مهما حاولت الحكومة التركية أن تنأى بنفسها عن عمل القضاء، وأن تؤكد في تصريحاتٍ تلو الأخرى بأنّ القضاء مستقلّ، وأنّ أحدًا لا يتدخّل فيه، إلا أنّ كلّ هذه التصريحات لن تجد صدى، ولن تلقى أي اهتمام، ليس لأنّ القضاء التركي ليس نزيهًا بالمطلق، رغم الانتقادات التي تطال عمل المحاكم التركية، بل لأن محبي وأنصار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل معارضيه يروّجون لذكاء الرجل في مقارعة خصومه، مستدلّين بذلك على تسارع الأحداث وتسلسلها في قضية رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام اوغلو.
ويعتبر هؤلاء أنّ هذه القضية تحديدًا، تُعتبَر مؤشّرًا إلى وجود أصابع سياسية تحرّك سير العمل القضائي وفق ما يقولون، واللافت أن أنصار أردوغان ومحبيه من العالم العربي والإسلامي لا يتردّدون في القول إنّ الرجل يدير لعبة القضاء بشكل صحيح في إنهاء خصومه (طبعًا هذا ذمٌ للرجل، ولو ظنّوا أنهم يمدحونه).
لا تتسع هذه السطور لتبيان عدالة القضاء التركي أو من عدم تسييسه، فثمة أمثلة كثيرة على إمكانية ان ينقاد القضاء للقرار السياسي، وهذا ليس حكرًا على الساحة التركية، وإنما هو أحد القواسم المشتركة مع الكثير من الدول التي تعتبر نفسها متقدمة، كما أنّ هذا ليس مثلاً يحتذى أو يمتدح.
إلا أنّ هذا المقال يسعى لتقييم ما يجري على الأرض من تحركات وتصريحات لقيادات حزب الشعب الجمهوري المعارض، ومن هي الأطراف الأكثر استفادة في موازين السياسة من قضية إمام أوغلو.
أكرم إمام أوغلو.. مرشح "وحيد" في وجه أردوغان
منذ عدة أشهر أو عقب الانتخابات البلدية، يحاول أوزغور أوزال رئيس حزب الشعب الجمهوري أن يقنع الحزب الحاكم بضرورة الذهاب إلى انتخابات رئاسية مبكرة رغم أنه لم يكن قد مرّ عام على الانتخابات الرئاسية وفوز أردوغان. إلا أنّ ردّ الأخير كان دائمًا بأنه لا داعي للانتخابات المبكرة، وكان يخاطب المعارضة قائلاً: "اذهبوا وابحثوا عن حلول لمشاكلكم الداخلية".
ومنذ مطلع العام، بدأت تظهر مشاكل على خلفية تصريحات متبادلة بين رئيسي بلديتي أنقرة واسطنبول حول عزمهما الترشح للانتخابات الرئاسية المبكرة التي لم يعلن عنها. ولأن الرجلين ينتميان إلى حزب الشعب الجمهوري، عقد أوزال معهما اجتماعًا في نهاية شهر فبراير/ شباط خلص إلى اجراء استفتاء داخل الحزب على أن يفتح باب الترشح للجميع لهذا الاستفتاء.
لكنّ رئيس بلدية أنقرة أعلن حينها أنه غير مستعد لخوض هذا الاستفتاء وأنه لن يتقدم بطلب ليشارك فيه، وأن التسابق على الترشح من الآن ليس منطقيًا طالما أنّ لا بوادر تشير إلى أن الحكومة ستذهب إلى انتخابات رئاسية مبكرة. بيد أن الرجل ذي الأصول القومية المحافظة يدرك أنه لم يندمج بحزب الشعب الجمهوري، وأنّ أنصار الحزب لم يندمجوا معه، وبالتالي فإن التسابق مع إمام أوغلو سيؤدي إلى نتائج شبه محسومة بخسارته، وهو ما سيحرجه مستقبلاً، ولذلك آثر عدم خوض السباق حفظًا لماء الوجه.
وبالفعل، أعلن الحزب يوم 23 مارس/ آذار موعدًا للتصويت داخل الحزب على المرشح الوحيد، أي إمام أوغلو، غير أنّه اصطدم بتسارع ملف شهادة الأخير الجامعية وإصدار جامعة اسطنبول قرارها بعد التشاور مع مجلس التعليم العالي القاضي بإلغاء شهادة إمام أوغلو لعدم شرعية انتقاله إلى جامعة اسطنبول من جامعة بشمال قبرص غير معترف بها من قبل الجامعات التركية حينما كان طالبًا في عام 1991. وعليه فإن إمام أوغلو فقد أحقيته بالترشح إلى الانتخابات الرئاسية القادمة كونه جُرد من شهادته الجامعية، لأن القانون الانتخابي يحتّم على مرشح الرئاسة أن يمتلك على الأقل شهادة جامعية.
