نوروز إيران

عبر مترو الأنفاق ينتقل أمير عبر بضع محطات شمال العاصمة الإيرانية ليصل إلى المكان الذي يقصده. هنا تحت الأرض عالم يشبه ذاك الذي بات فوقها. الباعة المتجولون يملؤون المقصورات وعازفو الأغاني المبهجة يختارون لأنفسهم زاوية وسط ازدحام متزايد في آخر أيام السنة الإيرانية. في المترو وجوه عديدة باسرة وقليلة ناضرة. لا أحاديث كثيرة متبادلة. الكلّ غارق في أفكاره. هنا في هذا المترو، اعتقلت السلطات قبل أسابيع عازف الدف الإيراني، خسرو آذربيغ، بعد انتشار مقطع فيديو له في المترو وهو يعزف ويقول: "ثرواتنا تُنهب وتُرسل إلى جيوب بشار الأسد، بينما يعاني شعبنا. جئتُ لأعزف احتجاجًا على ذلك".

يخرج أمير من محطة المترو ويشق طريقه وسط باعة يفترشون الرصيف في شارع شريعتي ببضائعهم المتنوعة وخاصة تلك المرتبطة بسفرة السينات السبع. يصل إلى أحد البازارات التي دعي إليها مع صديقته. هنا زحمة من نوع آخر. شابات وسيدات يقفن أمام بضائعهن أيضًا وقد أرخيت الشالات عن الرؤوس في الغالب، في مشهد بات منتشرًا في طهران ومدن إيرانية عديدة. من الفضاء الافتراضي إلى هذه البازارات نقلن سعهين لكسب بعض المال مستفيدات من خبرات يمتلكنها في مجالات مختلفة. هي فرصة مختلفة أن يكون التواصل مباشرًا مع الزبائن ولو أن الإنستغرام والتلغرام اللذين لا يزالان محجوبين في إيران إلى جانب وسائل تواصل اجتماعي أخرى يوفران مساحة ممتازة لكثير من الأعمال الصغيرة للإيرانيات والإيرانيين.

الأوضاع الاقتصادية في إيران

سواء في المحال أو عند الباعة الجوالين أو في البازارات لا مجال للمفاجأة بالأسعار، رغم السعي لتقديم العروض والتنزيلات بمناسبة النوروز، إلا أن الغلاء بات يتسارع أكثر من السابق والتضخم مرتفع إذ يبلغ بحسب نواب في البرلمان الإيراني ما بين 40 و50%، بينما تقول الحكومة إنه يتراوح بين 20 و25%. ووفق إحصائيات مركز أبحاث البرلمان الإيراني، فإن خط الفقر خلال العام الإيراني المنصرم وصل إلى 11 مليون و214 ألف تومان بعد أن كان العام السابق يبلغ 8 ملايين و356 ألف تومان، والأهم هو أنه في كلا العامين أعلى من الحد الأدنى للأجور المحدد من قبل وزارة العمل.

ودفعت الأوضاع الاقتصادية البرلمان الإيراني عشية رأس السنة الإيرانية لاستجواب وزير الاقتصاد عبد الناصر همتي وسحب الثقة منه وإخراجه من حكومة الرئيس مسعود بزشكيان، و كذلك توجيه "بطاقة صفراء" لوزير العمل الإيراني احمد میدری بعد عدم اقتناع معظم النواب بإجاباته حول تعيينات وتغييرات في عدد من المناصب في الوزارة والشركات التابعة لها، و هذا ما تزامن أيضًا مع اضطرار محمد جواد ظريف لترك منصبه معاونًا للرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية في ظل الضغوط المرتبطة بمخالفته لقانون موظفي المناسب الحساسة بسبب حمل أبنائه للجنسية الأميركية إلى جانب الإيرانية.

شابات وسيدات يقفن في البازارات وقد أرخيت الشالات عن الرؤوس في الغالب - غيتي

ما يشغل بال الشارع الإيراني

بين الإيرانيين لا حديث عن سوريا وتطوراتها، لا ما حصل في الساحل ولا عن توافق الحكومة وقسد، ولا عن خروج إيران منها، ولا عمّا حصل ويحصل في غزة، ولا عن اغتيال حسن نصر الله  ولا عن لبنان ووقف رحلات الطيران بينه وبين ایران، ولا حتى عن العراق ولا عن اليمن أو المناورات العسكرية الإيرانية المستمرة منذ أشهر وعملية الوعد الصادق 3 بعد تبادل إيران وإسرائيل الضربات العسكرية بشكل مباشر، ولا عن مصير الاتفاق النووي والوساطات المرتبطة به ولا عن  عدة جولات مباحثات إيرانية اوروبية أو تلك الإيرانية الروسية الصينية، و لا عن رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورد إيران عليها، ولا أيضا عن التغييرات الحكومية في إيران..

