Skip to main content

شاهد للقرن.. مذكّرات مالك بن نبي: "صرخة" من أجل نهضة العالم الإسلامي

الجمعة 10 يونيو 2022

مع مطلع القرن العشرين كان العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه يعيش أحوالاً متدهورة بعد أن تمزق إلى أشلاء ووقعت أغلب بلدانه فريسة للاستعمار.

وبحلول عام 1905 الذي شهد رحيل الإمام محمد عبده، ومن تحت أنقاض الجزائر القابعة تحت الاستعمار الفرنسي آنذاك لأكثر من نصف قرن؛ نهض كاتب انبرى للإجابة عن السؤال المصيري: لماذا تخلّف المسلمون ونهض غيرهم؟

شاهد للقرن

في مقابلة أرشيفية، يقول مالك بن نبي: "لأنني كمؤمن أتكلم كلامًا غير هذا الكلام. كمؤمن أؤمن بأن الله سبحانه سيهيئ السبل لهذه الأمة الإسلامية ويحفظها من كل شيء. أما كرجل يبحث ويدرس القضايا فعليّ أن أحلل القضايا كما أراها بقدر المخطئ والمصيب". 

الأستاذ مالك بن نبي هو منظر الحضارة الإسلامية، كان في القلب من تلك الأعمال شهادته على الأحداث العاصفة في القرن الماضي والتحولات السياسية التي شهدتها الجزائر خلال حقبة الاحتلال الفرنسي والتي تقاطعت مع الكثير من محطات حياته.

وسجل مالك بن نبي خلاصة ما اختلج في نفسه التي أريد لها التحطيم، في شهادة حملت عنوان "مذكرات شاهد للقرن"، ومذكرات أخرى بعنوان "العفن". 

ويقول في مذكراته إنّ "من ولد بالجزائر عام 1905 أتى في فترة يتصل فيها وعيه بالماضي المتمثل في أواخر شهوده. وبالمستقبل المتمثل في أوائل صائغيه.. فكان لي حين ولدت تلك السنة، الحظ الممتاز الذي يتيح لي أن أقوم بدور الشاهد على تلك الحقبة من الزمان". 

ويضيف: "أنا أنتمي إذن إلى الجيل السيء الذي يختم طور التحلل الذي ألمّ بالحضارة الإسلامية ويأذن بعصر جديد يختلط فيه نوعان من العفن: الاستعمار والقابلية للاستعمار".

مرحلة مفصلية

ويشير الأستاذ في جامعة هواري بومدين محمد السعيد مولاي في حديث إلى "العربي" أن مالك بن نبي انتبه لأحداث خطيرة في حياته حيث جاءت مرحلة حياته مفصلية بين مرحلتين: الأولى بقايا عصور الانحطاط والثانية التي تتميز بالاستعمار والقابلية للاستعمار.

ويقول: "كل واحدة منها هو عفن"، فالاستعمار وما خلفه من شقاء والقابلية للاستعمار هي ذلك الخمول الذي يعيق الناس عن المقاومة. 

ومن جهته، يؤكد الباحث محمد بابا عمي لـ"العربي" أن مالك بن نبي شاهد على أمة عاشت العهد الاستعماري ثم خرجت من الاستعمار.

ويقول: "هو هذا النموذج والرجل الذي استطاع أن يعبّر عن عصر كامل من حضارة أمة خرجت من الاستعمار إلى مرحلة القابلية للاستعمار". وتناولت المذكرات العهد الاستعماري حتى عام 1973 أي قبل نحو أسبوع من وفاته، بحسب عمي. 

حكايا طفولة 

منذ نعومة أظفاره تفتحت عين بن نبي على الفظائع التي ارتكبتها فرنسا عندما اجتاحت الجزائر عام 1830، عبر القصص المأساوية التي سمعها من جدة له شهدت تلك الأيام الصعبة وفي أثناء طفولته في مدينة قسنطينة وبالتحديد في نهاية دراسته الثانوية عام 1925. 

