العبور إلى المجهول.. خفايا عصابات تهريب البشر من مصر إلى ليبيا
عن طريق عصابات الاتجار بالبشر، ومنها شبكات تنشط من مصر إلى ليبيا، يفرّ المهاجرون غير النظاميين إلى المجهول على الحدود طلبًا لأحلامهم، التي سرعان ما تتحوّل إلى كوابيس تبتلع حياتهم وأسرهم من بعدهم.
لكن على الرغم من قساوة التجربة، ووفق روايات الشهود والمختصين، فإن طوابير الراغبين في الهجرة لا تنتهي وإعلانات صفحات المهربين على وسائل التواصل الاجتماعي لا تتوقف حتى ولو كان ثمن تلك الرحلات هو الموت.
قبل أشهر، أظهرت مشاهد تابعها العالم عملية ترحيل جماعي لمهاجرين غير نظاميين دخلوا إلى ليبيا، وحمل كثر منهم هدف الوصول إلى أوروبا. حينها، قررت السلطات الليبية ترحيلهم سيرًا على الأقدام إلى الحدود المصرية.
كانت الأعداد الكبيرة للمهاجرين صادمة، وعبر عدد كبير منهم في الأساس من مصر إلى ليبيا، من دون أن تتمكن قوات حرس حدود الدولتين من رصدهم.
لكنّ تلك المجموعات لم تكن الأولى من نوعها، لذا عمل "عين المكان" في تحقيقه على رصد عمليات تهريب البشر عبر الحدود المصرية إلى ليبيا، محاولًا الإمساك ببعض خيوطها وأطرافها.
فكانت أسئلة سعى إلى استقاء الإجابات عنها، ومنها: كيف تتم عمليات تهريب البشر من مصر إلى ليبيا، وما هي خيوط هذه الشبكات والطرق التي تتبعها في عمليات التهريب، ولماذا لا تستطيع الجهات الأمنية ضبط هذه العناصر على الرغم من عمل بعضها في العلن؟
تدفق المهاجرين إلى ليبيا
شهدت ليبيا خلال السنوات القليلة الماضية تدفقًا ملحوظًا من المهاجرين الراغبين في العبور إلى الشاطئ الآخر: أوروبا.
وفي ظل غياب الرقابة المحلية والدولية بعد سقوط معمر القذافي عام 2011، باتت عمليات تهريب المهاجرين مهنة العصابات المسلحة، وزادت وتيرة التهريب من دول الجوار، ولا سيما مصر.
في هذا الصدد، يشير تقرير منظمة الهجرة الدولية الذي صدر عام 2022 إلى أن عدد المهاجرين غير النظاميين من مصر إلى ليبيا بلغ 144543 مهاجرًا، لتحتل مصر المرتبة الثانية في قائمة الدول التي يعبر مواطنوها إلى ليبيا بطريقة غير نظامية.
لفهم كيف تبدأ القصة من داخل مصر، وكيف تصل هذه الأعداد الكبيرة إلى الحدود وتجتازها إلى الداخل الليبي، كان لا بد من الوصول إلى أحد المهربين الذين يعملون على الحدود المصرية الليبية.
ولإتمام هذه المهمة غير السهلة، تواصل فريق "العربي" مع أحد الوسطاء لترتيب لقاء مع مهرب، وانتظر رده.
وفي الأثناء، تواصل "العربي" مع عدد كبير من المهربين الموجودين في صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي.
واستطاع أحد أفراد فريق العمل أن يقنع مهربًا يدعى أبو فهد ويقيم في مدينة طبرق الليبية بأنه يرغب في السفر من مصر إلى أوروبا عبر ليبيا بطريقة غير نظامية، فأوضح له المهرب قيمة الرحلة وطريقة السداد.
وكذلك حاول فريق العمل الوصول إلى حالات خاضت هذه التجربة بالطريقة نفسها، فكان الأمر بالغ الصعوبة لأن الحديث حول تفاصيل ما جرى قد يعرّضهم لانتقام المتورطين من أجهزة وعصابات.
شهادة ضحيتين للهجرة غير النظامية
بعد محاولات عدة تمكن فريق "عين المكان" أخيرًا من لقاء اثنين ممن سلكوا طريق الهجرة غير النظامية، وأخفى هويتهما حفاظًا على سلامتهما الشخصية.
وقد روى أحدهما تفاصيل عن ظروفه المعيشية الصعبة التي دفعته إلى سلوك طريق الهجرة غير النظامية.
وبينما قال إنه عاطل عن العمل، تحدث عن الفقر وعن افتقاده لشهادة تعليمية أو خبرة مهنية، مشيرًا في المقابل إلى مسؤولياته إزاء عائلته.
