منذ الأسابيع الأولى من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، توجّهت الأنظار إلى مدينة رفح، في أقصى جنوب القطاع.
آنذاك، قال الإسرائيليون للعالم إن هذه المدينة هي المنطقة الإنسانية الآمنة، بوصفها قطعة من الأرض تمثل خمس مساحة القطاع (70 كيلومترًا مربعًا)، نزح إليها ما يقرب من مليون فلسطيني.
لم تتوقف الغارات على مدينة رفح يومًا منذ بداية الحرب، وإن تفاوتت وتيرة القصف، إلى أن بدأ الهجوم البري عليها مطلع مايو/ أيار عام 2024.. ومنذ ذلك اليوم لم يخرج منها جيش الاحتلال.
رفح.. حين كانت نافذة غزة نحو العالم
أذكر حينما كان يضيق بي الحال وأحتاج لساعة من الهدوء، أركب سيّارتي وأذهب إلى بوابة معبر رفح أو إلى ما تبقى من أرض مطار غزة الدولي شرقي المدينة، وفي الطريق إلى هناك أشجار وهواء عليل وخيرات المدينة. كنت أبحث من هناك عن هواء نقيّ في المدينة التي كانت توصَف بنافذة غزة نحو العالم.
يعرف الكثيرون ثمار رفح شرقيها وشماليها، فمساحة الأراضي المزروعة في المدينة تتجاوز الثلاثين في المئة من إجماليّ مساحتها، من أشجار الزيتون إلى الورود وغيرها من الثمار الشهية الطيبة التي كانت ترفد سلة غزة الغذائية بما لذّ وطاب.
يعمل سكان المدينة ومعظمهم من اللاجئين في مهن مختلفة، لكن لقطاع الزراعة الحصة الأكبر كعمال وتجار ومهن جانبية أخرى، وقد تحول بعض العمال إلى التجارة، حين راجت تجارة الأنفاق التجارية بين القطاع ومصر في سنوات الحصار الإسرائيلي.
ورغم أنّ المسافة بين وسط مدينة غزة حيث كنت أعمل ومدينة رفح لا تتجاوز ركوبًا بالسيارة في ساعات الصباح 20 دقيقة، كنت حين أعدّ تقريرًا من رفح، أستعدّ قبل يوم كأنني مسافر، لماذا؟ لأنني سأمرّ عبر شارع البحر عبورًا بشواطئ المدينة الذهبية، التي يعرفها العالم الآن بالمواصي: أراضٍ زراعية غاية في الجمال، تطلّ على البحر الأبيض المتوسط، منطقة نظيفة كأهلها.
كنت أمر بباعة ثمار الجوافة والتين، وميناء الصيادين غربي المدينة، حيث المراكب الراسية والصيادين العائدين لتوهم من مهمة شاقة لكنها ممتعة. قال لي أحدهم ذات يوم: نحن كهذه الأسماك، لا نستطيع العيش بدون ركوب البحر.

حين أصبحت رفح مصنّفة "منطقة حمراء"
دمرت إسرائيل 90% من منازل رفح بشكل كامل منذ توغلها البري قبل أقل من عام. تشير التقديرات الأولية للسلطات في غزة إلى أن 20 ألف بناية سكنية دُمّرت بالكامل، بما يعادل 50 ألف وحدة سكنية.
تشير الأرقام أيضًا إلى تدمير 22 بئر مياه رئيسي في المدينة التي كان مزارعوها يعتمدون على الخزان الجوفي لريّ مزروعاتهم، سواء في مناطقها الشرقية، أو في المناطق الشمالية التي كانت مستوطنات إسرائيلية قبل الانسحاب الإسرائيلي عام 2005 ومن بينها مستوطنة موراغ/ج.
تقول بلدية رفح إن المدينة أصبحت مصنفة كمنطقة حمراء. نعم هي كذلك، فالصور الآتية من هناك كلها دماء، ليس آخرها دماء 15 عاملاً في الهلال الأحمر والدفاع المدني الفلسطيني أعدمهم الاحتلال بدم بارد.
وهي رفح أيضًا، التي كان فيها المعبر الوحيد للأفراد من قطاع غزة، فضلاً عن معبرَيْن إسرائيليَّيْن كان الاحتلال يفتحهما جزئيًا قبل الحرب من أجل إدخال المساعدات والبضائع، أي كرم أبو سالم وصوفا، فيما نشطت بوابة صلاح الدين في السنوات الأخيرة للحركة التجارية بين غزة ومصر.
محور موراغ.. رفح معزولة عن العالم
اليوم يخرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علنًا ليقول لنا إن هناك محورًا جديدًا اسمه موراغ، إلى جانب محور نتساريم. وبعد هذا المحور الجديد، ستصبح رفح منطقة معزولة عن العالم، يدمر فيها الاحتلال ويقتل.
أكثر من ذلك، يقول وزير أمنه إن المدينة ستنضم إلى المنطقة العازلة، أي إلى ما يزيد عن 20% من مساحة قطاع غزة التي يقضمها من أقصى جنوب غربه مرورًا بحدوده الشرقية والشمالية، إلى أقصى شمال غربه.
هنا، تعود الذكريات إلى أيام وجودي في غزة، حين كنت أتجول بين النازحين في رفح، وعلى ركام منازلهم المدمّرة. لا تغيب عنّي كلمات الصبر التي كانوا ينطقون بها.
صحيح أنّ الخيارات شحيحة، لكنّ أهلها مضيافون، كرماء، وهم الذين كانوا يرفضون قرار التهجير القسري على الدوام. ولعلّ هذا بالتحديد ما يجمع بين رفح، ومدينة الزهراء التي عشت فيها سنواتي الأخيرة، فالمدينتان أشبه بـ"عروسَيْن" على بحر غزة، وقد حوّلتهما الحرب إلى مناطق منكوبة.
الأكيد، وسط كلّ ذلك، أنّ التاريخ سيسجّل أنّ رفح المدينة الحدودية ستبقى شاهدة على تاريخ غزة، بحلوها ومرّها، ولن نفقد الأمل بالعودة إليها يومًا ما..