الأحد 21 أبريل / أبريل 2024

"حكمدار القاهرة".. المجتمع المصري في مذكرات الإنكليزي توماس راسل

"حكمدار القاهرة".. المجتمع المصري في مذكرات الإنكليزي توماس راسل

Changed

تفتح الحلقة ملفات توماس رسل، الشاب الإنكليزى ابن الأسرة الأرستقراطية الذي قضى 44 سنة في مصر بين أروقة وزارة الداخلية وكان في معظمها رجل الأمن الأول في البلاد
جاء توماس راسل إلى مصر مطلع القرن العشرين، في رحلة قصيرة انتهت بعرض عمل قبله على الفور فتم تعيينه مفتشًا للداخلية، قبل أن يشغل دور "حكمدار القاهرة".

فتحت السنوات التي قضاها الضابط الإنكليزي توماس راسل في الشرطة أمامه الملفات الاجتماعية المغلقة والمسكوت عنها في مصر. 

فقد أُتيح لحكمدار القاهرة الاطلاع على ملامح لم تسجلها لنا الكثير من الكتب، التي أرّخت لتلك الفترة، وهو ما منح مذكراته هذه الأهمية.

عام 1949، ظهرت المذكرات للمرة الأولى في لندن تحت عنوان "في الخدمة المصرية"، وذلك بعد 3 سنوات من إنهائه خدمته في مصر. 

لكن الكتاب، الذي دوّن فيه راسل تجربته التي امتدت 44 سنة وبدأت مع وصوله إلى مصر عام 1902، تأخرت ترجمته لأكثر من نصف قرن قبل أن يصدر في القاهرة تحت عنوان "مذكرات حكمدار القاهرة".

ويصف الباحث في التاريخ مصطفى عبيد، مذكرات راسل التي قام بترجمتها بأنها "مهمة جدًا وشبه نادرة واستثنائية في ما قدمته"، لافتًا إلى أنها بشكل ما أفضل وأهم مذكرات تناولت المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين.

ويشير في الآن عينه إلى أن الجوانب السياسية فيها كانت غامضة قليلًا أو ضئيلة إلى حد كبير.

برأيه كان راسل "رجل الأمن الوحيد في تاريخ مصر، الذي جاب كل أنحائها واطلع على كل نواحي المجتمع". 

ويلفت إلى ما يغلب على المذكرات من "تاريخ اجتماعي بحت، فيه تفاصيل الحياة اليومية للمصريين، والمجتمعات التحتية في البلاد، وطبيعة وسمات الجريمة والمجرمين طوال النصف الأول من القرن العشرين".

وصول راسل إلى مصر

عام 1882 دوّن مدافع الأسطول البريطاني أمام سواحل الإسكندرية، وتدفّق الجنود والسياسيون وبدأ الوافدون الجدد تمهيد الأرض لإقامة طويلة. 

كان تطويع الجهاز الإداري للدولة أول الأهداف السياسية للإنكليز لفرض النفوذ على عموم القطر المصري، عبر حزمة من القوانين الإصلاحية ووضع مفتشين في كل مديرية ووزارة.

ويلفت الباحث في علم الاجتماع السياسي علي الرجال، إلى أن "الاستعمار الإنكليزي أحدث تغييرات واسعة النطاق في مصر، وتحديدًا على مستوى بنية الدولة نفسها"، مشيرًا إلى أن ما أحدثه صحيح أنه كان إصلاحات لكنه يخدم الاستعمار.

ويوضح أن "جهاز الداخلية هو نتاج تطورات كبيرة من عهد محمد علي وربما من عهد الحملة الفرنسية، لكن ما نعرفه اليوم من أجهزة وشكل لتحديث بنية الداخلية هو من نتاج الاستعمار".

الباحث في علم الاجتماع السياسي علي الرجال
الباحث في علم الاجتماع السياسي علي الرجال

نالت الداخلية النصيب الأوفر من الاهتمام والتطوير لأهميتها وعمق امتدادها في المجتمع المصري. وأعاد الإنكليز هيكلة جهاز الشرطة بشكل كامل، وحظر على المصريين الانضمام إلى صفوفه.

وقد كانت معسكرات الشرطة في كل من القاهرة والإسكندرية بوابات العبور للضباط المغامرين، الذين جاؤوا يبحثون عن مجد في المستعمرات الجديدة.

بدوره، جاء توماس راسل، الذي تخرج للتو من جامعة كامبريدج، إلى مصر في رحلة قصيرة انتهت بعرض عمل قبله على الفور، ليتم تعيينه مفتشًا للداخلية عام 1903.

وكتب في مذكراته يصف تجربته بالقول: "لقد كانت على أي حال حياة سعيدة، ولا سيما في السنوات الأولى، عندما كانت الأمور غير معقدة. وعندما كانت مسؤوليات المرء غير كبيرة، قبل أن تتسع لاحقًا بتولي مسؤولية الأمن العام في العاصمة".

