في تمام الساعة الثانية عشر وعشرين دقيقة ظهرًا بتوقيت غرينتش، الثالثة وعشرين دقيقة عصرًا بتوقيت سوريا، التاسعة وعشرين دقيقة صباحًا بتوقيت نيويورك، كان السوري أسعد حسن الشيباني يخطو نحو سارية الأعلام المنتصبة أمام مبنى الأمم المتحدة في أميركا، ليرفع بيده علم الجمهورية العربية السورية التي تمثِّل قطعًا حادًا مع الماضي الذي لا رجعة إليه تحت أي ظرف كان، ورغم كل التهديدات التي تعصف بالبلاد.
لم تكن تلك اللحظة التاريخية الوحيدة، فبعدها بما يقارب 120 دقيقة عُقِدت جلسة خاصة لمجلس الأمن الدولي، خُصّصت لمناقشة الوضع السوري، كمرآة تعكس صورة بالغة التعقيد للتحولات الجارية في سوريا التي لا تزال تتلمَّس طريقها وسط أنقاض الحرب الطويلة، في خضمِّ البحث عن شرعية الاعتراف بالتغيير وقبول سطوة حضوره خارجيًا.
التصريحات التي خرجت من الجلسة، سواء من الدول المؤثرة أو الإقليمية أو الغربية أو تلك المعنية بالشأن الإنساني، رسمت خريطة دقيقة لمواقف الفاعلين، لكنها حملت في طياتها أيضًا رسائل أعمق تكشف عن توازنات دقيقة وتحولات سياسية كبيرة تتبلور في أرضية المشهد السوري، وخلفية المشهد الدولي عمومًا.
المواقف وصراع التأويلات
لأول مرة منذ عقد ونصف ظهرت سوريا تحت قبة مجلس الأمن، ليس من مقعد المُدان التقليدي لتجلس - ولو لحظيًا - على طاولة خطاب جديد. وزير الخارجية السوري ألقى كلمة تحمل ملامح سردية جديدة تبتعد عن شعارات النظام السابق وتتجه نحو خطاب سياسي أكثر نضجًا ومراوغة وبراغماتية إن صحَّ القول. كانت عباراته محسوبة، محمّلة بنفي الماضي وتأكيد الحاضر، لكنه لم يخلُ من استدعاء مأساة البلاد كرافعة للشرعية.
من محاكمة الأسد إلى إعادة الاعتبار لسوريا
أبرز ما شدّ الانتباه في خطاب وزير الخارجية السوري هو تصريحه بأن "زمن القتل الممنهج والانتهاكات في سوريا قد انتهى"، وهي عبارة تشكّل - إن صدقت - قطيعة نادرة مع إرثٍ دامٍ. أشار بكلمات واضحة أمام العالم، إلى أن فلول نظام الأسد يحاولون إشعال فتنة طائفية، وذهب إلى وصف سوريا في ظل النظام السابق بأنها "مرتع لصناعة المخدرات وملاذ للميليشيات الأجنبية والإرهابية".
هذه التصريحات التي كان مجرد التفكير بسماعها من مسؤول سوري في الأمم المتحدة قبل أشهر يُعَدّ ضربًا من الخيال السياسي، تعكس وعيًا من الحكومة الحالية بضرورة إعادة بناء علاقة جديدة مع العالم، علاقة تتطلب مكاشفة ووضوحًا أكثر بما يتعلق بمسؤولية من ارتكب الانتهاكات بالساحل وفي حمص مؤخرًا. وكذلك بما يتعلق بالتحول الديمقراطي بخاصة أن أصواتًا أخرى في ذات الجلسة طالبت المسؤول السوري بضرورة انفتاح الحُكم في سوريا على كل مكونات الشعب وإشراكهم فيه.
