السبت 11 مايو / مايو 2024

أمين الحسيني.. من جدلية الانحياز لألمانيا إلى حرب 1948 ونكبة فلسطين

صاغ أمين الحسيني تجربته في مذكرات استفاض بها تفاصيل فلسطين والعالم العربي والعالم الواسع ساردًا أحداثه ومحاولًا تحليل واقعه - غيتي
صاغ أمين الحسيني تجربته في مذكرات استفاض بها تفاصيل فلسطين والعالم العربي والعالم الواسع ساردًا أحداثه ومحاولًا تحليل واقعه - غيتي
أمين الحسيني.. من جدلية الانحياز لألمانيا إلى حرب 1948 ونكبة فلسطين
أمين الحسيني.. من جدلية الانحياز لألمانيا إلى حرب 1948 ونكبة فلسطين
الخميس 1 يونيو 2023

شارك

يوصف الحاج أمين الحسيني بأنه من أبرز المحنكين في سياسة التعامل مع الدول الكبرى حيث كانت الدول العظمى تسعى للتعاون معه وكسبه إلى صفها كونه لم يقدّم نفسه الممثل الشرعي لفلسطين فحسب، بل متحدثًا باسم القضايا العربية. 

والحسيني هو أحد أشهر وألمع نخبة رجالات فلسطين التي كان لها أثر بالغ في مرحلة مفصلية من تاريخ وطنه. لكنّ السؤال الذي طرح نفسه ومثّل الجدلية الكبرى في حياة الحسيني هو: هل كانت خطواته في الانحياز إلى ألمانيا قرارًا صائبًا، أم تكبّد بسبب اختياره خسارة تاريخية ما زالت فلسطين تدفع ثمنها؟

في مذكراته، يقول الحسيني عن هذه الجدلية: "عندما تصبح فرق الدبابات الألمانية وأسراب الجو واقفة في منحدرات القوقاز، يكون الوقت الملائم لإذاعة التصريح الرسمي لأن ساعة تحرير العرب تكون قد دقّت. إن ألمانيا ليس لها في البلاد العربية أية مطامع إلّا القضاء على القوى التي تحمي اليهودية العالمية". 

ويوضح الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بلال شلش أنّ الحسيني تحوّل إلى "شخصية غير مرغوب بها عربيًا" باعتباره "يمثّل المهزومين"، ويتحدّث عن محاولات من الحركة الصهيونية لاستغلال هذه العلاقات لتعزيز علاقاتها المضادة، في وقت أصبح معظم الرأي العام العربي الرسمي أصبح ضدّه إلى حدّ ما.

لم يقدّم نفسه الممثل الشرعي لفلسطين فحسب، بل متحدثًا باسم القضايا العربية - غيتي
لم يقدّم نفسه الممثل الشرعي لفلسطين فحسب، بل متحدثًا باسم القضايا العربية - غيتي

"جدلية" الانحياز لألمانيا.. هل كانت قرارًا صائبًا؟

كانت ألمانيا النازية وإيطاليا تعتبران محط خلاف للعديد من القادة العرب لاسيما مع دخول قرار تهجير اليهود إلى فلسطين حيز التنفيذ ومحاولة إيطاليا استعمار ليبيا وما ارتكبته من مجازر فيها حيث اعتبروا أن التعاون مع دول المحور النازي والإيطالي خطأ سياسي يكبّد الدول العربية احتلالًا بديلًا للاحتلال البريطاني.

ويشرح الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية عبد الرحمن عبد الغني أنّه عندما حصل اتفاق الترانسفير المشهور بين المؤسسات الصهيونية وبين حكومة ألمانيا، ازدادت الهجرة إلى فلسطين بصورة لم يسبق لها مثيل. ويشير إلى أنّه لم تكن بين الحسيني وبين وزارة الخارجية الألمانية أي اتفاقية رسمية، إنما بيان عام.

