سوريا التي نعرفها ماتت إلى الأبد. يمكن التقاط ذلك في المفردات التي يستخدمها السوريون، وفي مداخلات الضيوف الذين يخرجون في النوافذ الإخبارية والبرامج الحوارية.
إنهم يتحدثون من العاصمة ومدن أخرى بانتقاد عن شكل الحكم وآلياته، عن الاقتصاد ومساراته، لكن سوريا التي نعرفها ما تزال تعيش في الأبنية الكالحة، رائحة المازوت في حارات المدينة، وبيروقراطية المؤسسات والإقصاء الذي بدأ يطفو على المشهد ككل مع تكرار ترديد "اللون الواحد".
هكذا يمكن تلخيص المشهد السوري في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، حيث انطوت صفحة استمرت لأكثر من نصف قرن، كانت فيها البلاد أسيرة الاستبداد والفساد والقمع.
لكن ملامح المستقبل لا تزال غامضة، تتخبط في مسارات غير واضحة، بين إرث ثقيل من الخراب وتطلعات مشروعة إلى العدالة والاستقرار. إنها لحظة مخاض عسير، تنوس فيها البلاد بين الممكن والمستحيل، بين الآمال المتقدة والعراقيل المتشابكة، بين الإرادة الشعبية والواقع السياسي المتعثر.
شبح الماضي في تفاصيل الحاضر
صورة شبح الماضي في تفاصيل الحاضر. أثر الماضي لم يندثر بين ليلة وضحاها. مؤسسات الدولة التي كانت لعقود أداة للهيمنة والاستبداد لم تتطهر بعد. الفساد الذي تجذر في بنية السلطة بات ورمًا يصعب استئصاله بين عشية وضحاها -رغم كل ما يمكن لمسه عن غياب الرشوة على الطريقة السورية المعروفة- كما أن المحاصصة والمصالح الضيقة تحاول فرض نفسها على المشهد الجديد وفق ما يتردد، مما يهدد بإعادة إنتاج الأزمات التي أوصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم.
تكمن معضلة السلطة الحالية بإدارة الدولة في ثنائية المركزية والتفكك، فالتجارب أثبتت خلال العقود الماضية أن احتكار السلطة في مركز واحد، مع تهميش الأطراف والمجتمعات المحلية، كان خطأً فادحًا دفع ثمنه الجميع. واليوم، تقف سوريا أمام تحدي إعادة بناء شكل نظام الحكم الجديد الذي يحقق التوازن بين وحدة الدولة وحقها في السيادة على ما يعرف جغرافيًا التراب السوري، وبين طموح مكوناتها المختلفة في الإدارة الذاتية، بعيدًا عن الاستئثار أو التفكك. هذا التحدي يضع على طاولة الرئاسة أسئلة حقيقية حول طبيعة النظام السياسي القادم، ليكون السؤال المحوري هنا: هل ستكون سوريا دولة لامركزية فعلية أم أن النزعة المركزية القديمة ستتسلل بأثواب جديدة؟
أي طريق ستسلك سوريا؟
أعتقد جازماً ألَّا حديث سوريًا أو عربيًا أو دوليًا يتناول المشهد السوري إلا ويبدأ أو ينتهي بالسؤال: أي طريق ستسلك سوريا؟. وهنا لا يمكن تصور مستقبل البلاد من دون التوقف عند الواقع الاقتصادي المتردي الذي أفرزه عقد من الحرب والفساد والعقوبات. سوريا اليوم بلد مُنهك، يعيش على المساعدات والأمنيات الطيبة. والمساعدات وحدها لا تصنع دولًا، كما انّ الأمنيات الطيبة لا تفتح أبواب الطوارئ للخروج من الأزمات.
ربما هناك فرصة تلوح في أفق ما تقوم على الاستثمار في الأزمات، فالتحدي الحقيقي أمام القيادة السورية الجديدة هو خلق بيئة اقتصادية مستقرة، تحفز الاستثمار، وتعيد ترميم البنية التحتية، وتضمن حقوق العاملين وأصحاب المشاريع بعيدًا عن فوضى الولاءات والمحسوبيات والمحاصصة. والأهم عدم إنتاج دولة بوليسية تتقاطع بشيء مع ما كان.