وبفضول الطفولة، كان يتطلع إلى الصحف الفرنسية المعروضة، حتى رأى عنوان جرح الضابط البريطاني السردار ونفي سعد زغلول. استأثرت به تفاصيل النبأ وبدأت بذور اهتماماته السياسية في مواجهة الاستعمار تنمو في جوارحه في تلك اللحظة. وكانت مدينة قسنطينة تغلي بالحس الوطني والفكر الإصلاحي فكانت تشهد معركة حامية بين الوطنيين بقيادة الأمير خالد، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري والمستعمرين بقيادة الحاكم الفرنسي للمدينة. 

وفي خضم هذا الصراع وُلدت حركة إصلاحية قادها الإمام عبد الحميد بن باديس أحد أبرز المصلحين في تاريخ الجزائر.

من سخط إلى صدمة حضارية

وفي عام 1925، تخرج مالك بن نبي وقرر الخروج من قسنطينة ليجتاز البحر إلى فرنسا وفي قلبه سخط على الاحتلال الفرنسي. لكن هذا السخط ما لبث أن تحول إلى صدمة حضارية بمجرد وصوله في الأراضي الفرنسية، حيث انكب بن نبي على مطالعة البرامج الجامعية التي اكتشف من خلالها مدة تخلّف المسلمين عن الحضارة، وهي الحقيقة التي جعلته يشعر بإهانة كبيرة. 

ويقول بن نبي في مذكراته: "لم أكن أدري بعد في تلك اللحظة أن إرادة القدر ستخبئ لي الرحلات العديدة على ظهور السفن، ولم أكن بكل حال لأعتقد أنني مجرد عابر يعبر البحر إلى فرنسا بل كان في نفسي أنها رحلة عظيمة كتلك التي قام بها كولومبوس وهو يكتشف العالم الجديد".

ويضيف: "عندما بدأت الجزائر تغيب عن الأفق وجدت نفسي أقول يا أرضًا عقوقًا تطعمين الأجنبي وتتركين أبنائك للجوع إنني لن أعود إليك إن لم تصبحي حرة". 

يشير عمي إلى أن مالك بن نبي لم يسافر بل هرب للدراسة.

ماسينيون يحارب بن نبي

اشتهر المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون بدراسة التصوف ودراسته الضخمة عن الحلاج، لكن بن نبي يقدم عنه تصورًا مختلفًا في مذكراته. فهو يصوره في المذكرات كمتعاون مع سلطات الانتداب الفرنسي. وقد حاول ماسينيون استمالة بن نبي لينضم إلى النخبة الجزائرية المتفرنسة.

لكن مع رفض بن نبي، بدأ في عقابه والتضييق عليه. ولأن ماسينيون كان يدرك خطورة الأفكار، فقد قال بعد نشر بن نبي كتابه "شروط النهضة": "أمّا هذا الكتاب فخطر حقيقي على الاستعمار".

ويقول بن نبي في مذكراته: "عندما أخبرني صديقي برغبة ماسينيون في لقائي كنت أجهل أن جميع الخيوط التي تحرّك عالمنا الصغير كانت بين يديه. لقد كان خفيًا متواريًا كالعنكبوت". ويضيف: "لم أكن أدري ماذا يعني هذا الاسم طوال حياتي وكيف سيؤثر في مصيري ومصير عائلتي". 

ويلفت مولاي إلى أن ماسينيون كان رجل مخابرات في صورة عالم وأديب ومرشد للمثقفين في فرنسا، وقد حارب مالك بن نبي ولم يجد هذا الأخير عملًا في فرنسا وعاش أحلك أيامه. 

العودة وتحطم الأمل

باءت رحلة بن نبي بالفشل ليعود أدراجه إلى قسنطينة ليعمل في محكمة آفلو. وبحلول عام 1928 استقال من وظيفته بعد شجار دار بينه وبين أحد الكتاب الفرنسيين في المحكمة، لكنه بعد عامين عاد إلى فرنسا مملوءًا باليأس والإحباط في رحلة علمية غيّرت مجرى حياته. 