وتقودني هذه الملاحظات للحديث عن مشهد يذكّر ببدايات التحولات السياسية في دول ما بعد الأنظمة الاستبدادية، حيث أعلن الوزير عن تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية وأخرى للمفقودين. كما تعهد بالتعاون مع الولايات المتحدة في ملف المفقودين، وهي إشارة إلى البراغماتية السياسية لأرضية العلاقة مع دولة ما تزال تصف السلطات في سوريا بسلطات الأمر الواقع أو بتعبير أكثر دبلوماسية أحيانًا السلطات الانتقالية، وتمنح ممثليها تأشيرات محدودة الدخول والوصول على التراب الأميركي.
لكنّ الخطاب السوري الجديد لم يخلُ من رسائل "طمأنة" إقليمية، حين قال صراحة إن سوريا لن تُشكّل تهديدًا لأي طرف، بما في ذلك إسرائيل، مطالبًا إياها بتطبيق اتفاق فض الاشتباك والانسحاب من الأراضي المحتلة. وبينما مدّ يده لدول الجوار، احتفظ بأدوات الضغط التقليدية حين حمّل العدوان الإسرائيلي مسؤولية تقويض جهود إعادة البناء، رابطًا رفع العقوبات بتحول سوريا إلى "شريك نشط" في الازدهار الدولي.
الاعتراف المشروط
الشيباني كان آخر المتحدثين بالجلسة، لكن حديثه بدا وكأنه كان ردًا محسوبًا - ويصح القول بالجهة المعاكسة أيضًا- لمداخلة مندوبة الولايات المتحدة لتُشكّل امتحانًا أوليًا للخطاب السوري الجديد. فقد أشادت دوروثي شيا بما وصفته الخطوات الإيجابية للسلطات السورية المؤقتة، لكنها سرعان ما حاصرت هذا الثناء بسلسلة من الشروط والمطالب: تدمير الأسلحة الكيميائية، مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات، ومنع إيران من العبث في البلاد.
بعبارة أخرى، ترحّب واشنطن بالتحول السوري، لكن من دون منح شيك سياسي على بياض. وهذا كرره كوري ميلز عضو الكونغرس الأميركي في أكثر من مقابلة له (بينها مع التلفزيون العربي) عقب لقائه الرئيس السوري أحمد الشرع في سوريا. الخطاب الأميركي تعتبره واشنطن مطالب، وتراه دمشق شروطًا قابلة للنقاش والتعديل، فيما يراه طرفٌ ثالث أوامرَ واجبة التنفيذ.
اللافت هو قول المندوبة الأميركية إن القيادة السورية يجب أن "تتخطى ماضيها"، وهي عبارة دبلوماسية محمّلة بالمغزى. الولايات المتحدة ترى في الخطاب الجديد خطوة جيدة، لكنها تريد أن تلمس تغييرًا جذريًا في البنية الأمنية، لا مجرد إعادة طلاء المشهد القديم. وحديثها عن ضرورة "دمج العائدين" و"مغادرة المقاتلين الأجانب" يُظهر أن واشنطن تراقب المشهد السوري من زاوية الاستقرار العميق، لا فقط استعادة المؤسسات والدولة، وكلمة السر بطبيعة الحال في كل هذا أمن إسرائيل.
تطبيع براغماتي وقلق من تل أبيب
أما تركيا، التي خلطت أوراق المحللين السياسيين بعد تفاهماتها في أذربيجان مع إسرائيل بغياب السوريين، فبدت وكأنها تعيد التموضع في قواعدها السياسية والعسكرية من بوابة التأكيد على قدرة الحكومة السورية الجديدة على فرض النظام وحفظ الأمن.
لكنّ الموقف التركي لم يأتِ خاليًا من شروطه ومصالحه، وهذا برز في الحديث عن دعم إنشاء آلية إقليمية لمواجهة تنظيم الدولة، بما يعكس قلقًا تركيًا من تسلل التنظيمات المتطرفة في مناطق حدودها أو عبرها، خصوصًا في ظل الحديث الأميركي عن الانسحاب وتقليص عدد الجنود في القواعد المنتشرة بالشمال الشرقي من سوريا، والتحذير من الفراغ الأمني.
