة بنغازي الليبية، التي دامت يومين. ونشرت الصحافة المحلية خبر توقيع الحكومة المكلفة من مجلس النواب الليبي مع الحكومة البيلاروسية اتفاقية تعاون في مدينة بنغازي وتضمنت قطاعات الزراعة والأمن الغذائي والصناعة والصحة والأدوية.
بين هذه الزيارات التي وقعت في ظرف وجيز، يتجلّى سباق المصالح العسكرية والاقتصادية، بين فرنسا وروسيا وإيطاليا.. مشهد دبلوماسي معقّد، تحرّك خيوطه المتشابكة أكثر من دولة، ويقف في وسط رقعته بيدق، يحلو للبعض أن يسميه رجل برقة القوي.
حفتر وبيلاروسيا.. قناة خلفية لموسكو
في منتصف فبراير 2025 توجه خليفة حفتر إلى مينسك عاصمة بيلاروسيا، الحليف التقليدي لروسيا.
كان الهدف المعلن للزيارة هو تعزيز التعاون بين البلدين في مجالات الزراعة والصناعة. لكن خلف كواليسها أبعاد عسكرية بالدرجة الأولى، فقد أبدى الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو استعداده لدعم حفتر "بأي طريقة ممكنة"، بحسب ما نشره الإعلام بعد الزيارة، وهو تصريح يحمل دلالات بليغة، خصوصًا أن بيلاروسيا تعتبر حليفًا استراتيجيًا لموسكو.
وتقول تقارير إن بيلاروسيا تلعب دور الوسيط لنقل المعدات العسكرية الروسية إلى ليبيا، للتحايل على العقوبات الدولية المفروضة على روسيا، كما يشير خبراء إلى أن صناعاتها الدفاعية متوافقة مع المعايير السوفيتية القديمة لتجعل منها شريكًا مثاليًا لترسانة حفتر المشابهة، بالإضافة إلى مساهمة بيلاروسيا في تدريب الضباط الليبيين وإصلاح المعدات العسكرية، ما يعزز موقع حفتر كقوة عسكرية في شرق ليبيا.

باريس.. اللعب على الحبلين
ومن بيلاروسيا إلى باريس، حيث لم تمرّ زيارة حفتر إلى قصر الإليزيه مرور الكرام، ففرنسا تراقب بقلق أي تقارب لحفتر ومحور موسكو- مينسك.
بعد أسبوع فقط من زيارة حفتر إلى مينسك، توجه إلى باريس للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث تناولت المحادثات تطورات العملية السياسية في ليبيا، ولكن ما يهم فرنسا هو مصالحها العسكرية والنفطية في ليبيا، علمًا أنّ باريس لطالما تعرّضت للنقد بوصفها تلعب على الحبلين فيما تعلق بالملف الليبي، فهي من جهة تدعم وساطات الأمم المتحدة من أجل ليبيا موحدة، لكن من جهة أخرى تدعم حفتر سرًا، والكثير من الوقائع تؤكد ذلك على الأرض.
ويرى البعض أن هدف ماكرون من استضافة حفتر في باريس هو الحصول على ضمانات من رجل "برقة القوي" على أن التدخل البيلاروسي لن يؤدي إلى إنشاء لبنى روسية داعمة في المنطقة. ونقلت الصحافة الليبية أن حفتر وماكرون ناقشا دور فرنسا في إدارة ملف قاعدة الويغ التي تتمتع بقيمة استراتيجية كبيرة بحكم موقعها في عمق الصحراء الكبرى بالقرب من الحدود مع النيجر وتشاد.
وتعني السيطرة على هذه القاعدة وضع أعين على منطقة الساحل، علمًا أنّ العديد من التقارير في الماضي ذكرت أن القوات الخاصة الفرنسية استخدمت منطقة الويغ كنقطة انطلاق للطائرات بدون طيار والعمليات السرية ضد المجموعات المسلحة المتطرفة في منطقة الساحل. لكن مع الانسحاب القسري لفرنسا من دول مجموعة الساحل الخمس وانكماش دورها في إفريقيا، باتت مصالحها في المنطقة مهددة.
ويرجح الخبراء أن أحد الأجزاء السرية المحتملة وراء اجتماع ماكرون مع حفتر هو مناقشة وضع القواعد العسكرية الرئيسية في ليبيا حتى لا يتحول شرق ليبيا إلى معقل عسكري روسي كبير في البحر الأبيض المتوسط، ولا سيما أن روسيا تحلم بموطئ قدم في البحر المتوسط منذ عهد ستالين.

إيطاليا.. الصامتة
خبر لقاء حفتر مع ماكرون أثار أيضًا انتباه إيطاليا، القوة الاستعمارية السابقة في ليبيا، خصوصًا في ظلّ وجود خلاف واضح بين إيطاليا وفرنسا بشأن ليبيا، وهذه الخطوة من شأنها أن تعقد العلاقة بين هذين البلدين الأوروبيين.
تدعم إيطاليا حكومة طرابلس وتؤكد أن رئيس الوزراء الحالي عبد الحميد الدبيبة هو المحاور الشرعي، لكن الخطوة الفرنسية تُعَدّ بالنسبة لإيطاليا التفافًا على الجهود الأوروبية من جهة، وتهديدًا لمصالحها الاقتصادية من جهة أخرى، فروما تخشى أن تستغل فرنسا هذا اللقاء الدبلوماسي لصالح شركة توتال والشركات الفرنسية في ليبيا، على حساب شركة إيني باعتبارها الشركة المهيمنة في ليبيا.
وإذا كان حفتر يسيطر على غالبية حقول النفط الشرقية، فإنّه يبحث عن الشرعية السياسية، وبالتالي فإنّ باريس من خلال استقباله في الإليزيه تمهد له الطريق نحو الشرعية أو على الأقل الاعتراف به كلاعب أساسي "شرعي" في الملف الليبي لا يمكن المرور من دونه. وإذا حصلت باريس على حق الوصول إلى هذه الموارد، فقد يؤثر على ذلك شركة إيني الإيطالية.
حتى الآن لم تعلق إيطاليا رسميًا على الموضوع ولم تصدر عن حكومة جورجيا ميلوني أي بيان رسمي، لكن الصحافة الإيطالية علقت على القلق الإيطالي غير المعلن بشأن هذه التحركات الفرنسية.
وفي النتيجة، فإنّ الثابت هو أنّ رقعة الشطرنج في ليبيا يتداول عليها أكثر من لاعب ومراقب ينتظر الفرصة للتدخل في ظل الشلل السياسي الحاصل وهشاشة الوضع الأمني في بلاد مقسومة على حكومتين متنافستين، فيما يبدو أنّ حفتر يريد أن يلعب على كل الحبال، بحيث يعطي لنفسه الشرعية كلاعب سياسي ويرتقي من بيدق إلى قطعة الشطرنج "الفرس" التي يمكنها على الأقل، القفز على القطع الأخرى.