عن طريق فيسبوك تواصل الشاب وبعض أصدقائه مع أحد الأشخاص بعدما اتفقوا على السفر إلى الخارج للعمل، وذكر أن الخطة كانت تقوم على السفر من ليبيا إلى إيطاليا.
وبعدما تم تأمين التكلفة المطلوبة عن كل واحد منهم وهي 150 ألف جنيه، كان الانتقال إلى القاهرة فمنطقة السلوم.
ومن هناك كانت رحلة شهدت وجود مسلحين ومعاملة سيئة تضمنت إهانات وشتائم على ما قال، فضلًا عن احتجاز داخل مخزن مع عدم الحصول على ما يكفي من الطعام.
ضحية أخرى للهجرة غير النظامية تتشابه إلى حد كبير التفاصيل التي قدمتها عن الرحلة مع ما تقدم، حيث ذكر الشاب أنه يرغب مثل غيره من الشبان بالسفر.
وعبر فيسبوك كان التواصل مع من يحقق له هذه الغاية، والذي وعد بوجود كفيل سيساعده في السفر إلى الوجهة التي يختارها.
هو أيضًا دفع المبلغ المطلوب 150 ألف جنيه، ثم كان اللقاء في القاهرة قبل الانتقال إلى السلّوم.
وبينما تحدث عن الرحلة وصولًا إلى الحدود والمسلحين والاحتجاز في مخزن والمعاملة السيئة، أضاف أنه كان من بين من اختاروا عدم المواصلة.
اجتازوا الحدود سيرًا عبر دروب صحراوية
إلى ذلك، حصل "العربي" على أوراق حصرية من محكمة النقض المصرية تعود لإحدى قضايا الهجرة غير النظامية ما بين مصر وليبيا، وتحمل القضية رقم 19238 لعام 2022، والتي بدأ التحقيق فيها عام 2018.
وفي القضية تدين المحكمة المصرية إحدى المجموعات الإجرامية، التي تم تشكيلها للتهريب غير النظامي والاتجار بالبشر.
ووفقًا لأوراق القضية، استقدمت المجموعة شبابًا راغبين في السفر إلى دولة إيطاليا نظير مبلغ مالي.
وقد اعتبرت النيابة - في حيثيات الحكم - أن المتهمين استغلوا حاجة المجني عليهم للسفر إلى دولة إيطاليا لاستقطابهم والتحصل على أموال منهم.
وأوضحت أوراق التحقيقات أن التشكيل العصابي محل القضية نقل المجني عليهم إلى الحدود المصرية الليبية التي اجتازوها سيرًا عبر الدروب الصحراوية، وسلّمهم إلى آخر في طبرق ومنها إلى طرابلس.
وفي الأخيرة، مكث هؤلاء لعدة أيام ثم أُبحر بهم باستخدام مراكب الصيد المطاطية، مما أدى إلى غرقها وأسفر عن فقد ووفاة معظم المهاجرين على متنها.
لكن محكمة النقض اختارت توقيع العقوبة الدنيا بحق المتهمين، الذين تسببوا في وفاة عدد كبير من الضحايا.
ما هي طرق التهريب من مصر إلى ليبيا؟
تسمح الحدود المصرية الليبية، التي تبلغ أكثر من 1000 كلم دون سياج إلا لمسافات قليلة، للمهربين بالتنقل عبر ثغرات صحراوية عدة.
وتشير تقارير للأمم المتحدة ومنظمات معنية بالهجرة غير النظامية إلى تورط قبائل على الجانبين المصري والليبي في عملية التهريب، ويكون دورها تأمين حركة السير على طول الحدود.
وفي ما يخص المسالك، فهناك 3 طرق رئيسية للعبور برًا من مصر إلى ليبيا بشكل غير نظامي:
- الطريق الأول يمتد من منطقة السلوم في الأراضي المصرية إلى منطقتَي البردية وأم سعد داخل الحدود الليبية عبر طرق غير ممهدة.
- الطريق الثاني يمتد من واحة سيوة غربي مصر إلى قرية الجغبوب الليبية لمسافة تقدر بحوالي 120 كلم.
- الطريق الثالث، ويُعد الأصعب، وهو نقطة التقاء للمهاجرين من مصر والسودان عند جبل العوينات في أقصى جنوب مصر، حيث يتم منها نقلهم عبر مهربين تابعين لقبائل ليبية إلى الكفرة جنوبي ليبيا، في مسافة تقدر بـ300 كلم، ومنها إلى شمال شرقي ليبيا.
إلى ذلك، ظهرت في الآونة الأخيرة حالات للتهريب جوًا من مطار برج العرب في مدينة الإسكندرية إلى مطار بنينة في بنغازي.
