انتهى زمن الاتفاقات الدائمة".. قالها محمد جواد ظريف، مهندس الاتفاق النووي، بعد أيام من استقالته من حكومة بزشكيان. عبارة تعكس تحوّلاً في الرؤية الإيرانية نحو التفاهمات المرحلية، لا الشاملة، خاصة في ظل إدارة دونالد ترمب، بعد اتساع رقعة الخلاف حول ملفات حساسة، أبرزها مطلب واشنطن بتخلي طهران عن حق التخصيب، وهو ما تعتبره الأخيرة خطًا أحمر لا نقاش فيه.
ورغم تكرار دعوات الحسم لمعادلة "لا سلم، لا حرب"، فهناك قناعة راسخة داخل إيران بأن فك هذا الاشتباك المزمن مع واشنطن ليس بالأمر السهل، خصوصًا بعد خمسين عامًا من التوتر تركت آثارًا يصعب تجاوزها بين ليلة وضحاها. ومع ذلك، تلوح إمكانية السير في سلسلة تفاهمات تدريجية، تُبعد شبح الحرب، وتُهدئ من خطاب التهديد، وتتيح لطهران فرصة لترتيب أوراقها الداخلية والإقليمية، مقابل إغراء رجل الأعمال ترمب بصفقة استثمارية كبرى تعيد له صورة "صانع الصفقات".
العلاقة الإيرانية الأميركية.. مرحلة نادرة
تمرّ العلاقة الإيرانية الأميركية حاليًا بمرحلة نادرة في تاريخها المتوتر.
للمرة الأولى، يسعى الطرفان إلى إدارة التفاهمات الثنائية من دون طرف آخر. ففي تجربة 2015، لم تكن واشنطن وطهران وحدهما على الطاولة. أوروبا حصلت حينها على حصة الأسد من الاستثمارات، بينما أُقصيت الولايات المتحدة بسبب حسابات داخلية إيرانية، إذ رأت حكومة روحاني حينها أن إشراك أوروبا أكثر قابلية للتسويق أمام التيار المتشدد، الأقل عداءً لأوروبا من "الشيطان الأكبر".
هذا الإقصاء شكّل أحد الأسباب التي دفعت ترمب للانسحاب من الاتفاق عام 2018، بعدما اعتبر أن الولايات المتحدة لم تجن شيئًا يُذكر، فيما حصدت إيران مكاسب اقتصادية كبيرة، على حدّ قوله. وبقي الاتفاق معطلاً، في ظل عجز أوروبي عن تنفيذ التزاماته، واستمرار لعبة "خطوة بخطوة" بلا نهاية. ومع تعقّد المشهد، أدركت طهران أن واشنطن وحدها تملك مفاتيح رفع الضغط أو مفاقمته، كما فعل ترمب خلال ولايته الأولى.
لذلك، بدأت طهران، منذ عودة ترمب إلى الواجهة، في إعادة بناء تصوراتها على قاعدة "الصفقة المباشرة". خلال الأسابيع الأخيرة، لوّح مسؤولون إيرانيون بارزون لاسيما الرئيس بزشكيان، باستعداد بلادهم لفتح أبواب الاستثمار أمام الشركات الأميركية، بما في ذلك في القطاعات الحساسة مثل المنشآت النووية، في رسالة واضحة إلى ترمب مفادها: "إيران جاهزة لصفقة كبرى".
ماذا تريد إيران من ترمب؟
يدرك ترمب أن إيران أرض بكر استثماريًا، وأن قطاع الطاقة وحده يمكن أن يستوعب استثمارات بمئات المليارات من الدولارات، وفق تقديرات خبراء اقتصاد، وهو رقم كفيل بجذب انتباه رجل الأعمال في داخله.
من جهتها، تريد إيران أكثر من مجرد تفاهم شفهي أو اتفاق هش. هي تبحث عن ضمانات حقيقية، قانونية ودائمة. وهي تدرك أن الطريق إلى ذلك يمرّ عبر الكونغرس، خصوصًا في ظل سيطرة الجمهوريين على البيت الأبيض ومجلسي النواب والشيوخ. لكنها ترى أيضًا أنّ المصادقة على أي اتفاق من قبل الكونغرس لا تتطلب سوى إرادة سياسية من الإدارة الأميركية.
ومن وجهة نظر الإيرانيين، فإنّ إقناع الديمقراطيين أمر ممكن، فهم الطرف الذي أبرم الاتفاق السابق مع طهران. وإن تعذّر ذلك، فثمة ورقة أخرى: دعوة الشركات الأميركية الكبرى للاستثمار في السوق الإيرانية، بما يخلق مصالح اقتصادية ضاغطة على أي إدارة أميركية قادمة، ويصعّب عليها الانسحاب من أي اتفاق مستقبلي.
الخيارات تضيق أمام إيران
إقليميًا، تغيّرت الأجواء. بخلاف معارضة السعودية العلنية لاتفاق 2015، تتسابق اليوم العواصم العربية للعب دور الوسيط في استضافة لقاء مباشر بين طهران وواشنطن وعلى مستوى الرؤساء، وهو مشهدٌ يعكس تحوّلاً واضحًا في المزاج الإقليمي نحو التهدئة.
ورغم أن الخطاب الرسمي بين طهران وواشنطن لا يخلو من التصعيد، فإن الخيارات تضيق أمام إيران. العودة إلى إغلاق الباب الدبلوماسي، كما فعلت سابقًا مع ترمب، لم تعد خيارًا واقعيًا. فالدخول في مواجهة مفتوحة ومتعددة الأطراف يحمل عواقب لا تُحمد، خصوصًا في ظل أزمة اقتصادية خانقة داخليًا.
كما أن واشنطن هي الأخرى لا ترغب بمواجهة كبرى تشغلها عن أولوياتها الدولية، رغم أن غياب تل أبيب عن مشهد المحادثات لا يلغي دورها. فإسرائيل ما زالت تملك مفاتيح التفجير، وربما رصاصة واحدة متهورة تكفي لقلب الطاولة.
دور إسرائيل.. مقاربة إيرانية جديدة
لطالما كان التصعيد مع إسرائيل يعني تصعيدًا مع أميركا، والعكس صحيح. لكن مؤخرًا، ظهرت مقاربة جديدة داخل مراكز القرار الإيرانية، عقب الضربات المتبادلة بين طهران وتل أبيب، والتي لم تدخل فيها واشنطن، إذ نأت الأخيرة بنفسها على سبيل المثال عن الغارة التي استهدفت القنصلية الإيرانية في سوريا، مدعية عدم علمها المسبق.
هذه المقاربة الجديدة تقوم على فصل المواجهة مع إسرائيل عن العلاقة مع الولايات المتحدة، بحيث تُدار كل جبهة بسقف تصعيدي مختلف. وبدأت هذه الرؤية بالتمدد، ليس فقط داخل طهران، بل إلى حلفائها أيضا. فالتصعيد الحوثي نحو إسرائيل ترافق مع تهدئة لافتة تجاه القوات الأميركية في المنطقة، في إشارة إلى اتساع رقعة التفاهمات غير المباشرة.
وفي طهران، يبدو أن صناع القرار باتوا أكثر واقعية. التفاهم المرحلي مع واشنطن لا يعني نهاية العداء، لكنه قد يشكل بداية جديدة لإدارة الخصومة بطريقة أكثر عقلانية. وما زالت لعبة العصا والجزرة مستمرة، ولكن بمقاسات جديدة، تفرضها المتغيرات الإقليمية والدولية.