Skip to main content

من انتشار السلاح وصولًا للانقسام القبلي.. ميراث ثقيل للقذافي في ليبيا

الثلاثاء 21 ديسمبر 2021

حكم الزعيم الراحل معمر القذافي ليبيا لأكثر من 4 عقود متنقلًا بخيمته بين أرجاء العالم قبل أن يُقتل في العام 2011.

وتعود حكاية الخيمة الشهيرة إلى عام 2009 عندما زار القذافي الولايات المتحدة لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد اصطحب حينها خيمته معه لكنه لم يجد مكانًا في نيويورك يستأجره من أجل نصبها.

وفي حينها عاد الزعيم الليبي السابق ووضع خيمته في مزرعة تعود لرجل الأعمال دونالد ترمب (قبل أن يصبح رئيسًا للولايات المتحدة) الذي تفاخر بحصوله على أموال طائلة لقاء تأجير مزرعته للقذافي.

وبعد 10 سنوات، عرض شخص ليبي يدعى مسعود المشاي الخيمة للبيع بعدما حصل عليها من أحد المقربين من القذافي ليصل سعرها إلى 27 ألف دولار. لكن الرجل تراجع عن بيعها وقرر الاحتفاظ بها كجزء من ميراث القذافي.

خيمة القذافي هذه نُصبت في أشهر عواصم العالم. وكانت دعاية متنقلة مثيرة للجدل بعدما تمسك بها القذافي لتظهره كرجل متواضع معتز ببدويته.

ميراث القذافي

وفيما كان يملك ثروة تنافس تلك التي يملكها أغنى أغنياء العالم، قُتل العقيد القذافي وورث الليبيون منه دولة بلا دستور وبلا مؤسسات حاكمة ومن دون انتخابات على مدى نصف قرن.

وقد انقسمت البلاد بين شرق وغرب حيث انتشر السلاح بطريقة خرجت عن السيطرة، وتعرضت شخصيات عسكرية وسياسية للاختطاف والاغتيال. كما انتشرت الميليشيات المسلحة التي ترفض أي وجود لمؤسسات الدولة.

ومن ثم جاء المقاتلون الأجانب دعمًا للفرقاء المتحاربين وبحثًا عن النفوذ والمصالح الاقتصادية، وظهرت المحاولة العشارية للسيطرة على حقول النفط مصدر الثروة الأكبر في البلاد.

وشكلت كل هذه التطورات تجسيدًا للمشهد الليبي بعد القذافي ليصبح بناء الدولة أمرًا في غاية التعقيد. وقبل فض الاشتباك والوقوف على جذور المشكلة الليبية، سارعت الأطراف الدولية للدفع نحو إجراء أول انتخابات رئاسية في تاريخ البلاد.

وكانت البيئة مناسبة لعودة أسماء من ميراث الماضي إلى الواجهة بينهم نجل القذافي، سيف الإسلام الذي ظهر محاولًا استعادة حكم والده. ومع عودته الرمزية للمشهد ظهر السؤال الأهم: "إلى أين تمضي ثورة الليبيين؟ وكيف تأثرت مآلاتها بميراث القذافي الذي راكمه عبر عقود من الحكم؟"

ولم تكن بداية تجسيد إرث القذافي لحظة مقتله في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، بل بدأت لحظة إعلان الزعيم الليبي الراحل البيان رقم واحد.

إلغاء مؤسسات الدولة

ففي الأول من سبتمبر/ أيلول 1969 قاد معمر القذافي الضابط الشاب مع رفاقه انقلابًا عسكريًا غيّر بوصلة ليبيا، حيث انتهى عهد الملكية إلى غير رجعة، وأعاد العقيد تشكيل ليبيا على هواه بعدما ألغى كل مؤسسات الدولة.

وبدأ العهد الجديد من الحكم بنمط لم يعرفه العرب من قبل. فقد حث القذافي الجماهير على "الزحف المقدس" حيث تدلت المشانق. ومنذ اللحظات الأولى، بدا لليبيين أنهم يقفون أمام ديكتاتور حالم وفوضوي لا يتردد في التخلص من كل ما يمكن أن يشكل تهديدًا لطموحه وسلطته.