عندما تصبح فرق الدبابات الألمانية وأسراب الجو واقفة في منحدرات القوقاز، يكون الوقت الملائم لإذاعة التصريح الرسمي لأن ساعة تحرير العرب تكون قد دقّت. إن ألمانيا ليس لها في البلاد العربية أية مطامع إلّا القضاء على القوى التي تحمي اليهودية العالمية

ويلفت إلى أنّه لم يجد وثيقة واحدة، ولو بشكل غير مباشر، تشير إلى أنّ أجهزة الحكم النازي رأت في الحسيني "شريكًا لها في صراعها ضدّ الحلفاء"، مشدّدًا على وجوب الاعتراف بأنّ الحسيني مثّل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى حدّ بعيد، بغضّ النظر عمّا إذا كان قد نجح في ذلك أم فشل.

من جهته، يعتبر أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية عمرو رياض أنّ المبالغات في اتهام أمين الحسيني بأنّه من أوعز للنازية بعقد معسكرات اليهود، "كلام فارغ ليس له أيّ مبنى تاريخي". ويلفت إلى أنّ هتلر عنده وجهة نظر دونية للعرب، وكان يبرّر التعاون مع الحسيني على أنه شخص قوقازي وليس عربيًا.

هزيمة الألمان ومغادرة الحسيني

وبعد هزيمة الألمان في الحرب، اضطر الحسيني إلى مغادرة ألمانيا متوجهًا إلى سويسرا التي كانت تستقبل اللاجئين السياسيين في ذلك الوقت، ليتفاجأ أن اسمه من بين الممنوعين من اللجوء في سويسرا، مما اضطره إلى التوجه إلى فرنسا.

وهناك قبضت السلطات الفرنسية عليه، وقامت بوضعه تحت الإقامة الجبرية. وعادت المتابعة مرة أخرى إلى المفتي وضغط السلطات البريطانية لاعتقاله. وزاد عليها ضغوطات أميركية تحت ضغوط من اللوبي اليهودي. وهنا اضطر الحسيني إلى المغادرة متوجهًا إلى مصر.

ويقول المؤرخ محمد خالد الأزعر إنّ بريطانيا طالبت بتسليمها الحسيني، لكنّها عجزت عن تقديم دليل ضدّ المفتي، وفي المقابل رأت السلطات الفرنسية أنّ من المعيب تسليمه إلى بريطانيا وهو بريء، ولا سيما أنّهم لم يثبتوا عليه تعاونه بشكل مباشر أو غير مباشر مع النازية. 

بعد هزيمة الألمان في الحرب، اضطر الحسيني إلى مغادرة ألمانيا متوجهًا إلى سويسرا التي كانت تستقبل اللاجئين السياسيين
بعد هزيمة الألمان في الحرب، اضطر الحسيني إلى مغادرة ألمانيا متوجهًا إلى سويسرا التي كانت تستقبل اللاجئين السياسيين - غيتي

العودة إلى العالم العربي من بوابة مصر

وصل الحسيني إلى مصر. وكانت نقطة العودة إلى العالم العربي بعد جولات كبيرة ورحلات شاقة في ظل ما يعصف بفلسطين من توسع كبير في النشاط الاستعماري وبداية للانسحاب البريطاني واستعداد فلسطيني وعربي للدخول في المواجهة المحتدمة، وهناك كان في استقباله الملك فاروق، الذي أبدى تخوفًا كبيرًا من استهدافه من قبل الإنكليز. 

وجاء في مذكرات الحسيني: "في قصر عابدين في 19 يونيو/ حزيران عام 1946، استقبلني الملك فاروق استقبالًا وديًا أعرب فيه عن سروره بلقائي ووجودي بالقاهرة، وأعرب عن قلقه بخروجي من باريس وانقضاء 20 يومًا دون وصولي".

وفي هذا السياق، يرى الباحث عبد الرحمن عبد الغني أنّ رجوع الحسيني إلى مصر واستمرار نشاطه السياسي لم يكن "خطوة صحيحة"، ولا سيما بعد "فشل سياسته". أما بلال شلش، فشير إلى أنّه "لم يكن مستسلمًا لشروط المنصب فقط، فهو سعى إلى تضخيم صلاحياته لخدمة القضية الوطنية في العديد من المحطات".

لماذا دخلت الدول العربية كمنافس للحسيني؟

كانت الجامعة العربية قد أعادت تأليف اللجنة العربية العليا سنة 1946 وتركت منصب رئيسها شاغرًا وأصبح اسمها الجديد الهيئة العربية العليا، فترأسها الحاج أمين وهو في مصر وأعاد تأليفها.