فمن هناك عزم على أن يلتحق بمعهد الدراسات الشرقية، لكن طلبه رُفض"لأنه مسلم ومن الجزائر"، حسبما ذكر في مذكراته، حيث قال: "في ذلك اليوم لم يتحطم فقط أملي بل شعرت أن حلم والدتي ووالدي تحطم أيضًا على صخرة الإرادة المقررة في خفاء لدى الدوائر التي تسهر على المصالح الاستعمارية العليا". 

وقرر بعدها الالتحاق بمعهد الهندسة الكهربائية الذي فتح أمامه الباب على مصراعيه للتعرف على علوم الحضارة الغربية عن كثب. 

"لماذا نحن عرب؟"

أثّرت هذه الحادثة في نفسه وحولته من الاكتفاء بدراسة الهندسة إلى التعمق في بحث أسباب الهزيمة النفسية للأمة.

ويقول بن نبي: "إن ذهابه إلى باريس مكنّه من اكتشاف عقله وحجم الأزمة التي غرق فيها وطنه، وهو الأمر الذي دفعه للبحث سريعًا عن جذوره"، ليجد ضالته في جمعية الطلبة المسلمين في شمال إفريقيا التي ألقى فيها محاضرة حملت عنوان "لماذا نحن عرب؟".

ولاقت المحاضرة إعجاب كثيرين ليذيع صيته بعدها ويصبح حامل عقيدة وحدة شمال إفريقيا. لكن المحاضرة نبّهت الإدارة الفرنسية إلى نشاطه السياسي والفكري وقدمت الشرطة للتحقيق معه بعدها. 

وبحسب عمي، كان بن نبي "يبحث عن الدواء للداء". ومن المحطات المهمة في حياة مالك بن نبي في باريس هو تعرفه على الزعيم مصالي الحاج ومحاولته إحياء حزب نجم شمال إفريقيا. 

وكان ذلك صدى ما جاء من الدعوات التحررية من المشرق العربي حيث كان الأمير شكيب أرسلان لاجئًا في جنيف يواصل الهجوم على الاستعمار على صفحات جريدة الأمة العربية والتي كانت أعدادها تصل إلى الحي اللاتيني في باريس. 

التعرف على باريس

في هذه الفترة تعرّف على باريس وبدأ يعقد المقارنات بين واقع الجزائر وحضارة فرنسا. ويقول في مذكراته: "هذا البون الشاسع بين الجزائر وباريس أذلني كثيرًا و أكثر ما أثار حفيظتي أكثر فأكثر أنني كنت وحيدًا ولم أر طالبًا عربيًا مسلمًا يخاطب هذا العالم من حوله بروح من التأمل". 

حمل مالك بن نبي قلمه معلنًا الحرب على الاستعمار وكل من تعاون معه من النخبة الجزائرية التي يقول "إنها يئست من مستقبل العروبة والإسلام في الجزائر بعد أن فشلت كل الثورات التي قام بها الجزائريون منذ قرن لإخراج الفرنسيين منها".

وفي باريس كانت الإدارة الاستعمارية تسعى لتقسيم طلبة الشمال الإفريقي وتعزل كل جماعة من دولة في مكان مختلف حتى لا يزيد رابط الوحدة بينهم. 

فكرة السفر إلى السعودية

عندما أنهى مالك بن نبي دراسته في فرنسا، وبسبب ميوله الفكرية في ذلك الحين، طمح إلى السفر للسعودية للعمل، لكنه مُنع من دخول مصر لأسباب بيروقراطية. فحاول إقناع ممثلي الملك فاروق بالسماح له بالسفر إلى السعودية عبر مصر فرُفض الطلب مما اضطره للعودة بزوجته إلى فرنسا. 

ويقول بن نبي: "كانت السلطة الفرنسية تعرف كيف تزيد من تأثيرها ومفعولها في الناس بأساليب شيطانية يدركها أولئك الزعماء أنفسهم، لكن قليلًا منهم من التزم خدمته وعاش مأساته يأكل خبزه الأسود ويذوق لسعات القمل الذي يعشعش في أكواخه وبيوته المصنوعة من الصفيح، أما الجزائر الحقيقة وشعبها فهما غريبان عنهما تمامًا". 