وتعمل شبكات الاتجار بالبشر داخل مصر وتقوم بترتيب الرحلات من خلال وسائل يسهل على أجهزة الأمن رصدها، لكن عمليات التهريب تستمر على الرغم من ذلك بشكل يومي.
وبالعودة إلى ملف قضية الاتجار بالبشر، ووفقًا للبحث الجنائي، تستلم العصابات الأموال من الضحايا داخل مصر بعد توقيعهم على إيصالات أمانة، بينما يتم دفع الأموال عن طريق حوالات بريدية.
هكذا، يحصل المهربون على أموالهم داخل مصر عبر مندوب لهم يتواصل بكل أريحية مع ذوي الضحايا ويستلم منهم الأموال، من دون أن تتبع أي جهة أمنية مسار المندوب أو الأموال، مما يثير العديد من علامات الاستفهام.
شباب فاقد للأمل يرمي نفسه في البحر
يقول عضو مجلس النواب المصري فريدي البياضي، إنها شبكة منظمة وعصابة على غرار عصابة المخدرات لكن لتهريب البشر.
ويلفت إلى ما تبذله الدولة والجهات الأمنية في مصر من جهود على الأرض بدليل أن الحدود منضبطة وما من قوارب للهجرة غير النظامية تنطلق من مصر وأنه يتم إلقاء القبض على الكثير من الأشخاص. لكنه يشير إلى الحاجة لمزيد من إحكام الأمر.
والبياضي الذي يرى أن الجانب الأمني مهم لكنه ليس كل شيء في معالجة هذه المسألة، يذكر بأن الشباب الذي يرمي نفسه في البحر - مع احتمال كبير بأن يكون مصيره الموت - هو شباب فاقد للأمل.
ويستذكر ما قاله في مجلس النواب، وفيه أن الشاب يرمي نفسه في الماء عندما يتساوى الموت في البحر مع العيش على البر.
من ناحيته، يلفت المحامي محمد حمادة إلى أن الحكومة المصرية حاولت اتخاذ العديد من الإجراءات للحد من الهجرة غير النظامية من خلال التعامل الأمني والاقتصادي وعلى مستوى الوعي.
ويلفت إلى أنه في الآونة الأخيرة، وعلى الرغم من كل الجهود القائمة، لم يتم التوصل إلى منع هذا الأمر.
ويتحدث عن شكاوى عديدة وردت أخيرًا، وأبرزها عن شاب يبلغ من العمر 17 عامًا كان قد سافر إلى ليبيا وانقطعت الأخبار بشأن أحواله ولم يرد أي اتصال منه إلى ذويه.
وفي هذا الصدد، كانت تقارير أشارت إلى اختفاء العشرات ممن عبروا إلى ليبيا.
في العام 2022، أصدرت الحكومة المصرية تعديلًا على أحكام قانون مكافحة الهجرة غير النظامية وتهريب المهاجرين رقم 82 لسنة 2016.
وتضمنت التعديلات تشديد العقوبة على كل من ارتكب جريمة تهريب المهاجرين أو الشروع فيها أو توسط في ذلك، ليعاقب بالسجن المشدد وغرامة لا تقل عن 200 ألف جنيه.
المهرّب يوافق على اللقاء
بالعودة إلى المهرب الذي يعمل على الحدود المصرية الليبية، فقد وافق بعدما تواصل معه وسيط، على تسجيل شهادته لبرنامج "عين المكان" شريطة تغيير صوته.
وقد أكد أن ما من طريق سهل للتهريب، مع وجود بوابات للتفتيش، لافتًا إلى أن أغلب التحركات تكون من طريق العلمين في وسط الجبال مرورًا بمدينة مرسى مطروح وصولًا إلى الحدود الليبية.
وتحدث عن طريق الجيزة وصولًا إلى الجغبوب، التي تعد أقرب نقطة إلى سيوة. وأضاف: هناك يتم احتجاز المهاجرين في أماكن على الحدود بعيدًا عن الأنظار إلى أن تصل السيارات التي ستقلّهم عبر طريق بعيدة عن الأمن.
وقال إن سيارات الدفع الرباعي تلك يكدس فيها المهاجرون، حيث تنقل كل سيارة من 20 إلى 25 شخصًا.
وفي ليبيا يبدأ فصل جديد من فصول المعاناة وتنفتح أمام المهاجرين غير النظاميين بوابة الجحيم.
فوفقًا لتقارير منظمات حقوقية وشهادات ظهرت للعلن في وسائل الإعلام، يجد المهاجرون أنفسهم محتجزين داخل غرف ضيقة يتعرضون فيها لكل أنواع التعذيب كنوع من الضغط عليهم وعلى ذويهم لدفع فدية في مقابل تحريرهم.
وبذلك، تتغير الصورة كليًا من حلم الهجرة إلى أوروبا إلى الرغبة في الخلاص من جحيم المهربين.