وفي اليوم التالي، تمّ توقيف إمام أوغلو برفقة 106 آخرين، بينهم رئيسا بلديتي منطقتي شيشلي وبيليك دوزو، بالإضافة إلى إداريين في بلدية اسطنبول، حيث تتوزّع الملفات والتهم على سبعة عناوين لكن يمكن جمعها في ثلاثة عناوين رئيسية وهي اتهامات تخص الإرهاب ومساعدة التنظيمات ماليًا، واتهامات تخص الفساد، وأخرى تخص الضلوع فيما يعرف بشبكة التوافق الحضري وهي تعني مساعدة حزب مساواة الشعوب والديمقراطية الكردي على التغلغل في نظام البلديات للمدن الغربية لإحداث شبكة موازية لنظام الدولة تعطي حرية التحرك والاستفادة من البلديات بما يخدم مصالح الحكم الذاتي للاكراد.

المستفيدون من قضية أكرم إمام أوغلو
يمكن الحديث عن مجموعة من المستفيدين من الدعاوى القضائية على حزب الشعب الجمهوري، فمن هم؟
- خصوم المعارضة، أي الحزب الحاكم، وعلى رأسه الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يُعَدّ من أهمّ الأطراف المستفيدة من تشرذم المعارضة وتفرق صفوفها والقضاء على المستقبل السياسي لإمام أوغلو، بوصفه الشخص الأوفر حظًا في منافسة أردوغان في الانتخابات، في حال نجح في الترشح ضدّه.
- حزب الشعب الجمهوري نفسه، الذي كسب مظلومية تساعده على جذب الكثير من التضامن والتأييد من مختلف أطياف الشارع التركي إن أحسن تسويقها واستخدامها، في ضوء الشكوك حول تسييس عمل القضاء.
- أوزغور أوزال، الذي كسب حرية السيطرة على الحزب وعدم وجود منافس له أو ظلّ فوق رأسه يحول دون علوه وارتفاع حظوظه داخل الحزب، وتحديدًا أكرم إمام أوغلو، الذي يعتبر أنّه من أوصل أوزال إلى رئاسة الحزب مقابل أن يساعده في الوصول إلى كرسي الرئاسة. ويمتلك إمام أوغلو القوة السياسية والمالية التي تجعله يهدد مكان أوزغور أوزال في رئاسة الحزب في حال خسر الانتخابات الرئاسية المفترضة مستقبلا، وهو الذي ظهر كشخصية متسلطة في الانتخابات البلدية، حين فرض على أوزال مرشحين في العديد من المدن والولايات، وهو ما فجّر خلافات كبيرة في صفوف الحزب، ومن أهمها الخلاف مع رئيس بلدية هتاي السابق لطفي صواش الذي استبعده الحزب من الانتخابات من ثم من الحزب.
- منصور ياواش رئيس بلدية أنقرة وصاحب الطموح بالتقدم إلى الانتخابات الرئاسية، فقد تخلّص الرجل من أكبر منافسيه داخل حزب الشعب الجمهوري بنيران مجانية من أطراف أخرى، وبذلك لن يضطر للترشح مستقلاً، وكذلك لن يحدث انقسامًا في أصوات حزب الشعب الجمهوري، وهذا ما يعطيه أملاً بالفوز إذا ما استطاع أن يرمّم علاقته مع محيطه من التيار القومي الذي تعود أصوله له.
- كمال كليتشدار أوغلو، الذي سيكون سعيدًا بانتهاء الحياة السياسية لأكرم إمام أوغلو، علمًا أن كليتشدار أوغلو يعتبر أنه من صنع إمام أوغلو وأوصله إلى بلدية بيليك دوزو ومن ثم إلى بلدية اسطنبول، قبل أن يتمرد عليه ويتحالف مع أحد قياداته (أوزغور أوزال) للإطاحة به في انتخابات الحزب نهاية عام 2023، وذلك عبر شراء الذمم واستمالة القيادات بالمال ليصوتوا إلى أوزال على حساب إفشاله وإخراجه من قيادة الحزب.
الخاسرون من قضية أكرم إمام أوغلو
أما الخاسرون من قضية أكرم إمام أوغلو، فليسوا بقلّة أيضًا، وهم:
- تركيا بحدّ ذاتها، التي يمكن اعتبارها كبلد، "الخاسر الأول" من هذه القضية، وهو ما تجلّى في الخسارة التي سجّلتها البورصة، فضلاً عن التراجع في قيمة العملة المحلية، واضطرار البنك المركزي لضخ نحو 25 مليار دولار من رصيده الاحتياطي لوقف تدهور سعر الصرف. ويندرج في هذا السياق أيضًا تراجع سمعة القضاء والحريات والديمقراطية في البلاد، في وقت تدعو أنقرة إلى فتح فصول جديدة في ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، في مقابل محاولة أوزغور أوزال تقديم صورة قاتمة لبلاده في تعامله مع الإعلام الأجنبي، حيث يقدم اعتقال إمام أوغلو على أنه اعتقال سياسي لمرشح للانتخابات الرئاسية، بغضّ النظر عن ملفات الفساد المعترف بها من قبل بعض أعضاء حزبه.