كما شنّ المندوب التركي هجومًا ناعمًا على إسرائيل، محذرًا من أن استهدافاتها تقوّض وحدة سوريا، وهذا حديث يحمل في طياته رسالة مزدوجة: إرضاء لدمشق الجديدة، وضبط التوازن مع تل أبيب بعد التوترات الأخيرة.
روسيا: حليف الحذر مراقب الساحل
روسيا، الداعم الأبرز لسوريا الأسد، المندوب الروسي ذاته الذي استخدم الفيتو لإنقاذ رقبة النظام المخلوع أكثر من مرة، لم يخرج من دائرة الحذر في حديثه عن سوريا الجديدة، منطلقًا من التركيز على "أحداث الساحل" وهذا التركيز ليس تفصيلاً عرضيًا.
تمارس موسكو لعبة الابتزاز السياسي بذريعة المخاوف من إمكانية انزلاق المنطقة التي تعتبر تقليديًا قريبة من روسيا إلى صراعات طائفية دموية. لكنها في الوقت ذاته تدرك أن أي مواجهة جديدة ستكون مكلفة للغاية على الجميع، ومن هنا أتت دعوتها - في تقديري- لضرورة الالتزام باتفاق فك الاشتباك مع إسرائيل الموقّع عام 1974، في تلميح إلى أن بقاء حالة "اللاحرب واللاسلم" يخدم مصالحها كوسيط وفاعل دولي على الأرض السورية.
التوازن الكلاسيكي
فرنسا - ذات الماضي الاستعماري في سوريا- اتخذت موقفًا أقرب إلى الدبلوماسية التقليدية الأوروبية: رحبت بالحوار السوري-اللبناني وسعت للتأكيد على احترام اتفاق فض الاشتباك مع إسرائيل، لكنها أصرّت على ضرورة الانتخابات الحرة والشفافة.
لم تتبنَّ باريس الخطاب السوري الجديد كليًا، لكنها لم ترفضه أيضًا، بل تركت الباب مواربًا مشروطًا بمواصلة "الحوار الوطني". وهذا ما يحيلينا إلى قاعدة دبلوماسية تقوم عليها السياسة الأوروبية جوهرها الترقب الذي ينتظر المخرجات قبل إعادة التموضع النهائي.
دعم غير مشروط لسيادة سوريا
الموقف الجزائري اتسم بالوضوح الأخلاقي والدبلوماسي. كان الدعم لسوريا صريحًا، من دون تحفظات أو شروط، وركّز على ضرورة رفع العقوبات التي وصفها بأنها "فاقدة للمبررات".
بالتوازي، دعت الجزائر إلى وقف التوغلات الإسرائيلية، وأثنت على الحكومة السورية، معتبرة إياها خطوة في مسار المصالحة الوطنية.
ويعكس هذا الخطاب سردية ما بعد الاستعمار التي تفضلها الجزائر في القضايا الدولية، وهي سرديّة تقوم على دعم السيادة، رفض التدخل، والدعوة للعدالة والمساءلة بعيدًا عن الهيمنة الدولية.
الفراغ الدستوري والانتقال المؤجل
بينما احتفت الوفود بـ"رفع العلم السوري" أمام الأمم المتحدة، كان المبعوث الأممي أكثر حذرًا في تقييمه. قال صراحة إن الانتقال السياسي لا يزال يفتقر إلى "إطار شامل"، وأن الإعلان الدستوري ملأ الفراغ مؤقتًا.
إنها إشارة إلى أن الأمم المتحدة ترى أن الشكل السياسي الجديد ما زال في طور التكوين المؤسساتي، وأن السلطة لا تزال مركزة بشكل مقلق، ما يضع علامات استفهام على جدية التعددية والديمقراطية المستقبلية. لهذا كان أكثر شفافية عندما طرح مسألة الانفتاح على مكونات الشعب السوري وضرورة الإشراك في الحكم والقرار.