وتوّلت الهيئة العربية قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة من الانتداب البريطاني. ووقفت ضد قرار التقسيم الصادر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1947.

في هذا السياق، يشرح شلش أنّ الدول العربية دخلت كمنافس للحسيني في فلسطين، وأرادت أن يكون نفوذها مباشرًا، وهو ما انعكس على موقف الحسيني في حرب 1948، كما سينعكس لاحقًا على تقييم الناس لأدائه وشخصيته.

في قصر عابدين في 19 يونيو/ حزيران عام 1946، استقبلني الملك فاروق استقبالًا وديًا أعرب فيه عن سروره بلقائي ووجودي بالقاهرة، وأعرب عن قلقه بخروجي من باريس وانقضاء 20 يومًا دون وصولي

فقد عارض الحسيني دخول القوات العربية النظامية وغير النظامية لفلسطين بعد نهاية الانتداب البريطاني عليها للحيلولة دون التقسيم وقيام دولة يهودية عام 1947 و1948. وطالب بمد عرب فلسطين بالمال والسلاح، وألّف قوات جيش الجهاد المقدس من مناضلين محليين بقيادته العليا. وعزم على العودة لفلسطين للإشراف على هذا كله. إلّا أن معارضة حكومتي العراق وشرق الأردن وبريطانيا حالت دون اتفاق الجامعة العربية على هذه الخطة. 

وتوضح المؤرخة والكاتبة في الشأن الفلسطيني عبلة المهتدي أنّ الحسيني فنّد كيف كان التآمر البريطاني مع الصهيونية على الأرض الفلسطينية، وكيف تمّ اللعب على الشعب الفلسطيني حينما قرّر الخروج من فلسطين، بإيهامه بأنّ الهيئة العربية العليا قد دعت إلى خروج الأهالي بعد نشوب الحرب بين العرب واليهود، في حين لم يكن هذا قد حصل.

ويؤكد هذا الأمر أيضًا الباحث عبد الرحمن عبد الغني الذي يصف ما أشيع عن دعوة الحسيني الفلسطينيين إلى النزوح، بأنّه "أقرب إلى الدعاية"، مشيرًا إلى وجود أدبيّات أخرى موثّقة بأنّ الحسيني دعا الفلسطينيين على العكس من ذلك، إلى البقاء في مدنهم وقراهم.

عارض الحسيني دخول القوات العربية النظامية وغير النظامية لفلسطين بعد نهاية الانتداب البريطاني عليها للحيلولة دون التقسيم
عارض الحسيني دخول القوات العربية النظامية وغير النظامية لفلسطين بعد نهاية الانتداب البريطاني عليها للحيلولة دون التقسيم - غيتي

الفدائيون يحكمون الحصار على القدس

ومع البيان الأول للقيادة العليا الذي صدر في 14 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1947، عمّت مواجهة عارمة داخل الأرض الفلسطينية ورجحت كفة الفدائيين وكسبوا العديد من المعارك في القدس وبيت لحم والخليل وأحكموا الحصار على القدس التي كان يستوطن فيها أكثر من مئة ألف يهودي وحوصروا حتى رفعوا الرايات البيض، طالبين الاستسلام.

وحول تلك المرحلة، كتب أمين الحسيني في مذكراته: "كانت المعلومات عن الوضع العسكري تصلنا ليلًا نهارًا وتم إعلامنا أن اليهود في القدس طلبوا الاستسلام فوضعت القيادة العربية الشروط فقبلها اليهود. أولًا: تسليم جميع الأسلحة، وثانيًا: تسليم جميع الرجال أسرى حرب. وثالثًا: تسليم النساء والأطفال لجمعية الصليب الأحمر". 

في هذه اللحظة، بدأ قلق الإنكليز يزداد، وأرسلوا إلى الحكومات العربية مذكرات يعترضون فيها على تسليح الفلسطينيين وأرغموهم على وقف إمدادات السلاح وتوقيف دخول الجيوش العربية. 