وأشار إلى أن السنوات الأولى في الأقاليم منحته كل ما يحتاج إليه الشاب من عمل متنوع ومهم ومغامرة وصيد وحياة منفتحة"، مؤكدًا أن "ذلك يستحق كل تقدير". 

الاغتيالات واندلاع الثورة

هز الشارع السياسي في مصر عام 1910 اغتيال رئيس الوزراء بطرس باشا غالي. وفيما لم تكن الاغتيالات السياسية مألوفة في البلاد قبل مقتله، إلا أنها استمرت لـ14 عامًا تالية.

وشكل الأمر تحديًا جديدًا للشرطة يُضاف إلى الملفات التي سيتولى توماس راسل متابعتها، مع توليه منصب الحكمدارية عام 1918.

وأورد في مذكراته في هذا الصدد، أن الحركة الوطنية في مصر بدأت سنة 1900 للميلاد على يد مصطفى كامل، وحدثت أولى عمليات الاغتيال السياسي سنة 1910، وكان ضحيتها رئيس الوزراء القبطي بطرس باشا غالي".

وأضاف أنه "بين ذلك التاريخ وسنة 1925 جرت عمليتا اغتيال لمسؤولين مصريين وحدثت 14 محاولة اغتيال، من بينها محاولة اغتيال السلطان حسين نفسه سنة 1915، بينما جرت 12 عملية اغتيال و21 محاولة اغتيال لمسؤولين بريطانيين".

إلى ذلك، اندلعت في مصر وقبل أن يتم توماس راسل عامه الأول في منصبه الجديد ثورة لم يكن يتوقعها.

فقد عمت مظاهرات الطلبة في 9 مارس/ آذار 1919 كلًا من القاهرة والإسكندرية، وأطلقت الشرطة النار على المتظاهرين وسقط منهم شهداء.

وفي حين فشلت الشرطة في احتواء الموقف في الأيام الأولى، اضطُر راسل في اليوم الثالث لطلب النجدة من السلطات العسكرية البريطانية.

وبحسب بيان القوات الإنكليزية الرسمي الذي صدر في 12 مارس، سُجل سقوط 6 شهداء و31 جريحًا.

لكن الجمعة التالية في 14 مارس، فتحت مدرعتان إنكليزيتان النار على المصلين في مسجد الحسين ظنًا منهما أنهم سيخرجون للتظاهر، وسقط في هذا اليوم وحده 13 شهيدًا و17 جريحًا.

يصف الباحث في التاريخ مصطفى عبيد مذكرات راسل التي قام بترجمتها بأنها "مهمة جدًا وشبه نادرة واستثنائية".
يصف الباحث في التاريخ مصطفى عبيد مذكرات راسل التي قام بترجمتها بأنها "مهمة جدًا وشبه نادرة واستثنائية".

ويلفت عبيد إلى أن "توماس راسل لم ير أن للمصريين الحق في استقلال مصر، ولم يناقش الأمر أصلًا".

ويضيف أن راسل "وإن كان يعتبر مثل الكثير من الأوروبيين أو الإنكليز في ذلك الوقت أن المصريين شعب طيب، إلا أنه كان يعتقد أنهم يعانون من مشكلات متوارثة تقتضي فكرة الحماية، ونحن دولة الحماية".

ولا يعتذر توماس راسل في مذكراته عن شهداء سقطوا بأسلحة الشرطة التي كان يرأسها، لا في أحداث 1919 ولا حين فتحت الشرطة كبري عباس أثناء مرور المظاهرة فوقه عام 1935 ليسقط من المتظاهرين 4 شهداء.

وتكرّرت الحادثة نفسها وعلى الجسر نفسه عام 1947، أي في آخر أعوام خدمة راسل في مصر. وتلك أحداث تجاوزها الحكمدار من دون أي إشارة أو اعتذار.

ويعتبر الباحث في علم الاجتماع السياسي علي الرجال أن "الاستعمار الإنكليزي استغل الشرطة المصرية بشكل واسع النطاق لقمع أي تحركات أو انتفاضات ضده". 

وذكر في هذا المجال بأن أول ما تم استهدافه في ثورة 1919 كان أكشاك البوليس.

قراءة راسل لأسباب الثورة

خلال السنوات التي أعقبت ثورة 1919، اهتم راسل بتطوير أداء جهاز الشرطة والاستعانة بتقنيات جديدة في البحث، حتى كانت حادثة اغتيال السردار الانكليزي وحاكم السودان العام السير ليستاك عام 1924.

استعان راسل في هذه الحادثة بـ"قصّاصي الأثر"، وجمعت الشرطة أدلة متناثرة يعود بعضها لأحداث وقعت قبل مقتل السردار بست سنوات. وكانت النتيجة فك لغز الاغتيال والقبض على الفدائيين الذين نفذوا العملية.

انتهت جولة من جولات المعركة بين الفدائيين والشرطة لصالح الأخيرة. وكان القمع فيها هو السلاح الرئيس ليهدأ الشارع المصري بعد هذا التاريخ لأكثر من عقد من الزمان.