الأرض لا تزال ملغومة بالموت
مساعدة الأمين العام للشؤون الإنسانية قدّمت جردة حساب لشلال الدم: مقتل 700 شخص منذ ديسمبر/ كانون الأول فقط بسبب مخلفات الحرب، وإزالة أكثر من 2000 لغم.
كانت كلمتها بمثابة تذكير قاسٍ بأن سوريا الجديدة ما زالت تدفن موتى الحرب القديمة، وأن الجغرافيا السورية، مهما تغير خطابها السياسي، لا تزال محفوفة بالخطر والموت.
في النتيجة.. لحظة مفصليّة ولكن!
بمقاربة تحليلية لتلك المواقف نحد أن الحديث الدولي عندما يتطرق إلى سوريا الجديدة ما بعد نظام الأسد بات يبنى على أربعة محددات رئيسية:
أولاً: الشرعية القانونية والمؤسسة: حيث لا يكفي مجرد سقوط النظام، بل يجب تأسيس سلطة تحظى بإجماع وطني ولا تستبدل طغيانًا بآخر.
ثانيًا: ثنائية الابتزاز السياسي واستقلال القرار السوري: الجزء الأول يتعلق بمصالح الدول الكبرى والإشارة هنا إلى الولايات المتحدة وروسيا، والثاني مطلب متكرر من السوريين وأصدقائهم، وضبط هذه الثنائية يتطلب أن يتم ترجمة إنهاء التدخلات الأجنبية بما في ذلك الإسرائيلية والإيرانية.
ثالثًا: إعادة الإعمار والعدالة: يظهر هذا في عبارات من مثيل النهوض والشراكة في الازدهار الدولي من طرف سوريا مرتبطة بشكل مباشر برفع العقوبات وخصوصًا الأميركية، وتحقيق بناء الدولة وإعادة الإعمار يقوم في خطوته الأولى بعد أن يعبر ذلك الباب الذي يثيِّد حركة الحكومة في ملف التنمية.
رابعًا: المصالحة الوطنية: وهذا ملف طارئ في ضوء التصريحات المختلفة، وضرورة دولية لضمان سوريا مستقرة وآمنة ولا ترعب الجوار بأزماتها، وهذه تقوم على إنهاء الفتن الطائفية وملاحقة الفلول من وجهة نظر السلطة، فيما تقوم على المشاركة والانفتاح لما تحمله الخطوة من بعد رمزي وتاريخي حاسم في إعادة كتابة "العقد الوطني السوري الجديد" وفق الآراء الأخرى.
عمومًا، فإنّ حضور سوريا في جلسة مجلس الأمن هو بلا شكّ لحظة مفصلية، فإما أن تبني جمهوريتها الجديدة من دون تكرار أخطاء النظام السابق، أو نعود إلى دائرة الفوضى والمناكفات الإقليمية. وهنا، يبدو المجتمع الدولي، رغم تناقضاته، في لحظة استعداد مشروط للمساعدة. وهذه المساعدة ثمنها بناء نظام شرعي، شامل، وعادل لا مجرد نظام جديد بوجه قديم، وبطبيعة الحال يتقدم على هذا كله أمن إسرائيل.
لهذا كانت الجلسة الخاصة بسوريا أشبه بـ"محكمة سياسية رمزية" لسوريا الجديدة. فيها رفعت السلطة المؤقتة شعار مظلومية بالماضي والسعي لفتح صفحة جديدة، لكن العالم لم يوقّع بعد على هذه الصفحة. الأميركي يراقب، التركي يعيد التموضع، الفرنسي يوازن، الجزائري يدعم، والمبعوث الأممي يذكّر بأن الطريق طويل. أما الأرض، فهي لا تزال تئن تحت ألغام الحرب، تبحث عن عدالة حقيقية لا تبدأ في الخطابات، ولا تنتهي في بناء نظام لا يعيد إنتاج الوحش نفسه بوجه جديد.