فبعد أشهر قليلة من الانقلاب، أقام القذافي ندوة فكرية بعنوان "ندوة الفكر الثوري" استمرت لعدة أيام واتسمت بالنقاش الحر، لكن سرعان ما ضاق ذرعًا بالحضور وآرائهم؛ فقبض على كثيرين منهم بتهمة التآمر مع شخصيات تنتمي إلى العهد الملكي. وكانت تلك الخطوة الأولى في عهود الخوف الأربعة التي شكّل فيها الرأي الحر جريمة عقوبتها السجن أو الإعدام.

ومع حلول عام 1973 كانت العلاقات قد توترت بين القذافي وزملائه في مجلس قيادة الثورة، فدعوه للاستقالة معتبرين أن حكم ليبيا لا يتناسب معه. وبدا للضباط أن القذافي استجاب لدعوة التنحي بعدما قال لهم إنه سيلقي بيان استقالته في خطاب جماهيري في مدينة زوارة.

وحينها وقف القذافي أمام الجماهير في المدينة الساحلية، لكنه رفض الاستقالة مطلقًا ما سماه الثورة الثقافية لإنقاذ البلاد من الخونة وأنصار الملك على حد تعبيره. واستندت ثورته على تعطيل القوانين كافة في البلاد وإنهاء الأحزاب السياسية إضافة إلى تطهير البلاد من الشيوعيين والبعثيين والإسلاميين والملحدين.

وأخيرًا، قام بتوزيع الأسلحة على المواطنين وتطهير المؤسسات الإدارية ودعوة الشعب لاحتلال مؤسسات الدولة. ومنذ ذلك الوقت دخلت ليبيا في النفق الذي لم تخرج منه بعد.

فقد غدا حينها القذافي الحاكم الفعلي للبلاد بعدما بسط سيطرته على كل شيء معتمدًا على تأسيس دولة الفرد. ونجح شيئًا فشيئًا في تحجيم دور رفاقه في مجلس قيادة الثورة.

الفوضى تعم ليبيا

وسمى البلاد بالـ"الجماهيرية" قاصدًا بها دولة يسيّرها الشعب بلا حكومة. وحجر الزاوية لرئاسته كان "الكتاب الأخضر" الذي ضم أفكار القذافي ورؤيته حيث كان يتصور من خلاله دولة جديدة ابتدعها في خياله.

وكانت رؤية القذافي عصية عن الفهم، نابعة من خيال شخص يوصف بالذكاء حينًا وبالحمق أحيانًا أخرى. فقد جعل من نظام الحكم في ليبيا أول نظام من هذا النوع في العالم، نسخة فوضوية تفسر الفوضى التي ضربت البلاد بعد الثورة.

وأورث القذافي الليبيين عداوات لا تزال حاضرة حتى اليوم. فمع حلول عام 1978 حضرت أكثر ابتكارات القذافي تأثيرًا على الليبيين حينما أصدر القانون رقم 4 الذي عُرف بقانون "البيت لساكنه والعقار لشاغله".

هذا القانون أدى إلى حرمان عشرات الآلاف من أملاكهم. ففي طرابلس وحدها كانت ثلاثة أرباع المساكن مؤجرة. ولكن بالتزامن مع هذا القانون، دعا القذافي العمال والموظفين إلى الزحف إلى المؤسسات والمصانع والممتلكات الخاصة والسيطرة عليها وتشكيل لجان لإدارتها واقتسام عائداتها تحت شعار "شركاء لا أجراء".

ودبت الفوضى في ليبيا تمامًا كما أرادها القذافي وأذكاها بقراراته الغريبة واحدًا تلو الآخر. ونجح العقيد في تفكيك المؤسسات السياسية والأمنية في البلاد ولم يبق منها إلا ما يدعم انفراده بالسلطة. دولة أمنية قمعية تنشر الخوف في كل مكان.