وجاء في مذكرات الحسيني: "من دواعي الأسف الشديد أن الفريق طه الهاشمي الذي استدعته الحكومة السورية وعهدت إليه أمر الإشراف على التطوع والتدريب شارك في خطة إقصاء الفلسطينيين عن ميدان المعركة". 

وتحوّلت الحرب إلى سجال بين العرب واليهود مطلع عام 1948. وكانت المنظمات اليهودية والإنكليز قد أمدّوا العصابات اليهودية بالأسلحة الثقيلة التي غيّرت مسار المعارك وإطلاق العنان واليد للهاغاناه لاقتراف المذابح والجرائم ومنع الجيوش العربية من الدخول إلى فلسطين. 

سقوط يافا وعكا

شكّل سقوط يافا في أيدي العصابات اليهودية الصدمة الكبيرة لأهل فلسطين وللمفتي خصوصًا، فكانت من أشد الكوارث التي آلمت النفوس، ولا سيما أنّ يافا كانت عنوان المقاومة وحصنها الأخير وقضّت مضاجع العصابات اليهودية شهورًا طويلة. 

وفي مذكراته، قال الحسيني: "أذكر هذه المناسبة الأليمة وهي سقوط يافا في يد العدو. طلبت من اللجنة العسكرية في سوريا إيضاح الأسباب التي تجعلها تهمل أمر الدفاع عن المدن الثلاث الكبرى: القدس، ويافا، وحيفا. أجابني الفريق طه الهاشمي أن مشروع التقسيم الذي وضعه الإنكليز يقضي بأن تكون يافا من حصة العرب، أما حيفا فستكون ميناء دوليًا. أمّا القدس فليست موقعًا إستراتيجيًا وإذا استولى عليها  اليهود فإننا نستطيع أن نستردها منهم في أي وقت". 

من دواعي الأسف الشديد أن الفريق طه الهاشمي الذي استدعته الحكومة السورية وعهدت إليه أمر الإشراف على التطوع والتدريب شارك في خطة إقصاء الفلسطينيين عن ميدان المعركة

وفي الأسبوع الثاني من شهر مايو/ أيار 1948، اشتد هجوم الهاغاناه على مدينة عكا وكان المقاتلون في عكا قليلي العدد والعدة ويواجهون عدوًا مسلحًا بالأسلحة الثقيلة.

استمرت المعارك 8 أيام بلياليها حتى نفدت ذخيرة المقاتلين وكانوا بانتظار وصول الجيوش العربية. وحلّ يوم 17 مايو/ أيار ولم تصل الجيوش العربية ولا جيوش الإنقاذ. فسقطت عكا صبيحة 18 مايو/ أيار 1948. 

وحول هذه الواقعة، يقول الحاج أمين في مذكراته: "أرسل الضابط أمين عز الدين الذي تسلّم قيادة حماية عكا عدة رسائل إلى مرجعه في جيش الإنقاذ، يشكو فيها سوء الحالة ويطلب إمداده بالرجال والسلاح. ولكنه للأسف يشكو مما لاقاه من الاستهانة من اللجنة العسكرية بدمشق إلى أن سقطت عكا في يد العدو".

احتُلت فلسطين وأعلن قيام دولة إسرائيل وبدأت رحلة اللجوء الفلسطيني ومأساة الشعب الفلسطيني وبقيت المأساة في عقل وقلب المفتي أمين الحسيني، وبدت الصدمة على ملامحه وخطابه وتحميله الجيوش العربية مسؤولية الهزيمة الكبرى.

وقد صاغ الحسيني تجربته في مذكرات استفاض بها تفاصيل فلسطين والعالم العربي والعالم الواسع ساردًا أحداثه ومحاولًا تحليل واقعه ومقدمًا خلاصة تجربته في تلك الدوامة المهمة من تاريخ العالم ما بين عام 1937 حتى عام 1948 أي أثناء الحرب العالمية الثانية. فكتب في أثرها وتأثر العالم العربي وفلسطين بها.


المزيد من الشهادات حول مذكرات أمين الحسيني في جزئها الثاني الذي سلّط الضوء على سيرة كفاحه ضد الاحتلال البريطاني، وصولاً إلى كواليس حرب 1948، ضمن الحلقة المرفقة من "مذكرات".

 

المصادر:
العربي

شارك

Close