وفي الحديث عن المحاصصة، لطالما كانت سوريا بلدًا متعدّدًا، إثنيًا وطائفيًا ودينيًا وعرقيًا، فكيف يمكن الحديث عن أرضية صلبة تظهر فيها التعددية كقوة سياسية واجتماعية وليست عامل انقسام وتدمير؟ تاريخنا السوري يحيلنا إلى استخدام نظام الأسد هذا التنوع كسلاح لتفريق الناس، فيطرح الشارع سؤالاً: ما هو الضامن أن يكون المستقبل مختلفًا؟
التحدي الأكبر اليوم هو كيف يمكن لهذا التنوع أن يصبح عامل قوة، لا عامل انقسام، وكيف تُبنى دولة حديثة تعترف بالتعدد من دون أن تنزلق إلى الطائفية أو النزعات الانفصالية. ولعلّ الحوار الذي انطلق في قصر الشعب بعد عشاء تعارفي للمشاركين في الداما روز "قد يبدو" خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنه يواجه تحديات حقيقية ليس أقلها غياب الثقة بين المكونات المختلفة والخوف من إعادة إنتاج إقصاءات جديدة باسم الوطنية أو الأغلبية.
سوريا لم تعد كما كانت قبل 2011
الحوار كلمة برَّاقة ساحرة لها مفعول غرائبي في توسيع دوائر النقاش، الحثُّ عليه مهما كانت نتائجه -رغم كل الانتقادات- يدفع لخلق أرضية ما يمكن البناء عليها، وهذا المجال الحيوي هو الذي سيفرض بشكل أو بآخر موقع سوريا الثابت في العالم المتغير حولنا، مع الجزم باختلاف تعريف سوريا في أذهان المتحاورين، فهناك من يراها خطوة في بلاد الخلافة، وهناك من يراها حجراً في حائط الأمة الإسلامية، وتيار ثالث يؤمن بعروبة هذا البلد ومركزيته في الوطن الكبير، ورابع يراه أمَّة بشعوبه المختلفة.
وكلما غاص السوريون في التفاصيل كلما اكتشفوا أن سوريا لم تعد كما كانت قبل 2011. كلُّ شيء تغيَّر داخليًا وإقليميًا وخارجيًا. ما أرادته سوريا من العالم سابقًا لا يشبه ما تريده اليوم، وما أرادته القوى الدولية من سوريا سابقًا ليس كما هو اليوم. ربما الأشياء في تعقيدها تكمن بساطتها وفي بساطة الطرح يمكث التعقيد، فالأسئلة وحدها واضحة والإجابات عمياء.
وبين الأسئلة الكثيرة يمكن سماع أصوات المفقودين والمعتقلين والمغيَّبين. ملف شائك لا يحتمل التأجيل، يقابله بخط مواز ملف اللاجئين في دول الجوار وفي الشتات، ليبرز هنا سؤال العدالة الانتقالية. أرواح تبحث عن العدالة وجرائم لا تسقط بالتقادم، هذه ليست دعوة للحساب المشاع؛ بل عملية متكاملة تشمل المصالحة الوطنية، على قاعدة جبر الضرر وكشف الحقيقة ورد الاعتبار.
سوريا مثل جنين ضعيف، تراوح شوارعها ووجوه أهلها بين الخوف والأمل، وليس هناك وصف أدق لما تعيشه البلاد اليوم من عبارة "القديم مات والجديد لم يولد بعد". إنها لحظة فراغ بين زمنين لكل منهما حدودهما، حيث المخاطر داخليًا وخارجيًا تحيط بكل محاولة للتقدم، لكن الأمل لا يزال قائمًا بعد أن عاد السوريون من الفراغ إلى النفق. نفقٌ تسكنه المطبات ولا إنارة فيه لكن له نهاية ما؛ عنوانها أن السوريين لم يعد حلمهم الموت في سوريا والحصول على قبر، بل صارت الحياة فيها - رغم المصاعب- أيضًا ممكنة. فالقديم مات والجديد لم يولد بعد.