- أكرم إمام أوغلو، يُعَد الخاسر الثاني، ولو أنّه حصل على هامش من التضامن والتعاطف، لكن لن يكون لهذه المشاعر أي فائدة سياسية إن لم يخرج إمام أوغلو من السجن بشكل سريع، ويحصل على البراءة من كل التهم، وهذا ضرب من الخيال في ظل وجود نظام قضائي بطيء جدًا، ما يعني أن محاكمته قد تمتدّ لسنوات أسوة بحلفائه وأصدقائه صلاح الدين دميرطاش، وعثمان كافالا وغيرهم.
- حزب الشعب الجمهوري، يُعَدّ أيضًا من الخاسرين، حيث أصبح ضياع البوصلة السياسية للحزب هو عنوان المرحلة، وتصفية الحسابات الداخلية هي إحدى مظاهرها، كما أن الحزب مهدّد بوضعه تحت وصاية الدولة لوجود مخالفات وتجاوزات في انتخابات قيادته في آخر مؤتمر عام عقد نهاية عام 2023.
- أنصار حزب الشعب الجمهوري، هم أيضًا من الخاسرين، باعتبار أنهم يتعرضون لسرقة توجهاتهم السياسية، حيث يتمّ استخدامهم في سياق تحقيق مآرب سياسية شخصية من دون الوصول إلى الهدف الأساسي لهم، فمعظم المحتجّين يرددون شعارارت تريد إسقاط الحكومة، مستذكرين أحداث حديقة غيزي بارك في محاولة للإطاحة بالحكومة حينها. لكنّ ما يجهله الكثير من المحتجين أن أوزال هو أكثر المستفيدين من الإبقاء على إمام أوغلو خلف القضبان الحديدية وأن الرجل ليس بوارد الإطاحة بالحكومة بقدر ما يرغب بتثبيت نفسه في رئاسة الحزب، وأن الرجل يخطب بهم لنحو ساعتين من إحدى المنصات المرتفعة أمام البلدية في إسطنبول ومن ثم يذهب هو ورفاقه كل يوم، ليبقى المجتجون في مواجهة القنابل المسيلة للدموع والاعتقال والضرب من قبل الشرطة، حتى أن الكثير من المحتجين من طلاب الجامعات، وستنعكس الاعتقالات على مستقبلهم الدراسي بشكل كبير، لكن ثمة سياسيون كثر لا يأبهون لمستقبلهم أوحتى لمستقبل بلدهم.
ولعلّ الخطأ الذي وقع به المحتجّون أنّهم جعلوا من شخصية أردوغان ندًا لهم، وبالتالي حاولوا ربط كل شعاراتهم بنديتهم للرئيس، فضلاً عن محاولة النيل منه بالاقتراب من الرموز الدينية أو المقدسات لدى التيار المحافظ، وكان ذلك عبر اعتدائهم على حديقة جامع شاهزاده مقابل مبنى البلدية، حيث يحتجون كل يوم، وذلك من خلال تكسيرهم لشواهد القبور التاريخية في حديقة الجامع، وكذلك تبادلهم لصور شربهم للكحول داخل سور المسجد ذاته، وشتم والدة أردوغان المتوفاة بألفاظ نابية خلال الهتافات الجماعية.
وقد أوقعهم ذلك بفراغ هدفهم أمام كتلة ناخبة كبيرة من التيار المحافظ كانت قد تعاطفت مع إمام أوغلو في بداية اعتقاله، لكن الشتائم وصور الاعتداء على حرمة المسجد جعلت الكثيرين يستعيدون فترة حكم حزب الشعب الجمهوري وتغوّل التيار العلماني على السلطة وممارساته تجاه حرية التيار المحافظ والرموز الدينية، وهذه ستكون فرصة كبيرة لأردوغان لكي يستثمرها لصالحه في أي حملة انتخابية قادمة ليسجل على المعارضة مزيدا من نقاط التفوق، ومزيدًا من تفكيك صفوفهم.
وبهذا يكون حزب الشعب الجمهوري وقيادته كمن يسجل أهدافا على نفسه بدل أن يستثمر في هذه الأزمة ليسجل أهدافا مشروعة على خصومه وليس على صفوفه الداخلية.