ويقدّم راسل في مذكراته قراءته الخاصة لأسباب الثورة، فالأعباء التي ألقيت على كاهل الفلاحين وإجبارهم على الالتحاق بالجيش والحرب خارج البلاد والاستيلاء على دوابهم لنقل المؤن للجنود كانت في نظره هي الدوافع الحقيقية للثورة.

وبالرغم من أن جميع هذه الأعباء كانت بقرارات إنكليزية، إلا أن راسل لم يلق التبعة على حكومته، بل حمّلها للجانب المصري الموكل بتطبيق قرارات الاحتلال، الذي استخدم طرقًا غير ملائمة.

أورد راسل في مذكراته ما نصه: "بعد أن اشتعلت الحرب، وجد الفلاح نفسه مطالبًا بأمور أكثر وأكثر مما كان يتصور لأسباب لم يتقبلها".

وأردف: "في البداية طلب منه التطوع في العمل إلى جوار القوات البريطانية، وعندما رفض المصريون تم إجبارهم من خلال العمدة والمأمور وجرى إبعاد الفلاح عن أسرته وضد رغبته ليذهب إلى مكان صعب وخطر".

يُذكر أن راسل أسّس "فرقة السواري" وأولاها عنايته، حيث ضمت صفوة رجال الشرطة الذين كان يفخر بهم، حتى أنه أرسلها لحضور استعراض الفرسان عام 1934 أمام الملك جورج الخامس في قصر بكنغهام. وظهر دور "السواري" بارزًا في مقاومة الاضطرابات التي حدثت في القاهرة.

جريمة ومخدرات وتفاوت طبقي

في ما يخصّ الجريمة، جاء في مذكرات حكمدار القاهرة: "يبدو الفلاح المصري وقد التقيت أحدهم خلال جولاتي في قرى مصر وحقولها شخصًا مسالمًا يحترم القانون ويعمل بجدية ولديه إحساس عظيم بالفكاهة، وآخر شيء يمكن أن تتهمه به هو أن يكون مجرمًا".

وأضاف راسل في كتابه: "بعد أيام قليلة من الإقامة في الريف، يمكن اكتشاف مدى تعقد الشخصية الهادئة المسالمة التي قد تتحول في لمح البصر إلى قاتلة"، لافتًا إلى أن "كثيرًا من هؤلاء القتلة هم نتاج للثأر وهي عادة لا يمكن لأحد التهرب منها".

وقد اعتمد راسل في شهادته حول معدلات القتل في مصر إلى إحصائيات عام 1947، التي سجلت نحو 7900 جريمة مختلفة بين عامَي 1940 و1944؛ 2957 منها فقط كانت جريمة قتل أو شروع في القتل، أي بمعدل جريمتي قتل يوميًا في بلد يبلغ عدد سكانه 15 مليون نسمة.

إلى ذلك، تحدث راسل عن انقسام الطبقات الاجتماعية في مصر في تلك الفترة، واصفًا إياه بالحاد.

وقال إن الملاك كانوا يختارون المدن لسكناها من دون أن يلتفت أحد لرفع جودة الحياة في القرى التي يعمل فيها المزارعون. 

وأشار إلى أن الفقر يخيم على حياة الريف، إضافة إلى ضعف الرعاية الصحية وانتشار أمراض هددت قوة العمل في البلاد مثل البلهارسيا.

وعن المخدرات كتب: "كانت القرى السعيدة والهادئة التي أفتش عليها مليئة بالمخدرات ولم تُتخذ إجراءات رادعة لمنع ذلك. وعندما جمعت أرقامًا موثوقة تمكنت من الحصول عليها ومقارنتها بإجمالي عدد السكان، أدركت أن هؤلاء قد أصبحوا الآن عبيدًا لإدمان المخدرات، وهم العمود الفقري للأرض وأدركت أن هناك عملًا يجدر القيام به".

وكانت تقارير وزارة الصحة عام 1927 التي أوردها راسل تفيد بأن نحو 6 ملايين من أصل 14 مليون، أو عدد سكان مصر آنذاك، قد جربوا الهيرويين أو الكوكايين. 

وكانت الأرباح الكبيرة لتجارة الهيرويين مطلع العشرينيات من القرن الماضي تغري التجار؛ فما يكلف إنتاجه في أوروبا 10 جنيهات يباع في مصر بـ120 جنيهًا. ولم تكن عقوبة ذلك تتجاوز أسبوع سجن وغرامة مالية صغيرة.

وفي هذا المجال، يتتبع كتاب مذكرات حكمدار القاهرة وباستفاضة رحلة المخدرات في مصر، والتطور التشريعي والجهد الأمني في مواجهتها، والذي توّج بتأسيس مكتب خاص لجرائم المخدرات عام 1929، وهو ما عرف لاحقًا بمكتب مكافحة المخدرات.

المزيد عن ذلك الكتاب وما شهدته تلك الحقبة، فضلًا عمّا أورده راسل عن البغاء وأشهر القوادين في مصر، في الحلقة المرفقة من مذكرات.  


المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close