يخفي الظلام الذي يحلّ على قلعة العقبة تفاصيل بنائها، بينما تشتعل الأنوار المثبتة على الجدران فتحيي أخيلة عبرت في المكان.
وكثر هم أولئك الذين عبروا، واستقروا، ثم رحلوا. وكثيرة تلك الأطياف التي سجنتها الذاكرة، ومنحها التاريخ إقامة دائمة في الأجنحة والحجرات المقبّبة والواسعة، وداخل السراديب الضيقة والمعتمة.
تحت ضوء الشمس، تلمع حجارة الحصن التاريخي بلونها العاجي، وتغتسل بالضوء قناطر تدلف إلى ماضي المدينة الأردنية، التي عرّجت عليها قوافل الحجاج والتجار ونالت فيها قسطًا من الراحة والحماية.
الجيران الذين يقفون على مسافة من التاريخ، يخرجون من جعبة الذاكرة ما عاشوه أو سمعوه من حكايا القلعة وساكنيها بمن فيهم الوحوش والأشباح، ويردّدون أبياتًا وأهازيج كتبها فرسان قدامى تغنوا بمكانة البناء الضخم قبل مئات السنين.
قلعة العقبة وبخورة العتبة
يبحر عبدالواحد عبدالله، وهو من شيوخ العقبة، بمركبه في بحر مخره من قبله رحالة نزلوا على شواطئ المدينة.
يغنّي بصوته الدافئ "يا قلعة العقبة، يا بخورة العتبة، والمالك الذهب يا قلعة العقبة"، بعد إشارته إلى ما تمتاز به من حيث العمارة.
وعندما تمر الذكرى على القبو القابع تحت بوابتها، يشير إلى ما اعتاد عليه كبار المدينة في أيام رمضان اللاهبة، عندما كانوا يحرصون على الحضور إليه؛ يستظلون بفيئه ويهنأون بقيلولة مستقطعة من وقت الصيام.
يقول عبدالواحد إنه كان يوصلهم بعد أن يهيّئ لهم المكان. ثم يعرّج على جانب آخر من الذاكرة يشير فيه إلى أن من الفلسطينيين الذين أجبرتهم الحرب على ترك ديارهم بعد العام الـ 1948، من لجأ إلى القلعة لبعض الوقت.
ويشرح أن بعضهم غادر المكان في وقت لاحق، وآخرين بقوا وصاروا من أهل المدينة وناسها.
من ناحيته، يقدّم نايف محمد النجادات، وهو أحد جيران قلعة العقبة، رواية يبرز فيها المكان بوصفه منفى. فيلفت إلى أن أحد أمراء المماليك كان قد نُصّب سلطانًا على رعاياه، أُرسل إلى القلعة بعد أن كاد له الأمراء من حوله وانقلبوا عليه.
ويروي أن الرجل تمكن لاحقًا من الفرار إلى القاهرة، غير أنهم تبعوه إلى هناك وتمكنوا من قتله، ثم عيّنوا ابنه علي خلفًا له.
النجادات الذي ينتمي إلى الحويطات، وهي إحدى أقدم قبائل منطقة جنوبي الأردن، يشير إلى الدور المحوري الذي لعبته القلعة في حياة القبيلة وكل من سكن المكان.
ومن الذين سكنوا القلعة، بحسب الجار، رجل لُقّب بـ"حميد فكاك القيد"، وعُرف بقدرته على فك قيود المساجين وتحريرهم من أصفادهم.
ويردف النجادات بالإشارة إلى حكايا أخرى تذكر عددًا من الأولياء الصالحين ممن يحظون بـ "الكرامات"، وهي قدرات قيل إن الله يسّرها لهم لشدة إيمانهم.
عائشة أم الدنانيش
جانب مرعب يشير إليه أحد سكان المدينة. ففيما يستعيد شذرات من طفولته بجوار القلعة ومنطقة الخرايب المحيطة، تلك التي ضمّت بيوتًا من الطين بمحاذاة الأراضي الزراعية كان قد هجرها سكانها، يقول إن من هذه الأجواء الموحشة تناسلت الأساطير.
ويكشف أن ما أرّق ذاكرته من خيالات كان يدفعه إلى سلوك طرقات أطول عند خروجه من بيته لتجنب تلك الأماكن المرعبة، لا سيما ليلًا.
بموجب تلك الأساطير سكنت الجنية عائشة أم الدنانيش أحد سراديب القلعة، كما قيل إنها "غول" بجسد إنسان وحيوان.
أحمد محمد الفيومي، الذي جاوار القلعة أيضًا منذ ولادته عام 1960، يتحدث عن خشية الأهالي من دخول القلعة بسبب تلك الجنية.
ويلفت إلى أن تجاوز رهبة المكان ودخول القلعة كان دليلًا على "الرجولة"، وأنه قام وآخرون بإشعال سعف النخل لإنارة طريقهم إليها.
ويلفت إلى ما درجت النسوة على فعله من حيث دفن الحبل السري لمواليدهم الذكور داخل القلعة، ليصبحوا في الكبر رجالًا أشداء بحسب اعتقادهم.
بدوره، ينقل المؤرخ وجار القلعة عبدالله المنزلاوي عن أحد زوار المكان، وهو الكاتب إحسان النمر، أنه قصدها ليلًا عام 1921، فنهره جندي بعدما ظنّه شبحًا.
ويعزو الرجل ذاك الاعتقاد إلى ما شاع بين الأهالي من اعتقاد بوجود شبح وعفاريت داخل القلعة، لافتًا إلى أن شهادات من جاورها قبل عقود، وتضمّنت سماعهم أصواتًا أو رشقهم بالحجارة، نُسجت حولها الأساطير.
والمنزلاوي الذي يقرّ مع ذلك بارتباط أهالي العقبة الوطيد بالقلعة، يشدد على أنهم تفاخروا بها.
ويشرح في هذا الصدد أنها من أهم القلاع الحجازية الموجودة على درب الحج المصري، ومحطة مهمة من محطات محمل الحج سواء أكان المغاربي أم المصري أو الشامي.
وفيما يوضح أنها استخدمت في البدء خانًا، ثم مقرًا للحاكم وجنوده، وحصنًا للعسكر ومسكنًا للناس، يردف بأن أول من بناها وأنشأها هو الظاهر بيبرس، ليُعاد بناءها بعد ذلك وترمم أكثر من مرة وفي أكثر من عهد.
تجسيد لوحدة الأمة
بدورها، تقول عالمة الآثار سوسن الفاخري إن نقوشًا داخل إحدى الغرف توثّق لتاريخ القلعة، وفيها كتابة بخط الثلث المملوكي يوضح أن الملك سلطان الأشرف قانصو الغوري جدّد بناء القلعة، وأوعز للمعماري خاير بيك العلائي لإنشائها في القرن التاسع الهجري، أي 1510 ميلادي.
وعن الذين سكنوا المكان والمدينة، يعيد المؤرخ والباحث أحمد اليماني أصول عائلات إلى الأقطار العربية. وبينما يقول إن أصوله يمنية، يعتبر أن أهالي العقبة يجسدون وحدة الأمة.