بن نبي في السجن

في عام 1940، سقطت باريس في يد قوات ألمانيا النازية فاستشعر مالك بن نبي الخطر، حيث لم يحصل على عمل بسهولة وتجمعت عليه مصاعب الحياة مع قسوة الحصول على قوت يومه. 

ومع جلاء القوات الألمانية عادت القوات الفرنسية واعتقل مالك بن نبي وزوجته وتم التحقيق معهما بشبهة التعاون مع القوات النازية، وهي تجربة أشعرته بالخذلان المرير. 

ومع خروجه من السجن عام 1946 شعر بأنه "حطام ألقى به موج البحر على الشاطئ" على حد تعبيره.

القاهرة و"فكرة الإفريقية الآسيوية"

وبسبب جو الملاحقة الأمنية من المخابرات الفرنسية الذي تعرض له مالك بن نبي في الجزائر؛ قرر في أوائل عام 1956 التوجه إلى القاهرة للمشاركة في الثورات الجزائرية من خلال الكتابة. وأهدى بن نبي كتابه "فكرة الإفريقية الآسيوية" إلى الرئيس جمال عبد الناصر. 

جاء بن نبي إلى القاهرة في النصف الثاني من الخمسينيات وساهم في نشر أفكار عن خطر الاستعمار بما يتجاوز الشعارات السياسية التي انتشرت في العهد الناصري. 

وهناك عمّق من معرفته باللغة العربية ونشر كتبه وتعرّف على الكثير من الشخصيات مثل الأمير عبد الكريم الخطابي.

كما انعقدت الصلة بينه وبين الاستاذ محمود محمد شاكر الذي كتب مقدمة لكتاب بن نبي "الظاهرة القرآنية". 

وتقدم لنا وثائق الأرشيف الأمني الفرنسي صورة عن شخصية مالك بن نبي، حيث تمت مراقبته من قبل الشرطة الفرنسية ومتابعة ما يكتب. وقد عاش بن نبي حياته في قلق وشعور بالمطاردة من الفرنسيين، ولعل تلك الوثائق الأمنية تجعل من هواجسه التي يكتب عنها في يومياته مخاوف حقيقية. 

وتصفه بعض الوثائق الفرنسية بالمتعجرف، في حين توصي تقارير أخرى بالاستفادة منه على صعيد الشمال إفريقيين في فرنسا. جعل ذلك من بن نبي يصف نفسه في مذكراته بالمنبوذ.

العودة إلى الجزائر ومواجهة التهميش

عام 1963 وفي اليوم الذي انتخب أحمد بن بلة رئيسًا لجمهورية الجزائر المستقلة، كان بن نبي ينتظر إشارة لعودته إلى وطنه الذي غاب عنه. ومع العودة جمعه لقاء بالرئيس الجديد وتحدث له عن مشكلة اللغة العربية في الجزائر وعن المعطيات التي خلفها الاستعمار الفرنسي واستمع له الرئيس بإنصات.

وهكذا صار موكب بن نبي في بدايات مسار الاستقلال وواصل الكفاح في جبهة الفكر وميدان الكلمة حيث عيّن مديرًا للتعليم العالي بطموحات عالية في التغيير. 

لكن أمله ما لبث أن تبدد عند أول منعطف حينما واجه إدارة الحكم والقادة الجدد. لذلك استقال من منصبه عام 1967. 

واجه بن نبي خلال حياته التهميش بعد استقلال الجزائر خصوصًا بعد الانقلاب على بن بلة، ليقرر بعد ذلك التفرغ للكتابة والتأليف عن مشكلات الحضارة وهموم الأمتين العربية والإسلامية واحتل الهم الجزائري الحيز الأكبر من كتاباته.

وفي معظم مؤلفاته التي جاوزت العشرات، كان بن نبي يصرخ بأعلى صوته بأن أزمة العالم الإسلامي هي أزمة حضارة وأن لا حل لها إلّا ضمن مشروع إنشاء حضارة إسلامية جديدة ترتكز على القيم الأصيلة للدين.

وعاش مالك بن نبي أيامه الأخيرة في معاناة بعد أن نفدت أمواله ليغادر الحياة في صمت في 31 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973. 

المصادر:
العربي
شارك القصة