وعام 2011 ودون انقلاب عسكري، اقتلعت رياح الربيع العربي القذافي وحكمه، لكن آمال التغيير إلى عصر جديد بدت بعيدة المنال. فقد غاب العقد السياسي والاجتماعي الذي تستند إليه البلاد في اللحظات المفصلية.

وبعد الثورة، خيّم وضع معقد على البلاد خاصة في ما يتعلق بالاقتتال الأهلي الطويل الذي أرهق الليبيين لأكثر من 10 سنوات.

وفي غياب الجيش الليبي الوطني، تسيطر فوضى السلاح على نظام الحكم بعد انطلاق الثورة، فوفقًا لتقديرات جهاز الاستخبارات البريطاني، تجاوزت كمية السلاح في ليبيا بعد القذافي مليون طن من الأسلحة المتنوعة أي أنها أكبر من كمية السلاح لدى الجيش البريطاني.

وبحسب تقديرات للأمم المتحدة فإن هناك أكثر من 20 ألف مقاتل أجنبي و10 قواعد عسكرية أجنبية تتواجد في ليبيا، فضلًا عن ارتفاع أعداد الميليشيات الليبية المسلحة إلى نحو 300.

الجيش أولى ضحايا القذافي

وكان الجيش الذي صعد بالقذافي إلى السلطة واحدًا من ضحاياه. فقد كان القذافي قلقًا من الجيش إلى حد كبير ويؤمن بأنه مهد الانقلابات. وصدقت رؤيته وخاصة بعد محاولة الانقلاب التي قام بها الضابط عمر المحيشي رفقة مجموعة صغيرة من ضباط الجيش.

وتشير وثائق المخابرات الأميركية في هذا الإطار، إلى أن خيانة المحيشي أدت إلى وقوع شرخ بين القذافي والجيش. ورد القذافي بإعادة تموضع الوحدات ومخازن الذخيرة الرئيسية من خلال رفع مستوى الشرطة على حساب الجيش، واستبدال جميع المشتبه بعدم ولائهم بأقارب له وأفراد من قبائل منطقته.

وقد أُنهك الجيش الليبي على مدى سنوات طويلة في حروب دون جدوى، أبرزها المشاركة في حرب أوغندا والحرب مع تشاد التي استمرت عقدًا كاملًا وتعرض فيها الجيش الليبي لخسارة وُصفت بالـ"مهينة".

وعقب الهزيمة أعاد القذافي هيكلة جيشه ووجه اهتمامه لإنشاء الكتائب الموالية. ومنذ عام 1987 أصبحت الميليشيات الشعبية أكثر أهمية من الجيش.

صراع بين الثورة والثورة المضادة

وتأسست الكتائب على عقيدة الولاء لشخص القذافي. وكان للولاءات القبلية حضورها في تكوين الألوية. إذ اقتصرت عل قبائل دون الأخرى مما ساهم في توسع الشرخ بين القبائل أكثر فأكثر.

ومع سقوط القذافي صعدت القبائل إلى عالم السياسة والمصالح، وباتت التحركات في ليبيا تحت غطاء الانتماء القبلي وليس الهوية الوطنية. وأصبح وجهاء القبائل وشيوخها من أهم الفاعلين في مرحلة ما بعد الثورة. بحيث إن معظمهم يمسك بالسلاح ويمتلك الكثير من الموارد الاقتصادية وبعضهم يسعى لإعادة إنتاج نظام القذافي مرة أخرى.

وشكّل الصراع بين الثورة والثورة المضادة السمة الأكبر في ليبيا بعد مقتل القذافي. فمع كثافة الدعم الخارجي الذي بدأ في مراحل مبكرة، أجمعت معظم مكونات حلف الثورة المضادة على ضرورة عودة الحكم العسكري من جديد مستندين إلى ميراث لا يزال قائمًا.

 فسعوا إلى إسقاط المؤتمر الوطني وتفكيك كتائب الثوار لينتقل الصراع إلى مستوى الحرب الشاملة، وعلى وقع الدعوة لانتخابات رئاسية متسرعة لم تتهيأ الظرف لإجرائها بعد، الأمر الذي زاد من وتيرة الفوضى.

المصادر:
العربي
شارك القصة