فما يشغل بال الشارع الإيراني ليس سوى الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وجع إيران الذي لم تجد له علاجًا بعد. فالبلد الذي يرزح تحت العقوبات منذ عقود يستعد كما أعلن مسؤولوه لمواجهة موجة جديدة من "الضغوط القصوى" التي يستأنفها دونالد ترمب بعد عودته الى البيت الابيض.

"نحس" أصاب حكومة بزشكيان

عشية النوروز تناقل الإيرانيون مقطع فيديو يتندر على ازدحام الأحداث، من رمضان مرورًا بإحياء ليالي القدر وذكرى شهادة الإمام علي وطقوس الإفطار والسحور وصلاة العيد وصولاً إلى النوروز وعاداته من الاحتفال بآخر اربعاء في السنة باشعال النار و القفز من فوقها مرورا بالجلوس حول سفرة السينات السبع لحظة دخول العام الجديد وصولا الى يوم الطبيعة – آخر أيام عطلة النوروز الذي يخرج فيه الإيرانيون الى الحدائق للتنزه طوال النهار كي لا يصيبهم النحس حسب اعتقادات قديمة.

إلا أنّ هذا النحس يبدو أنه اصاب حكومة بزشكيان، ليس لسقوط بعض أعضائها قبل إتمامها السنة، وإنما لتزامن بدء عملها مع تولي ترمب المسؤولية في الولايات المتحدة، في خضم أحداث متلاحقة في المنطقة. فالرئيس بزشكيان الذي رفع شعار ضرورة التوافق مع الغرب ورفع العقوبات اصطدم بتهديدات ترمب وضغوطه القصوى. وما كاد يؤدي القسم الدستورية رئيسًا لإيران حتى اغتيل اسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية ليتلو ذلك فصول توتر حاولت إيران ضبطه قدر الامكان.

بزشكيان الذي رفع شعار التوافق مع الغرب اصطدم بتهديدات ترمب وضغوطه القصوى - غيتي

الحكومة "لا تفقد الأمل"

لكن رغم الصعوبات لا تفقد الحكومة الإيرانية الأمل. يبدأ بزشكيان بتنفيذ وعوده. يرفع الحجب عن واتس اب، وسط أمل برفع الحجب عن تطبيقات أخرى. يسعى لعدم قطع الحبال مع الغرب بالكامل وعدم إغلاق الباب تمامًا أمام المفاوضات، ولو أنه يقول أيضًا: "إيران لن تتفاوض إلا بعزة وكرامة وليفعل ترمب ما يشاء"، وهذا ما ينهيه المرشد الأعلى بالقول: "لقد جلسنا لسنوات وأجرينا مفاوضات. ثم جاء هذا الشخص نفسه الذي أنهينا المفاوضات معه، وألقى بالاتفاق الموقع والمنجز والمكتمل جانبًا ومزقه، وعندما نعلم أنهم لا يلتزمون، فلماذا نتفاوض معهم؟ لذلك، فإن دعوتهم إلى التفاوض ما هي إلا خدعة لتضليل الرأي العام". يوقف بزشكيان أيضًا تنفيذ قانون الحجاب الذي أثار الجدل اجتماعيًا، إذ جاء بعد ثلاثة أعوام على وفاة مهسا أميني الشابة التي كانت شرطة الأخلاق قد أوقفتها، والاحتجاجات التي تلت ذلك، وسط سعي للمضي بإصلاحات في قطاعات مختلفة.

يواصل بزشكيان سياسات الانفتاح على دول الجوار وتعزيز العلاقات معها. هو خيار استراتيجي، يقول النظام الإيراني. يوقّع اتفاقية استراتيجية مع روسيا بعد أن كانت طهران قد وقّعت اتفاقًا سابقًا مع بكين. خطوات تأمل إيران من خلالها النجاح في إبطال أثر العقوبات أو التخفيف من وطأتها على الأقلّ حتى يتحسن الواقع المعيشي للمواطنين.

لكنّ هذا الواقع لا يبدو في أفضل حال، فما يأمله أمير وصديقته، ومثلهما الكثيرون في إيران، هو أن يتمكنا من المضيّ قدمًا في بناء حياتهما علهما يتمكنان من تأمين منزل مناسب ودخل جيد يمكّنهما في تأسيس أسرة وسط واقع تصرخ به الاحصائيات الرسمية حول تراجع نسب الزواج ومضيّ المجتمع الإيراني نحو الشيخوخة مع ارتفاع معدل الاعمار، وأرقام أخرى عن ارتفاع معدلات الهجرة أيضا..